مرَّة جديدة، يظهر ما يسمَّى المجتمع الدّوليّ بصورته الحقيقيَّة التي لم نكن نجهلها.. كنَّا نعيها ونعي أنَّ العالم المستكبر لا يريد لفلسطين أن تعود إلى أهلها، ولو كانت بحجم فلسطين
مرَّة جديدة، يظهر ما يسمَّى المجتمع الدّوليّ بصورته الحقيقيَّة التي لم نكن نجهلها.. كنَّا نعيها ونعي أنَّ العالم المستكبر لا يريد لفلسطين أن تعود إلى أهلها، ولو كانت بحجم فلسطين الّتي وقف رئيس السلطة الفلسطينيّة ليدعو إليها على منبر الأمم المتَّحدة.. وقد تجلّت الصّورة واضحةً عندما أطلّ الرّئيس الأمريكيّ قائلاً، وبكلّ صراحة، ومن دون مواربة: إنّ دولة فلسطين لن تمرّ في الأمم المتّحدة، ووصف كيان العدوّ بأنّه "دولة صغيرة محاطة بالأعداء".. ونال بذلك تصفيق الصّهاينة، فكتبت الصّحف الصّهيونيّة عن هذا الخطاب قائلة: "لم يكن نتنياهو يستطيع كتابة الجزء الخاصّ بإسرائيل في خطاب أوباما بصورة أفضل مما كتبه أوباما نفسه".
لقد قدّم الرّئيس الأميركيّ نفسه من خلال هذا الخطاب كقائد من القادة التاريخيّين للحركة الصّهيونيّة، وكمدافع أوّل عن كيان عنصريّ وعن يهوديّة هذا الكيان، رافضاً تسجيل أيّة نقطة في مواجهة المشروع الإسرائيليّ الاحتلاليّ الّذي لا يوجد مثيل له في العالم، ومجافياً حقيقة يعرفها الجميع، وهي أنّ هذا الكيان هو مشكلة دائمة لمحيطه، لا محيطه القريب، بل حتى البعيد.. وبعد الرّئيس الأمريكيّ، يبرز مثال الرّئيس الفرنسيّ الّذي كان قد وصف "إسرائيل" بأنّها "معجزة القرن العشرين"، وأكّد في الأمم المتّحدة أنّه لا يزال يتبع الخطوات الأميركيّة، ولا ينوي البتّة مخالفتها، وخصوصاً فيما يتّصل بكيان العدوّ..
وتكرّ سبّحة أحاديث ممثّلي الدّول الغربيّة، التي لا ترى في هذا العالم سوى الكيان الصّهيونيّ، ولا تريد الالتفات إلى معاناة الشَّعب الفلسطينيّ الّذي يعيش محاصراً في غزَّة، أو معتقلاً في الضفَّة الغربيَّة، أو مشتّتاً في المخيّمات الفلسطينيّة في أكثر من بلد في العالم العربيّ، أو يبحث عن بلدٍ يلجأ إليه.. إنَّه العالم الّذي يسمّونه حرّاً متحضراً رائداً في حقوق الإنسان، فيما هذا العالم لا يأبه لجوع الشّعب الفلسطينيّ وعطشه وجراحه وآلامه، ولا يلتفت حتَّى إلى الّذين يموتون في الأنفاق وهم يسعون لإدخال أبسط موادّ العيش الكريم.. فأيّ عالم هو هذا العالم؟! وأيّة حضارة هي هذه الحضارة، التي تقبل أن يستبدل شعب بشعب، وسيادة على حساب سيادة..
إنّنا نقول للفلسطينيّين، وللسلطة الفلسطينيّة بالذّات: لقد جرّبتم للمرّة الألف هذا العالم الّذي يعتبر نفسه حرّاً متحضّراً، وراعياً لحقوق الإنسان، وداعياً إلى الإصلاح، واستكنتم إلى وعوده المعسولة طوال السّنوات العجاف، وراهنتم عليه بأن يعيد إليكم شيئاً من طموحاتكم..
