24-11-2024 10:58 AM بتوقيت القدس المحتلة

«داعش» ينبئ بعودة الديناصور

«داعش» ينبئ بعودة الديناصور

قال الأستاذ، قد لا ينطبق هذا على كل النص الديني، بل على بعضه، الذي كان، على مرّ التاريخ، مصدراً لتأويلات جيدة أحياناً وتأويلات سيئة أحياناً. تم لفظ قوله الذي حفظه عن الإمام علي، النص وحده أخرس..

I ـ اميل حبيبي: ستبلغون الدناصير

«كان من سبقكم يبني فوق من سبقهم، حتى جاء جيل الأثريين (السلفيون بنسبة ما) يحفرون من تحت ويهدمون من فوق، فإذا سرتم على هذا المنوال ستبلغون الدناصير».

نصري الصايغ/ جريدة السفير

«داعش» ينبئ بعودة الديناصورعلى اميل حبيبي أن يطمئن «سعيد أبي النحس المتشائل»، أن حفاري الماضي، قد بلغوا الديناصير، وقد استحضروها معهم، وهي حية ترزق، لتعميم العدم الإنساني.

نجح «الفكر» السلفي في بلوغ المنتهى البربري. اكتشافاته المريعة، حطت عند قارة الدين. حذفت الرسالة وأقصت الروح والتصقت بالتقليد المتداعي، فأعادت تحصينه بنصوص منتقاة وأحاديث منقولة من «حدثني فلان عن فلان عن فلان... قال»، وأحداث مصطفاة، يعاد وصفها وتقليدها وتزويدها بإضافات مرعبة: قتلاً وذبحاً وحرقاً وتدميراً وسبياً وبربرية.

لم يولد جيل الديناصورات من عدم. «القاعدة» وأخواتها، في القارة الإسلامية المنتشرة بين مليار وستمئة مليون مؤمن، لم تولد من عدم، حُبِلَ بها، في اللحظة التي قرر فيها «الفكر» السلفي، أن يستعيد الأسلاف، ليكونوا الأيقونة والقدوة، وليصبحوا «قادة الوحي» ومفسري النص ومسيّري الاحداث.

لقد بلغت «القاعدة» وشقيقاتها في العراق وسوريا وباكستان وأفغانستان وسيناء وليبيا والصومال و»بوكو حرام»، تمامية الاتصال بالسلف، وتمامية وصل القول بالفعل، وإقامة الحد بالسيفين، سيف النص وسيف الفعل.

مَن سبقنا كان يبني فوق ما بني سابقاً. ومن جاءنا حديثاً، متغوِّلاً ومفزعاً، جاء ليهدم كل ما بني على «ضلال وكفر» ليعيد تأسيس الوثن الجديد. وثن التقليد، المضاد للحياة والتاريخ والروح. عند السلفية، توقف التاريخ عند السلف الصالح (مختلف عليه مَن يكون؟) والمطلوب حذف التاريخ العربي الذي سار وفق منطق الحياة في تدفقها وإبداعها. والتي أنتجت حضارة عربية مذهلة، سبَّاقة في مجالات الروح والفكر والإبداع والتنوير والعقل.

السلفية، في تحديد «مفكريها»، هي «علم الاقتداء بالسلف من الصحابة والتابعين من أهل القرون الثلاثة الأولى وكل من تبعهم من الأئمة، كالأئمة الأربعة وسفيان النوري وسفيان بن عينة والبخاري ومسلم وسائر أصحاب السنن ويشمل شيوخ الإسلام المحافظين على طريقة الأوائل، (إبن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب) الذي كان لهم اثر واضح في تنقية مفاهيم الإسلام ودفعه إلى الأمام لمواجهة الحضارة والتطور الخ».

من هذا الجذر، التاريخي، وفق نهج السلفية، «استمدّت حضارة المسلمين أصولها ومقوماتها ممثلة في العقيدة خضوعاً للتوحيد وتنفيذاً لقواعد الشريعة الإلهية بجوانبها المتعددة... والسلفية تعني الاقتداء بالرسول، فالسيرة النبوية حية في كيان المسلم. وكل جيل مطالب بتنفيذ وتطبيق الشريعة الإسلامية على طول الزمن».

الحركة السلفية أساس الفكر الداعشي«السلفية» هي النقاء المفترض، وهي التشبث بالأصل وفروعه اللازمة عنه والملتصقة به، حذو الحرف بالحرف، ولذا هي تصوِّب سهامها إلى الفرق المنشقة عن الصراط المستقيم، مثل الخوارج والشيعة والمعتزلة والصوفية المنحرفين والفلاسفة، إضافة إلى الإسماعيلية والباطنية والقاديانية والعلوية.

