خطاب الفاتيكان مصوغ بلغة أدبية عمومية، وهو أمر مقصود في ظل التعقيد الكبير الذي يحيط بالقضية من جوانبها كافة، وبسبب الضغوط الهائلة التي تعرّض لها من الجانب الأميركي والإسرائيلي
لم يكن «الربيع العربي» على الكنيسة الكاثوليكية وعلى المسيحيين غرباً وشرقاً يُوحي بالطمأنينة، بل تفاقمت في ظله الهواجس وتنامت الأخطار، وتتالت التساؤلات حول الحدود الفاصلة بين انهيار النظام الحالي للمنطقة العربية وعملية بنائه على أسس دينية وعرقية بلا أدنى اعتبار لرأي الكنيسة التي ظلّت حريصة على ألا تقع المنطقة في أيدي المتطرفين والمتعصبين، فيما كانت تعمل لسنوات مع الشريك الأميركي على تسوية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي تعيد تكوين المنطقة على قاعدة تفاعلها مع مصالح الغرب واحتياجاته الأمنية والثقاقية والاقتصادية.
تقترب الكنيسة اليوم، من قناعة أنّ أميركا لم تروج لفكرة صراع الحضارات وتوتير العلاقة بين المسلمين والمسيحيين فقط، بل ساهمت من خلال سلوكها وسياساتها في إفراغ المسيحيين من الشرق.
فاحتلال العراق هجّر أكثر من مليون ونصف المليون من المسيحيين، والأزمة المستمرة في سوريا دفعت بمعظمهم إلى طلب اللجوء إلى بلدان مجاورة، وحرق كنائس الأقباط في مصر والمجزرة التي ارتكبتها «داعش» بحق 21 قبطياً تدفع بالآلاف منهم إلى مغادرة وطنهم إلى أماكن أكثر أمناً، أما في فلسطين فالمأساة خبز يومي. هنا وقعت الكنيسة في خداع تاريخي، وتميل راهناً إلى الاعتراف بأنها وقعت في الخطأ منذ البداية.
كان على الكنائس الإصلاحية أن تثور وتسعى إلى تعديل يناسب الاقتصاد الرأسمالي الصاعد
كانت تحاول تصحيح الظلم الاجتماعي والاتفاق على الحدّ الأدنى من التوافق السياسي ووقف إراقة الدماء وجعل القدس مدينة للتعايش والتسامح الديني، لكنّها فشلت ولم تستطع وقف الانتهاكات ولا كان لها الشجاعة الكاملة للقول للصهاينة إنّ ما بني على باطل لن تكون له المشروعية القانونية والأخلاقية. في الواقع اتسم السلوك الفاتيكاني تجاه القضية الفلسطينية بحساسيته الشديدة للشروط الدولية. من جانب، تمثل تلك الحساسية الخاصية الأكثر عقلانية في التعامل مع توازنات القوى الكبرى، ومن جانب آخر، تعكس حجم التراجع الذي منيت به الكنيسة بعد تفرد الولايات المتحدة الأميركية بزعامة العالم إثر سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي حيث انتهجت طريقاً مرتبطاً بمصالح الولايات المتحدة ومبادراتها بشكل مباشر، وباتت القرارات التي تصدر عنها استجابة لأزمات تستدعيها طبيعة التجاذبات بين الولايات المتحدة وخصومها، ما يمنع على الكنيسة أن يكون لها حضور مستقل وسياسة فاعلة تعمل على تحقيق أهدافها. على كل حال هنا بعض المحددات التي من شأنها إبراز صورة بانورامية لتوجهات الكنيسة الفاتيكانية في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، كما أنّ سياق هذه التوجهات من شأنه أن يوفر معايير مساعدة في تقييم مدى صحة أو خطأ التحيّزات أو الخطابات الفاتيكانية وبيان الإشكاليات المرتبطة بها.