وقد آن الأوان أن تتأكَّدوا أنَّ هذا العالم لا يحترم الضّعفاء، ولا يقيم وزناً للشَّعب الفلسطينيّ ولا لسلطته، ولا لكلِّ آلامه ومعاناته، بل هو معنيّ بأن يسعى لحلّ القضيَّة الفلسطينيَّة، لحساب الكيان الصّهيوني، وعلى حساب الفلسطينيّين.. ولذلك، فإنَّ عليكم أن تعودوا إلى حيويَّة شعبكم، هذا الشّعب الصّابر المجاهد والحيّ الّذي شكّل وفي كل تاريخه الطويل، مدرسةً في الجهاد والتضحية، ورفض أن يستكين رغم كلّ الضّغوط والصّعوبات التي لا تقوى عليها الجبال الرواسي..
ابدأوا رحلة التَّحرير من الخريف وأكّدوا ربيعكم.. تابعوا انتفاضتكم على الكيان الصهيوني، وأيضاً على كلّ دعوات الاستسلام والقبول بالأمر الواقع، وافضحوا هذا العالم الّذي يتحدّث عن الرّبيع العربيّ، وهو لا يتطلّع إلا إلى ربيع الكيان الصّهيونيّ الّذي يريده زاهياً ومعشوشباً، على حساب اليباس العربيّ والإسلاميّ كلّه..
وفي جانبٍ آخر غير بعيد عن السّعي لتثبيت هذا الكيان وتقويته، نلمح سعياً غربيّاً لتأجيج الصّراعات والفتن داخل العالم العربيّ، حيث تتحدّث الإدارة الأميركيّة علناً عن تشجيعها لبعض الجماعات في استخدام السّلاح داخل هذا البلد العربيّ أو ذاك بحجّة الدّفاع عن النّفس...
إنَّنا نخشى من أنَّ ذلك يمثِّل دعوةً لتوسيع نطاق الفتن والفوضى في العالم العربيّ، ليسهل بعد ذلك على الحلف الأطلسيّ أن يثبِّت أقدامه ومواقعه في هذا العالم، لنهب ثرواته، ولتأمين مواقع استراتيجيَّة له وحماية الكيان الصّهيونيّ.. ولذا نقول للشّعوب العربيّة: لا تسمحوا للآلام والجراح الّتي تعانون منها بأن تدفعكم إلى الهاوية، ولا تقعوا فريسة من يريد لهذه الآلام والجراح أن تتوسَّع وتتعمَّق.. لا تسمحوا للّذين يريدون أن يتلاعبوا بالغرائز الطائفيّة والمذهبيّة والعشائريَّة والقبليَّة أن يجدوا لهم آذاناً صاغيةً في مواقعكم، كونوا الواعين.. فلكم الحق في حياة عزيزة كريمة حرة بعيدة عن ضغوط الاستكبار والحكومات العملية..
ونحن عندما نراقب المشهد في البحرين الّتي شهدت انتخابات قاطعتها الجهات الشعبيَّة الأساسيَّة، ندرك أنَّ الأمور هناك تحتاج إلى معالجة جذرية، فالحاجة إلى الإصلاح باتت ماسّةً، كذلك الحاجة إلى تفاهم الجميع تحت سقف الوحدة البحرينيَّة، ولا سيَّما مع تأكيد الأطراف الفاعلين في المعارضة سلميّة تحركهم، ورغبتهم بحوار جدّيّ وموضوعيّ هادئ.. إننا ندعو مجدّداً إلى مبادرة حقيقيَّة تقودها الدَّولة التي يفترض بها أن تكون راعية للمواطن، والإنصات إلى مطالب الشعب وهواجسه وخوفه على حاضره ومستقبله، والعمل على معالجتها، بدلاً من ممارسة سياسة الضغط والاعتقالات غير المدروسة.. فالضغط لا يولد إلا الضّغط، والعنف لا يولّد إلا عنفاً.. إنّنا نعتقد أنّ هذا هو السّبيل الأسهل لحلّ المشكلة، والّذي يبعد البحرين عن صراع المحاور الإقليميّة والدّوليّة، التي لن تزيد الأمور إلا تفاقماً وتعقيداً.