المثال هو السلف. القدوة هي السلف، المسار على خطى السلف، المستقبل، هو الماضي بعد تنقيته من كل ما لا يمت إلى السلف... السلف هو الصنم المعبود. منه الوحي ومنه طمأنينة النفس، حتى في ارتكابها لعظائم الأمور، قتلاً وذبحاً وتدميراً.

أصول «القاعدة» ومشتقاتها المرعبة، جاءت من هذا التأسيس الانتقائي، لنهج قضى بتعطيل مسيرة الحياة، لمصلحة جمود النص وانحسار الفهم. لقد بلغنا الكارثة.

II ـ الدين كما تريدونه

يقف الأستاذ أمام طلابه، وقد اختلفوا في أمور الإسلام وشؤون الدين. النقاش متطرف، بين أصوليين وسلفيين وبين متفلتين وأحرار وبين مَن هم في الوسط، وبين علمانيين وملحدين... المناخ الديني طاغٍ. كل يدّعي العصمة، لوضع الأمور في نصابها،.. يقف الأستاذ صامتاً، مرخياً الكلام ليذهب إلى نهايته. يطول صمت الأستاذ بعد صمت الطلاب. لم يكن يرغب في الكلام، وسط حرائق المواقف المتعصبة.

قرر أن يفتح ثغرة في جدار الحوار، ليأخذهم إلى فضاء أكثر حرية وليكون النقاش أقل حدة. قال: «لا وجود لحقائق بل لتأويلات» (أخفى الأستاذ مرجعه). وقال: «النص لا ينقل الوقائع، فهو تأويل أول للواقع». ثم قال: «لم تعد النصوص القديمة بشكلها القديم مقبولة كما هي. استشهد بفيلسوف قديم هو فيلون الاسكندري، قال: «لقد فسر فيلون القصص التاريخية الحرفية في التوراة على انها نماذج روحانية... وهذا يفضي إلى النتيجة التالية، عندما يصبح النص ملتبساً أو غير مقبول بحرفيته، يؤوَّل. والتأويل هنا، هو إماطة عن المعنى الحقيقي»، واستشهد الأستاذ بسوزان سونتاغ، التي ترى أن التأويل سببه ورع إزاء المقدس، لذا يعمل التأويل على إقامة معنى فوق المعنى الحرفي. بمعنى، أن الحرف يتراجع والنص يتقهقر، لمصلحة الفهم التاريخي.

النص بذاته، يجفّ أحياناً. تضخ فيه الحياة، عبر ما يكتشف فيه من نص تحتي، وهو النص الحقيقي، المولود من زواج الحرف القديم والفهم المتجدّد. «فالتأويل فعل تحريري من الجمود، وهو وسيلة للمراجعة وتناقل للقيم والهروب من الماضي وقد تجمّد، بعدما قام بوظيفته».

قال الأستاذ، قد لا ينطبق هذا على كل النص الديني، بل على بعضه، الذي كان، على مرّ التاريخ، مصدراً لتأويلات جيدة أحياناً وتأويلات سيئة أحياناً. تم لفظ قوله الذي حفظه عن الإمام علي، النص وحده أخرس. ينطقه الرجال، والرجال عقول وأهواء ومصالح وتيارات وثقافات...

النص والسلف ليسا صنمين، بل هما مصدر للتأويل. والتأويل ليس مقيداً، لأن الحرية شرط إنساني، والعقل حر في قراءاته.

قطع الأستاذ «الروبيكون» وقرر أن الوقت حان لإلقاء فتنة العقل المتحرر من القيود والسلف. قال الأستاذ لطلابه، «إن شئتم ان يكون الدين تقدمياً، فسيكون. وإن شئتموه اشتراكياً فسيكون، وإن رغبتم به رأسماليا، فسيكون، وإن احببتم ان يكون ملكياً، فسيكون، وان شئتم ان يكون ديموقراطياً فسيكون، وان شئتم أن يكون سنيا أو شيعيا أو بروتستانتيا أو كاثوليكيا أو علويا أو... فسيكون. النص مفارق مما حيث كونه حروفا ولغة. لكل قراءة معناها. العقل هو الذي يفتي بهذا وبذاك وبضدهما.

النص محايد، والعقل منحاز. وانحيازات العقل هي التي أعطت الحياة خصبها وتعددها وحريتها وتقدمها. الدين ليس قطاراً يأخذنا الى مبتغاه. الدين هو سفر حر من إلى.

وهذا النهج ينطبق على العقائد السياسية والفلسفية. الماركسية ليست الماركسيين. الهيغلية ليست الهيغليين. الخ... فالدين هو أنتم، فاتبعوه كما ترغبون. المؤسسات الدينية ليست حتمية ولا ضرورية.