ـــ المحدد الأول: يكمن في وقوف الفاتيكان في وجه مشروع الحركة الصهيونية لإقامة وطن في فلسطين، وقد تجلى ذلك عبر البيان الذي جاء عقب المؤتمر الصهيوني في بازل عام 1897 وفيه: «إن بناء القدس كي تصبح مركزاً لدولة إسرائيل يتناقض مع نبوءات المسيح نفسه». ومن ثم جاء تصريح البابا بيوس العاشر عام 1904 الذي رفض بشكل حاسم ومباشر بعد لقائه مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هيرتزل إقامة الوطن اليهودي «لأنه يتناقض مع المعتقد المسيحي»، وما فعله البابا بندكتوس الخامس عشر الذي رفع شعار «لا لسيادة اليهود على الأرض المقدسة».
إنّ هذه البيانات والمواقف جاءت على خلفية دينية مباشرة. وهي تعبير حقيقي عن تيار داخل الكنيسة يراقب ما يدور حوله من أحداث وتحولات ويدرس انعكاساتها على المسيحيين، وبهذا المعيار يُعتبر العامل الديني هو المحرّك الأساس لرفض المشروع الصهيوني، حيث شكلّت النصوص الدينية مرجعية تاريخية اعتمدها البابوات في طريق تأكيد لا دينية ما تخطط له الحركة الصهيونية.
ــ المحدد الثاني: عدم اعتراف الكنيسة الكاثوليكية بالشعب اليهودي كشعب (أمة) له الخصائص والأوصاف المعروفة لدى الشعوب الأخرى، وهذا مردّه الى الجدل الذي قام حول البنية الدينية والثقاقية والاجتماعية لليهود في أوروبا مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين واستمر لاحقاً بأشكال ومستويات متفاوتة وصولاً إلى لحظة إعلان الحركة الصهيونية عزمها إقامة وطن في فلسطين.
إنّ عدم اعتراف الكنيسة بالشعب اليهودي يستمد زخمه من عمق الخصومة بين الديانة المسيحية والديانة اليهودية التي امتدت لأكثر من ألفي عام حول مسائل لاهوتية أخطرها على الإطلاق مسألة صلب السيد المسيح وقتله، والتي يتهم المسيحيون بها اليهود. وقد شكّل هذا الأمر على مرّ العصور مادة خلافية حادة بين الطرفين خصوصاً عندما نجحت الحركة الصهيونية السياسية المنشأ، في دمج العقيدة اليهودية في صلب مبادئها وتوجهاتها.
ــ المحدد الثالث يكمن في المعالجة الملتبسة لملف تبرئة اليهود من دم السيد المسيح. فقد عكس قرار التبرئة سيلاً من التساؤلات والسجالات حول المؤثرات الدينية والسياسية (الزمانية) التي فرضت هذا النوع من التغيير الخطير في هذا الملف اللاهوتي العقيدي، بل والسر وراء الجرأة في استبدال أو نقض أو نسخ نصوص كانت ولا تزال تحظى بالقدسيّة والثبات في الإيمان المسيحي.
ــ المحدد الرابع: يتجلى في رفض الكنيسة وعد بلفور ومعارضة سياسة الانتداب الانكليزي. فمنذ أنْ حطت الحرب العالمية الأولى أوزارها أدركت الكنيسة أنّ هناك تواطأً خبيثاً بين الحركة الصهيونية والبريطانيين، لكن سرعان ما ارتفعت المحاذير. فالرفض غدا قبولاً بالأمر الواقع، والمعارضة تحوّلت إلى مهادنة فتفاهم مع البريطانيين بشرط عدم الإخلال بالامتيازات التي كانت سائدة في عهود ماضية. وكان على الفاتيكان لكي يحافظ على وضعيته الرعائية والقانونية للأماكن المقدسة، أن يعترف بالحقوق المدنية لليهود ثم بقبول قرار التقسيم بعد أن كان من أشدّ معارضيه.
ــ المحدد الخامس: إنّ الفاتيكان حاول أن يمنع وخصوصاً بعد فشل القرار الدولي القاضي بتقسيم فلسطين إعلان قيام دولة إسرائيل، وقام في هذا الإطار بتحرّك دبلوماسي واسع النطاق في الأوساط الدولية لكي لا يأخذ المشروع طريقه نحو التنفيذ. وكان يعتبر أنّ الكاثوليك في العالم «ستُجرح كراماتهم اذا سُلّمت فلسطين الى اليهود» أو وضعت بصورة عملية تحت السيطرة اليهودية المباشرة، غير أنّ سرعة الأحداث وتطورها الدراماتيكي وضبابية الموقف الدولي العام جعل الفاتيكان يلتزم الصمت إزاء الإعلان الرسمي لقيام دولة إسرائيل عام 1948 التي كانت حينها تمثّل المصالح الغربية والخيار البريطاني تحديداً.
