كان همّ الغزاة على طول العصور أن يحرموا الأمة الإسلامية من اتصالها بأي نوع من أنواع العلوم والمعرفة.. إما بحرق الكتب أو بإغراقها في الأنهار أو بسرقتها إلى جانب تدمير أهم الأثار العمرانية.. حتى تفرغ الأمة من كل ما هو ثمين
يقال بأن ما دفع "التتار" إلى تدمير العديد من البنى العمرانية المزدهرة وحرق مكتبة بغداد العظيمة في العام 1258 إثر الغزو المغولي، والتي عرفت بأنها الأعظم في تلك الحقبة التاريخية، والتي تعود إلى أول العصر العباسي، كان الحقد الأعمى على كل ما هو حضاري في بلاد المسلمين.
زينب الطحان/ موقع المنار
إذ إن التتار كانوا "أمة هجينة" تنحو باتجاه قوة عسكرية، مقفرة من خلفية حضارية وثقافية.. بينما كان تاريخ العرب والمسلمين حافل بعشرات الآلاف من العلماء الأجلاء في كافة فروع العلم الديني منها والدنيوي.. لقد أثرى هؤلاء العلماء الحضارة الإسلامية بملايين المصنّفات.. هل ما يحدث اليوم يشبه الأمس البعيد؟!..
إن فعلها "المغول" فلأنهم كانوا قوما جاهلين بالمعرفة وبمشقة تحصيلها، ولكن إن يفعلها اليوم من يعدّون أنفسهم من أبناء "أمة الإسلام" نفسه، لهي عار وفعل مشين، وما يثير في القلب غصّة تحفر فينا ندوباً عميقة أنهم ينسبون فعلهم الهمجي هذا إلى تعاليم الإسلام ..!..بدعوى أنها أصنام تعبد من دون الله ويجب تدميرها.. ولكن ماذا بخصوص حرق الكتب والمكتبات!.. تثبت المعطيات والأحداث أنها عملية تضليل كبرى باسم الدين لمآرب نفعية أقل ما يقال فيها إنها تعمل لصالح العدو الإسرائيلي..
"منحولاتهم" الفقهية :
من نافل القول إن هؤلاء "البرابرة الجدد" يسوقون أحاديث ينسبونها إلى زمن النبوة الشريفة. ومن الأحاديث التي يتمسّكون بها وينسب للرسول الأعظم (ص) :"خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"، يحتجّون به واصفين الحضارة الخاصة بكل بلد بالكفر والبدعة داعين إلى طمسها.
وبجانب تلك الأحاديث تخرج بعض الفتاوى من عدد من المتطرفين مثل التبريرات التي تدعو إلى هدم كافة الأثار خوفا من تحولها إلى أصنام، فيما دعا البعض الآخر إلى أن ما يعبد من دون الله يجب هدمه.
التاريخ يشهد :
* وفي رد إعلامي على هذه التأويلات المغرضة، وإن لم يكن مدروساً بما يكفي، خرجت أصوات من علماء من مؤسسات دينية مرموقة، مثل الدكتور شوقي عبد اللطيف وكيل وزارة الأوقاف المصرية، الذي بيّن أن ما يدّعونه من أحاديث إنما هي ضعيفة السند ولا يؤخذ بها يؤكدها تحقيق كل العلماء الفقهاء في المذاهب الأربعة. أما بخصوص حديث "كل بدعة ضلالة" يقول عضو مجمع البحوث الإسلامية الدكتور محمد الشحات :" إن استخدام حديث كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار هو حديث صحيح ولكن استخدامه في الدين فقط والقصد به التحديثات في الثوابت الدينية كالصلاة أو الصيام أما في ما عدا ذلك فهي خاضعة للتجديد دوما".
وأضاف الشحات، أن تلك الجماعات ترتكز إلى أحاديث بعينها وتأولها تأويلاً خاطئاً والدليل أن الصحابة حكموا العالم العربي ولم يهدموا معبدا أو متحفا بل إن متحف نينوي الذي تمّ هدمه كان موجودا أيام سعد بن أبي وقاص وهو حاكم العراق ولم يمسه بسوء". وقال عن الملكية التي تدعيها الجماعات ليعطيها الحق في التصرف كما تشاء هو اختلاط للأمر فالإنسان له الحق في التصرف فيما يملكه ولكن لا يحق له أن يتصرف فيها تملكه الدولة وتلك الجماعات لا تفرق بين الخاص والعام لذلك تعدّ أن الأماكن التي تملكها خاصة لها.
بدورها دار الإفتاء المصرية أكدت في بيان لها، "أن الآراء الشاذة التى اعتمد عليها "داعش" في هدم الآثار واهية ومضللة، ولا تستند إلى أسانيد شرعية، خاصة أن هذه الآثار في جميع البلدان التي فتحها المسلمون كانت موجودة ولم يأمر الصحابة الكرام بهدمها أو حتى سمحوا بالاقتراب منها، وهم رضوان الله عليهم كانوا أقرب عهدًا من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وآله منا، بل كان منهم صحابة جاءوا إلى مصر إبان الفتح الإسلامي ووجدوا الأهرامات وأبو الهول وغيرها ولم يصدروا فتوى أو رأيًا شرعيًا يمس هذه الآثار التي تعد قيمة تاريخية عظيمة".
يحرقون كتب .. ويسرقون كتب !..