الدين، إذا كان قيداً، أنتج عبيداً وتعصباً. أما إذا كان فعلاً حراً وخياراً متسامحاً، فهو ألق وروح وارتقاء. «لقد أورد الكواكبي 86 عاملا دينيا وسياسيا واخلاقيا في أسباب تردي السلطنة العثمانية»، وشدد على ضلالة اكيدة، فأشار إلى «توهُّم ان علم الدين قائم في العمائم». ولو أردنا ان نعدد أسباب انهيار البلدان العربية واجتياحات الفكر التكفيري، لأعدنا تعداد الأسباب ذاتها التي أوردها الكواكبي. فمن هم خارج الدين، تديّنوا بالمادة والربح والاغتصاب والاستعمار والاستبداد والاستملاك، وحرموا الناس حريتهم ومنعوا عنهم الخبز والكرامة والحياة.انتهى فصل الأستاذ. والسلفيون لم يرضوا بهذا التفسير.

III ـ أرسطو: نحن على خطأ

يقول ارسطو في «فن الشعر»، «إن التراجيديا تكشف عما هو كلي بحق في التجربة البشرية، حيث إننا جميعاً نعاني نوعاً ما من الخطأ او الضعف، ما يؤدي إلى تعاستنا، وفي هذا الصدد، تكون الشخصية التراجيدية إنساناً مثلنا».

مجرمو داعشرائع هذا الاكتشاف المزمن، للإنسان الحق في الخطأ. لأنه ما من خطأ كياني وضعف وجودي. الأصل الإنساني يحتمل فضيلة الخطأ. الله وحده يُنسب إليه الكمال. اكتشاف أخطائنا فضيلة، وعليه، فكل ما بناه الإنسان، لم يكن كاملاً. التاريخ مثقل بالأخطاء والكوارث. لم تمنع الديانات والعقائد أي جنس بشري، ان يرتكب الحماقات والأخطاء. ولكنه، في مساره، كان يكتشف ان شرطه الإنساني يتحقق بمقدار ما يجسد في حياته، جزءاً من طموحه ويطبع شخصيته في بيئته.

فمن سبقنا، كان يبني فوق ما بُني سابقاً. ما بُني لم يكن كاملاً، ولكنه كان جزءاً من تراث وحضارة وإبداع. لا مخلوقات كاملة من أناس يتأسس جوهر وجودهم على النقصان. لقد كان ارسطو على حق. هذا النقصان العربي الحضاري، كان متقدماً ومهيباً ومؤثراً وإنسانياً. بالطبع، لم يكن كله دين.

بل جلّه جاء من خارجه، متسقاً معه أو مضيفاً إليه أو ممانعاً له أو نقيضاً ضده، تلك هي طبائع الحضارات التي تبني على ما سبق... الظلاميون، ينكرون التاريخ، يعودون إلى النبع، ليصحّحوا مجاريه وانعطافاته وانحناءات مائه ودورانه في طبيعة متعرجة... الظلاميون يستضيئون بحرف ونص يناسب رغبتهم في جعل ما أُنجز عبر التاريخ عدماً ملعوناً. يعسكرون في النص، وينصبون الخيام حوله، ويسنون الرماح والسلاح، لتطبيق نص لم يفلح الأوائل في التقيّد به... ولن يفلح فيه أحد.

لقد بلغنا حقبة الديناصورات. ها هي بيننا. نتوقع الديناصورات إعادتنا إلى جاهلية الدين. حيث النص سيف، وحيث الحديث حدّ، وحيث «الصحابة» قوامون على التجربة البشرية.

في الأفق الراهن، امكان اعدام لما خلفه العرب والإسلام المتفوق روحاً وإبداعاً وعمراناً. في الأفق الراهن، عملية مستحيلة، ولكنها في طريقها إلى تحقيق المستحيل، ستحيل العرب ركاماً.

لا يكفي البكاء. المراثي ليست مجدية. لعلنا نحلم عندما نقول ونطالب بتحرير الدين من رجالاته وملوكه وبترودولاراته. وإعادة الدين إلى نصاب الروح، وإجراء عملية فصل بين رجال الدين والسياسة والسلطة، تجربتهم في السياسة والدولة والسلطة فضيحة. لا يكفي التمني وتقديم الاقتراحات. العسكرة ليست حلاً. العنف ليس طريقاً. النبذ ليس مفلحاً.

لعل سؤال ما العمل، قد تأخر كثيراً، وفات أوانه. لأن اسياد الفعل اليوم، هم أمراء الظلام وملوك البترودولار، وعساكر مدربون على تطويع الشعب.

أمام اللاشيء، لا بد من ممارسة الصراخ، فهو أفضل من الموت.

موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه