النظام الامبريالي يحدّد «الأفكار الحاكمة» في المجتمع على مستوى الترويج للنزعات الليبرالية، ومستوى القبول بالتيارات التكفيرية المتعاونة مع الامبريالية والدول التابعة. وفي الصحافة الوهابية النفطية، نعثر على النمطين
من الصعب إقامة سور بين القوى العربية المحيطة بالعراق وغيرها. ذلك أن العلاقات التاريخية القديمة، وفي صلبها الإسلام، قد حققت اتصالات عضوية بين هذه الدول، وجعلتها أحياناً جزءاً لا يتجزأ من إقليم واحد، تحدّده مطامع ومصالح القوى العالمية، تحديداً منذ التغلغل الأوروبي في المنطقة منتصف القرن التاسع عشر، وبروز ما يُسمّى بـ «المسألة الشرقية» في الاستراتيجيا الأوروبية.
وقد أسّس الحل الأوروبي الذي ساعدت الولايات المتحدة على تنفيذه، عبر تقسيم المنطقة في «مؤتمر فرساي» 1920، لكل الصراعات البينية في «الإقليم»، بعدما كان الأخير شبه مستقر ولمدة أكثر من قرنين.
والنقطة المفصلية في هذا الصراع أن أوروبا وأميركا لم تتمكنا من أخذ الإقليم إلا من خلال ترسيخ شرائح وطبقات حاكمة متعاونة مع الأجنبي، ما سهّل كثيراً الهيمنة عليه وزرع إسرائيل فيه. لكن الأمور تطوّرت جدلياً، حين تحوّلت مشكلة إقليم «الشرق الأوسط» من مشكلة قائمة للقاطنين فيه، إلى مشكلة تكتونية للقوى المتكالبة عليه.
الدولة الوطنية ودولة الوكالة
في العام 1921، تحقق الاستقلال الشكلي للعراق الحديث. وفي مسيرته المعقدة، يمكن أن نتحدّث عن طورين. الأول دولة الوكالة التي استمرت حتى نهاية الخمسينيات وصعود البونابرتية العسكرية. والثاني قوامه الدولة الوطنية حتى سقوط العراق تحت الاحتلال الأميركي في العام 2003. وقد تجاور العراق في منتصف القرن السابق مع دول وطنية من نمط إيران، التي كانت تربطها بالعراق وشائج تاريخية مهمة. وإيران برغم انتكاساتها في ظل حكم الشاه السابق، كانت تسير في اتجاه تحقيق استقلالها الوطني، منذ تجربة محمد مصدق وصولاً إلى الثورة الوطنية والإسلامية الكبيرة في العام 1979. وكانت النظرة إلى الدولة الوطنية في سوريا متميّزة، وتعكس وجهة النظر الجازمة بأن العراق وسوريا وجهان تاريخيان لعملة جغرافية سياسية موحدة.
وعلى العكس من هذه الحالة، كانت الدول الأخرى، السعودية ودول الخليج والأردن وتركيا، دول وكالة نموذجية مرتبطة سياسياً وعسكرياً بالمتروبول العالمي ومنظماته الدولية الاقتصادية والعسكرية. من هذه الزاوية، فإن الحالة التي يمر بها العراق «تجيز» له أن يصطف سياسياً واقتصادياً، بل وحتى عسكرياً، مع الدول الوطنية، وذلك من أجل التخلص من قيوده الاحتلالية الثقيلة، ويستعيد عافيته الاقتصادية ويحقق استقلاله السياسي وسيادته الوطنية الكاملة.
وفي هذا الطريق، على العراق أن يتخلص من صيغة «الكوندومينيوم» البغيضة، وأن يساعده محور المقاومة، سوريا و»حزب الله» والمقاومة الفلسطينية وإيران، على نزع هذه الأغلال، مع التأكيد بأن تصحيح العلاقة التاريخية مع طهران لا يتم فقط من خلال بناء علاقة متوازنة بين الجمهورية الإيرانية الإسلامية والدولة العراقية الوطنية المنشودة، وإنما أيضاً من خلال النهوض «العراقي السوري» المشترك، على قاعدة الوحدة السياسية التاريخية المعروفة، حيث شُيّدت الدولة العربية الإسلامية الأولى في دمشق واستمرت الثانية في بغداد، ولم يستطع «الإقليم» أن يقاوم الغزوات الأجنبية من دون الساحل الشامي والعمق العراقي.
الجزيرة العربية من دون دولة
تشير كل البحوث التاريخية الرصينة حول الإقليم إلى أن الجزيرة العربية كانت تشكو من عدم وجود الدولة قبل الإسلام وبعده. ولم يكن «الفيض السكاني» الداخلي قادراً على التحوّل إلى مؤسسات اجتماعية، ولا على تشييد عمارات متينة للاقتصاد في السلم والحرب. بل على العكس من ذلك، فإن هذا الفيض، من خلال الفتوحات العربية - الإسلامية، قد ساعد على بناء الدول في العراق وسوريا ومصر. ومن ثم كان له الدور الحاسم في الحفاظ على الوضع الجيوسياسي في الجزيرة أمام مطامع الخارج. وقد كان مصير المحاولات التي بذلت في الجزيرة خلال القرن السابق ولحد الآن، من أجل تطورها واستقلالها وازدهارها، الفشل الذريع، برغم حيازتها موارد طبيعية ضخمة، وموقعاً جغرافياً استراتيجياً بالغ الأهمية. وبدل أن تلوذ الجزيرة بالمثلث المصيري المحيط بها، مصر وسوريا والعراق، ارتبطت منذ نشأتها السياسية الحديثة بالمحاور الأجنبية، وساهمت معها في تدمير هذا المثلث الحضاري الكبير.
ويشير بيتر غران إلى أن «الفيض السكاني» المعاصر في الجزيرة، والمتمثل بحركة «الإخوان الوهابية» (وهي غير «الإخوان المسلمين»)، كان متعاوناً مع القوى الأوروبية في هجماتها العسكرية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على سوريا والعراق، لعرقلة تطورهما السياسي والاقتصادي وتعويق استقلالهما الوطني.
من هنا، فإن المجموعات المسلحة الراهنة الآن، «القاعدة» و «النصرة» و «داعش» وأشباهها، ليست فقط جزءاً لا يتجزأ من الحملات «الجهادية» المزوّرة بقيادة أميركا، وقد بدأت في أفغانستان في العام 1979، وإنما هي أيضاً البديل السياسي ـ العسكري عن الفيض السكاني السابق، واتجاهاته في تدمير الدول الوطنية وتأسيس دول الوكالة على أنقاضها، تحت شعارات التعددية والديموقراطية وتداول السلطة السياسية.
والملاحظ أن هذه القوى «البدائية» أخذت تركز هجماتها على الرموز التراثية والآثار والمنجزات الحضارية التاريخية في حياة شعوب المنطقة، وهي التي يسمّيها علماء الجغرافيا السياسية بعلم «الايقونوغرافيا»، والتي تعني كما يقول جان غوتمان «التمسك بالتراث والأعراف والتقاليد»، وهذه الأخيرة من القوى الجاذبة لوحدة الأمة ومتانة الدولة، وفي الوقت نفسه، تمثل هاجساً «نفسياً» لدول الوكالة، من نمط الوهابية الخليجية.
الدولة والايقونوغرافيا
وإذا كانت السعودية تشترك مع «سوراقيا» وإيران في الايقونوغرافيا «الدينية» على وجه الخصوص، وبرغم الجدل المذهبي المتفذلك، فإن تركيا خالية الوفاض من هذه الزاوية ويشكل انحطاطها الأخير في عدوانها السافر على سوريا لنقل رفات جدّ «مؤسسها» العثماني، تأكيداً جازماً على حقدها الايقونوغرافي، علاوة على استباحتها نهباً وسلباً للأبنية التجارية والأسواق والمصانع في حلب، وتدميرها المنهجي للتراث العربي - الإسلامي هناك، ومن ثم تغطيتها الكاملة لفعاليات «داعش» الهمجية في الموصل، وإبادتها للتراث العربي الإسلامي والمسيحي، وحتى التاريخي العراقي القديم. وإذا رجعنا إلى الدراسات اليابانية المكثفة في هذا المجال، رأينا أوجه الشبه مع الدور الأميركي في محاولاته استئصال الايقونوغرافيا اليابانية بعد استسلامها في الحرب العالمية الثانية وقصفها بالقنبلة الذرية.