قد يأوّلون الأحاديث كما يرغبون لتدمير الأثار التاريخية، ولكن ما هي مسوّغاتهم لحرق الكتب وتدمير المكتبات ؟!..يشير كريم العبيدي صاحب مكتبة، في شارع المتنبي بالعاصمة بغداد، في تصريحات لجريدة "القدس العربي"، أن أصدقاءه من أصحاب المكتبات في الموصل كشفوا له أن عمليات حرق الكتب العلنية أمام الناس من قبل «داعش » تأتي لسببين. أولهما العقلية المتخلفة التي يتميز بها قادة الجماعة، وثانيهما هو أن عمليات الحرق تتم للكتب العادية، لتكون غطاء لعملية نهب واسعة للكتب النفيسة والمخطوطات التاريخية العراقية التي لا تقدر بثمن، والتي تقوم الجماعة بنقلها هي والتحف والآثار العراقية إلى سوريا وبيعها عبر مافيات تهريب التراث والآثار في السوق السوداء في العالم...
ونشرت، اليوم جريدة السفير اللبنانية، أن الرواية الفعلية لما يحصل، والتي تتسم بخطورة بالغة، وتُظهر مدى تغلغل أجهزة الاستخبارات المعادية في صفوف تنظيم «داعش»، هو ما كشفه عضو لجنة السياحة والآثار النيابية النائب حسين الشريفي لـ «السفير»، الذي أكد أن «الهجمة البربرية التي تتعرض لها الآثار العراقية تقف خلفها دوافع إسرائيلية»، لافتاً إلى أن «الآثار الحقيقية باعتها داعش لجهاز الموساد إلى الكيان الإسرائيلي من أجل إيجاد مصدر تمويل مادي للتنظيم»، مشيراً إلى أن أسعارها تقدر بمليارات الدولارات.
فإذا عرف السبب بطل العجب..!.
أهمية الأثار في الكشف عن ثقافات الشعوب :
يعدّ علم الأثار مفتاح العلاقة مع علم الأنثربولوجيا الثقافية حتى أنه ليصعب التمييز بينهما في المجال النظري، وكذلك يُدرس فرع "عصور ما قبل التاريخ" من خلال الأثار في الكثير من الجامعات في العالم المتحضر والحديث ضمن الأنثربولوجيا الثقافية. ولقد أتى علم الأثار ليكون ركناً أساسياً في عملية قراءة وفهم الماضي البشري، حيث كانت لردح طويل من الزمن تعتمد النصوص الدينية والتاريخية في هذه العملية المعرفية.
وإن دراسات الأنثروبولوجيا الاجتماعية التي تهتم بدراسة المجتمعات البشرية وبُناها وأنساقها، تشكل دعامة مهمة لعلم الآثار في تفسيره لمادته الأثرية التي تنشأ في حالة اجتماعية ما وتتأثر بها وتؤثر بها أيضاً، كون النوع الإنساني له تاريخ تطوري بيولوجي كشفت عنه الدراسات الأنثروبولوجيا الطبيعية، وأصبحت المخلفات الأثرية مرتبطة بالتسلسل التطوري للبشر وتشكل حلقة وصل بين العلمين، علم الأثار وعلم الأنثروبولوجيا، بحيث يصبح ممكناً تفسير التاريخ والتطور الثقافي للتجربة الإنسانية.
هنا، تحدونا الذاكرة في العودة إلى المستعمرين الأوروبيين الذين غزوا بلاد العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، كانوا أكثر ذكاء ..سرقوا الكتب ولم يحرقوها، وأخذوها إلى أوروبا، وما زالت المكتبات الكبرى فيها تحوي مجموعة من أعظم كتب العلم في الأرض.. ألّفها المسلمون على مدار عدة قرون متتالية.. ولا يشك أحد في أن أعداد الكتب الأصلية الإسلامية في مكتبات أوروبا تفوق كثيراً أعداد هذه المراجع الهامة في بلاد المسلمين أنفسهم!!..
لقد كان همّ الغزاة على طول العصور أن يحرموا الأمة الإسلامية من اتصالها بأي نوع من أنواع العلوم والمعرفة والحضارة .. إما بحرق الكتب أو بإغراقها في الأنهار أو بسرقتها إلى جانب تدمير أهم الأثار العمرانية.. حتى تفرغ الأمة من كل ما هو قيّم وثمين.. كل ذلك لأن الغزاة يعرفون جيداً قيمة العلم في الدين الإسلامي.. ويعرفون كذلك قوة المسلمين إذا ارتبطوا بالعلم والحضارة.. فماذا يمكن أن نقول عن "داعش".. وهي تمارس كل هذا الفعل الإجرامي بحق الأمة وشعوبها ؟!.. أليس غزواً أجنبياً منظّماً ومدّمراً لبلادنا بقناع إسلامي وعربي مزيف..؟!..
ففي حين يدرك العدو الصهيوني تماماً أهمية الأثار وتواجدها في فلسطين المحتلة، حيث دأب قبل احتلال فلسطين رسمياً بعقود عملية البحث عن الأثار فيها من خلال البعثات الأجنبية البريطانية والأميركية، إذا كان هناك بينهم علماء أثار يعملون بصمت لصالح الصهيونية في سبيل تثبيت اختلاق "دولة إسرائيل التاريخية"..نرانا اليوم ندفن أثارنا وتاريخنا.. تماماً مثلما تدفن النعامة رأسها في التراب.. فضيع التاريخ وتضيع معه الهوية..!
* تمّ الاستعانة بعدد من التحقيقات والمقالات المنشورة على شبكة الانترنت