ونتطلَّع إلى العراق، الّذي لا يزال يعاني من تفجيرات متنقّلة، ولا سيّما ما حصل أخيراً في كربلاء، والّتي يراد من خلالها التّأكيد أن لا قدرة للعراق على تحقيق أمنه، وذلك من أجل أن يبقى مرتهناً للاحتلال الجاثم على أرضه، ما يستدعي من الشّعب العراقيّ الصّبر والوعي والتّعاون والوحدة، حتّى يتجاوز هذه المرحلة، بتأكيده أن لا حاجة للاحتلال، وعدم السّماح لكلّ الأيادي السوداء أن تتحرّك لتعبث بواقعه السياسي والأمني، أو أن تسعى لإحداث فتنة طائفية ومذهبية وسياسية تسيء إلى قوة العراق ووحدته..
أمَّا لبنان، الّذي عاش بعض مظاهر الوحدة الوطنيَّة في الأيَّام الفائتة، حيث أظهر الشَّعب اللّبنانيّ أنَّه حريص على هذه الوحدة وعلى تعميق التَّعايش الإسلامي ـ المسيحي، فإنَّنا نعيد التَّأكيد على ضرورة تعزيز الوحدة الإسلاميَّة فيه، وقطع الطّريق على أولئك الّذين يتحدّثون عن أحلاف موهومة لا أساس لها، لزيادة الشَّرخ بين المسلمين، وبالتَّالي بين اللّبنانيّين. إنَّ لبنان لا يمكن أن يقوى ويصان إلا بتعاون طوائفه ومذاهبه، ولا سبيل لحماية أيّ طائفةٍ إلا بتآلفها مع كلِّ الطّوائف تحت سقف الوطن، وذلك في سياق مواجهة تحدّيات الداخل والخارج...
لقد جرّبت الطوائف في لبنان أن تؤمّن لنفسها أمنها الذاتيّ وعلاقاتها الخاصّة، وارتباطاتها الإقليمية والدولية، ففقدنا الوطن، وسقطت الطوائف في أتون الصراعات الداخلية والمشاريع الخارجية..
إنّ على اللّبنانيّين أن يتوحَّدوا حول قضاياهم الكبرى في مواجهة العدوّ الصّهيونيّ الّذي يعمل بكلّ طاقاته لإضعاف قوَّة هذا البلد، وأن يتوحَّدوا في مواجهة الواقع الاقتصاديّ الّذي أرهق اللّبنانيّين، وكاد يوصلهم إلى حافة اليأس، وأن يتوحَّدوا أيضاً في مواجهة الفساد الإداري والمالي والاجتماعي الّذي ينهش البلد، ولرفض كلّ خطابٍ تنفيريّ استفزازيّ يسعى إلى استعادة مناخات الحرب وأيّام الفتنة وتأليب اللّبنانيّين على بعضهم البعض..
أيّها اللّبنانيّون:
فلنجرّب لمرّة واحدة أن نفكّر في مصالحنا وطموحاتنا وطموحات أولادنا، في مستقبلنا ومستقبل أجيالنا، وسنجد أنّنا نستطيع أن نصنع الكثير إن أردنا.. لقد جرَّبنا أن نكون أقوياء أعزّاء أحراراً.. فوصلنا وصنعنا عزّةً وحريّةً وإباءً ومقاومة.. فلنجرّب أن نبني وطناً في غفلةٍ عن هذا العالم الّذي يتربَّص بنا، ولنبن وطناً ودولة ومؤسّسات، ونحن القادرون على ذلك عندما نتسلَّح بسلاح الإرادة والعزم، وعندما يقوّي بعضنا بعضاً، ويشدّ بعضنا من أزر البعض الآخر.
أيّها المسؤولون، لقد تعبتم وأتعبتم، وآن لكم أن ترتاحوا وتريحوا.. ارحموا واقعكم يرحمكم الله..