ــ المحدد السادس: يتعلق بموقف الفاتيكان من الحروب التي وقعت بين العرب و»إسرائيل» في الأعوام 1948-1967-1973. فقد كان الفاتيكان يعارض في الأساس مبدأ العنف، وكان حريصاً على أن يسود التعقل مكان السلاح. بيد أنّ مقاربة الفاتيكان للحروب العربية الإسرائيلية كانت تنطلق بوحي تخوفه على الأماكن المقدّسة المسيحيّة بدرجة أولى، وهذا ما دفع بالعديد من المراقبين إلى اعتبار الموقف الفاتيكاني مفرغ من محتواه الإنساني والسياسي. إذ لم يخلُ تصريح في أثناء الحروب من المناشدة لتجنيب تلك الأماكن وخصوصاً القدس «آلام الحرب وأضرارها» في الوقت الذي كان الفلسطينيون يحتاجون إلى موقف أكثر طموحاً وقوة يحدد من خلاله وبشكل واضح لا لبس فيه على من تقع المسؤولية في هذه الحروب ومن هو المعتدي ومن هو المعتدى عليه!
ــ المحدد السابع: يتعلق بالإيجابية التي اتصف بها تعامل الفاتيكان من القرارات الدولية المرتبطة بالقضية الفلسطينية وهو قد حثّ الأطراف المتنازعة العودة الى مرجعية الأمم المتحدة في حل القضية الفلسطينية، وخصوصاً أنّ القرارات التي صدرت عن هيئة الأمم ومنها القرار 242 تنسجم مع مطالب الكرسي الرسولي في تثبيت السلم والأمن في المنطقة.
ـ المحدد الثامن: وهو المتعلق بمدينة القدس. فالقدس التي كانت على الدوام مهداً للأديان السماوية الثلاثة، هي اليوم مهداً للاحتراب بفعل المصالح المتناقضة وبفعل موروثات دينية وحضارية وسياسية. والقدس منذ أن أطلق المسيح دعوته منها تعد مكوّناً أساسياً من مكوّنات الثقافة المسيحية، ووجود كنائس كالقيامة والمهد والجثمانية والبشارة وغيرها يزيد من ارتباط المسيحيين بها، والحروب الصليبية قامت في واحدة من أبعادها على إرادة استرجاع الأراضي المقدسة وعلى رأسها القدس.
وعلى هذا الأساس كان اهتمام البابوات بالقدس اهتماماً ينبع من تلك العلاقة التاريخية والدينية الوثيقة. يقول أحد المقربين من البابا الراحل يوحنا بولس الثاني لأحد الشخصيات الفلسطينية: «ثق أنّ تدخل البابا في المسألة الفلسطينية فاق تدخله في المسألة البولندية. وعندما سأله عن السبب أجاب: القدس هي السبب». وليس مستغرباً أن نجد الفاتيكان يبحث عن كل وسيلة تكفل حماية القدس وكل الإرث الديني والحضاري والتاريخي الموجود في هذه المدينة المقدسة، لذلك نراه على استعداد لتقبّل كل مبادرة تصب في هذا الاتجاه. وهو قد سعى عبر مراحل زمنية متعددة لتكييف موقفه مع الأوضاع القائمة والظروف السياسية حتى يحافظ على التراث المسيحي الموجود فيها، وقبل بالتالي بالعديد من الصيغ التي طُرحت على بساط الحل. فمن التدويل الى النظام الخاص، الى المدينة المفتوحة، الى المدينة الرمز، إلى المدينة المقدّسة للأديان الثلاث التي لا يجوز احتكارها من أي دين أو طرف لأنها إرث مشترك لها، الى مدينة الإنسان، وغيرها من الصيغ التي لم تجد لها طريقاً الى حيّز الواقع.