من هنا، لابد أن نرسم الصلة الفكرية والموضوعية بين الرغبات المحمومة لدى الوهابية السياسية في تدمير «التراث»، وبالاستناد الملفق إلى الآية القرآنية الكريمة «ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر»، تتطابق بصورة مدهشة مع الفعاليات الأميركية الامبريالية في الداخل الأميركي وخارجه، والتي درسها بعمق الكاتب القدير منير العكش، خصوصاً في كتابه المرموق «أميركا والإبادات الثقافية». هنا يبدو أن الوهابية العسكرية وفي صحراء تخبّطها السياسي والعسكري، تطبق المثل البدوي «وماذا يهم إذا كان الطريق طويلاً، ففي النهاية لا بد من وجود بئر ماء» (إقرأ بئر نفط أو غاز يشفي غليل مصالح الشيوخ والشركات النفطية العالمية والشرائح الحاكمة في المتروبول الدولي).
الدولة والايديولوجيا
منذ منتصف القرن الفائت، تنازعت فكرتان عميقتان في الجدل الذي كان مستعراً داخل أروقة «السياسة الخارجية» الأميركية. الأولى يمثلها جورج كينان، والثانية يطبقها جون فوستر دالاس. وكان السجال متركزاً حول العلاقة بين الايديولوجيا والدولة في أشكالهما ومحتوياتهما المختلفة، خصوصاً تلك التي تواجهت معها الولايات المتحدة، كالشيوعية والفاشية والأفكار القومية في العالم الثالث.
كان كينان يعتقد أن «الايديولوجيا» هي أداة بيد «الدولة»، سواء كانت مستقلة أو تابعة. لكن دالاس، على العكس منه، كان مقتنعاً بأن «الدولة» هي أداة بيد «الايديولوجيا»، سواء كانت معتدلة أو متطرفة، ومسالمة أو عدوانية، مع أميركا أو ضدها! لم تنقطع هذه النقاشات وانعكاساتها العملية على السياسة الخارجية الأميركية لحد الآن.
لكن كينان ودالاس كانا ينطلقان من مصالح طبقتهما الحاكمة، كما يراها الأميركيون. ومن ثم، فإن تعميم التناقض هذا فيه شيء من التطفّل على الصراعات السياسية في سائر الأقاليم حول العالم، ومنها إقليمنا، خصوصاً لناحية اكتظاظه بالايديولوجيات المتصارعة، وازدحامه بالدول الطامحة إلى الاستقلال والازدهار من جهة، والدول القابعة في مستنقع الوكالة السياسية والاقتصادية من جهة أخرى. في هذا الإطار، وفي ظل سرعة المتغيرات الحاصلة، لا يمكن الاستناد إلى معرفة ميدانية دقيقة للتوصل إلى موقف سياسي حاد، يفصل بين الفكرتين.
الايديولوجيا وسياسة الاحتواء
برغم ما ذُكر، ثمة إمكانية للقيام بالفرز المطلوب من قبل أميركا والمعسكر الخاضع لها عالمياً وإقليمياً. ولأميركا مواقفها الذرائعية التي تخدم مناوراتها اليومية، والتي تتّصف بـ «المرونة» العالية، حيث تبادل الأدوار بين الدولة والايديولوجيا. وهذا ما يشكل الأسس الفكرية لسياسة «الاحتواء» الشهيرة. إذ إن المرونة هذه، في الحقل الايديولوجي، تهمل صمود الدولة الوطنية وتدعم دولة الوكالة. لكنها تتصل مباشرة بالهيمنة الثقافية والإعلامية التي تشكل تتمة للهيمنة البوليسية والعسكرية للدولة الامبريالية.
وهذا عنصر فعال، ذلك أن النظام الامبريالي يحدّد «الأفكار الحاكمة» في المجتمع على مستويين، مستوى الترويج للنزعات الليبرالية، ومستوى القبول بالتيارات التكفيرية المغلقة والمتعاونة مع الامبريالية ودول الوكالة التابعة. وفي الصحافة الوهابية النفطية، نعثر على النمطين يتعايشان في الصفحة الواحدة.
إن العلاقة بين أميركا والإسلام السياسي الوهابي النفطي ينطلق منذ أكثر من خمسة عقود من هذه الزوايا المدوّرة دائماً. وادعاء أميركا الكاذب في هذا الإطار، هو القاعدة الاسمنتية التي تنطلق منها لاستخدام «الاحتواء» في تعزيز علاقاتها مع دول الوكالة، والتساهل مع مؤسساتها الدينية المتخلفة وزيادة عدوانيتها حيال الدول الوطنية، فضلاً عن علاقاتها التكتونية بإسرائيل، ودعمها لـ «يهودية» الدولة هناك، في خضم الصراع الايديولوجي المتفاقم في الإقليم.