ــ على الحدود الفاصلة بين المصالح والرغبات، بين القوة والرجاء، كان الفاتيكان يسعى ليخلق في القدس مساحة للعيش والتعايش بين أتباع الديانات الثلاث، معتقداً أنّه بالإمكان فصل السياسة عن الدين!
ــ المحدد التاسع يتمحور حول الموقف السلبي الذي اتخذه الفاتيكان من الثورة وأعمال المقاومة. فقد كان يرى أنّ الأعمال التي يقوم بها الفلسطينيون ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي هي أعمال عنف تتم بوسائل إرهابية، من دون أن يوازن ذلك بموقف مماثل يفضح فيه الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، الأمر الذي كان يترك أكثر من علامة استفهام حول المعايير التي يعتمدها الفاتيكان في نظرته الى المقاومات وحركات التحرر في العالم وحق الإنسان في الدفاع عن أرضه ومقدساته، بل ذهب الكثيرون لاعتبار المؤسسة البابوية تابعة للسياسات الغربية وإلى كونها تفتقر إلى الاستقلالية والشفافية والجرأة في التعبير عن مواقفها من القضية الفلسطينية.
ــ المحدد العاشر إنّ الفاتيكان كان دائم السعي لدى الهيئات الدولية والدول العظمى لتعجيل الحلول السلمية من أجل إيجاد مخرج للصراع العربي الاسرائيلي بشكل نهائي، والعمل على تثبيت دعائم السلام عبر تسوية شاملة توقف كل أشكال العنف وأدوات الصراع في المنطقة.
ــ المحدد الحادي عشر: توّصُلْ الفاتيكان والكيان الإسرائيلي إلى اتفاق عام 1993 ينظم العلاقات بينهما حصل بفعل المتغيرات التي تتالت منذ تسعينيات القرن الماضي. فمن سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي مروراً بحرب الخليج الثانية إلى مؤتمر مدريد وغيرها من التطورات الدولية التي كان لها صلة مباشرة في الوصول الى هذه النتيجة.
ــ المحدد الثاني عشر: يعلق بالتفاوت وانعدام التوازن بين الاتفاق الفاتيكاني مع الفلسطينيين من جهة، والاتفاق مع الكيان الإسرائيلي.
ــ المحدد الثالث عشر: كان الفاتيكان يرى أنّ القدس هي مفتاح الحل وأنّ الاتفاقات المنفردة لا تصنع سلاماً بل حلاً جزئياً لا يدوم.
ــ المحدد الرابع عشر: إنّ اعتقاد الكثيرين من العرب والمسلمين أنّ الفاتيكان قادر على تغيير معادلات في المنطقة أو توجيه السياسة الدولية كيفما يشاء اعتقاد خاطئ وتصور ساذج وغير علمي، نعم، إنّ الفاتيكان كان بإمكانه أن يلعب دوراً اكبر على صعيد قضايا المظلومين في العالم ومعاناة الشعب الفلسطيني خصوصاً، لو تحرّر من تأثير الضغوط الدولية التي أضعفت بشكل أو بأخر الموقف الفاتيكاني وقلّصت من قدرته على الحركة المستقلة والفاعلة.
ــ المحدد الخامس عشر: إنّ خطاب الفاتيكان مصوغ بلغة أدبية عمومية، وهو أمر مقصود في ظل التعقيد الكبير الذي يحيط بالقضية من جوانبها كافة، وبسبب الضغوط الهائلة التي تعرّض لها من الجانب الأميركي والإسرائيلي على نحو خاص.
بكلمات، فإنّ مقاربة القضية الفلسطينية تحكمها الكثير من العوامل والمعطيات الناجمة عنها. لكن لا يجوز أن تكون النتيجة تدور مدار الجريمة الغربية فقط. أي جعل اليهود والفلسطينيين ضحايا لأفعال الغرب وسياساته، وتوجيه القضية في إطار معاداة الغرب للسامية واضطهاده للأقليات الدينية والعرقية. كان يفترض بالفاتيكان أن يسلط الضوء أكثر على الطبيعة الصهيونية الإرهابية وما فعلته الحكومات المتعاقبة في حق الفلسطينيين والعرب من مجازر واحتلال للأرض وتوسّع أراد أن يصل النيل بالفرات! ..
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه