02-11-2024 03:33 AM بتوقيت القدس المحتلة

الرياض وأنقرة: حسابات الاصطفاف الجديد

الرياض وأنقرة: حسابات الاصطفاف الجديد

ما زالت أصداء التحركات السعودية تجاه أنقره تملأ أفق النقاش السياسي في المنطقة، وما انفكَّ التحالف المزمع بين العاصمتين لموازنة النفوذ الإيراني في المنطقة



مصطفى اللباد


ما زالت أصداء التحركات السعودية تجاه أنقره تملأ أفق النقاش السياسي في المنطقة، وما انفكَّ التحالف المزمع بين العاصمتين لموازنة النفوذ الإيراني في المنطقة يثري خيال المؤيدين ويثير مخاوف المعارضين. وبرغم اختطاف كلمة نتنياهو في الكونغرس الأميركي لانتباه المراقبين ليوم أو اثنين على الأكثر، إلا أن موضوع التحالف السعودي - التركي استمر معلّقاً في الأجواء الإقليمية، ويبقى مرشّحاً للبقاء فيها لفترة مقبلة. ويعود السبب في ذلك إلى أن تركيا والسعودية لا تملكان ـ موضوعياً - بدائل أفضل من التقارب في ضوء الكباش الإقليمي الحالي، برغم تباين حسابات الطرفين لهذا الاصطفاف الجديد.


حسابات السعودية

اختارت الرياض توقيت زيارة أردوغان وهي عالمة بعزلته الإقليمية، ما يعني أن رغبة السعودية في طرح اصطفاف إقليمي مع تركيا تعني بلا مواربة مواجهة إيران ومن أمامها حليفها النظام السوري، من دون نقاش تركي كثير حول «الأسس القيمية» لهذا التحالف، ومن دون سماع رطانة أردوغان حول «الربيع العربي»، وهو أمر لا تحبّذه الرياض ولا تريده ولا يناسب أهدافها الإقليمية. دخلت المفاوضات النووية الأميركية - الإيرانية مراحل متقدمة، وقدرات الرياض في التأثير على مسارها محدودة، وبالتالي فالأوفق - من المنظور السعودي - استباق نتائجها بتغيير الواقع على الأرض في سوريا لغير مصلحة إيران. وحتى تستطيع الرياض تعظيم قدرتها على مواجهة طهران وتحالفاتها الإقليمية، فقد توجب عليها ضم تركيا إلى جهدها الإقليمي. ومن ثم تطبيع العلاقات بين الرياض والدوحة، وتسيير الأخيرة بقدراتها المالية والإعلامية الضخمة وعلاقاتها الإقليمية المتشعبة في مسار التكتل الإقليمي بمواجهة طهران، لأن الدوحة احتفظت لنفسها بمسافة واضحة عن السعودية فيما يخص إيران طيلة العقد الماضي. هنا تظهر بوضوح الفوائد السعودية من ضم تركيا إلى التحالف الإقليمي الجديد، أما الخسائر فتبدو ـ من المنظور السعودي مقارنة بالفوائد - ممكنة الاحتمال. الخسائر السعودية المحتملة للتحالف مع تركيا هي: أولاً امتعاض القاهرة، ثانياً تحفّظ أبو ظبي، ثالثاً الخلاف المرتقب مع أنقره في حال إطاحة الرئيس السوري، لمعرفة السعودية بأفضليات تركيا في النظام السوري الجديد التي تتصادم مع أولوياتها. فيما يخص القاهرة يبدو بوضوح أن عامل الإسناد المالي السعودي للنظام المصري يعطي الرياض ورقة ضغط لا يمكن الاستهانة بتأثيرها، خصوصاً في ضوء التحديات الاقتصادية والأمنية والسياسية التي تمر بها القاهرة. وفيما يخص أبو ظبي، تعتقد الرياض أن العباءة الخليجية والمصالح المشتركة ستخففان كثيراً من ردّ الفعل الإماراتي المتحفّظ على تركيا وجماعة «الإخوان المسلمين»، حتى مع الانتعاش المرتقب لأدوار الدوحة في معية الاصطفاف السعودي - التركي الجديد. أما فيما يخص الموقف من ملامح النظام السوري الجديد ـ في حال سقوط النظام الحالي ـ فتعتقد الرياض أن لا حظوظ لها كلياً مع النظام الحالي الواقع بالكامل في القبضة الإيرانية، وبالتالي عند سقوطه ستتاح للرياض الفرصة للتأثير في خيارات تركيا بوسائل متنوعة فيما يخص الرئيس السوري الجديد.

حسابات أردوغان

عاشت تركيا فترة عصيبة قبل قيام أردوغان بزيارته الأخيرة إلى السعودية، فأنقره عانت من عزلة إقليمية قلّ نظيرها بعد إطاحة حكم جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر. وتحولت أنقره من «قبلة الثائرين» و «منارة التحديث» بعد انتفاضات «الربيع العربي»، إلى طرف إقليمي له أطماع في المنطقة يتوسّل نفوذه بالتحالف حصرياً مع «الإخوان المسلمين» في ساحات «الربيع» كلها: تونس وليبيا ومصر وسوريا. ومع إطاحة الجماعة في أعقاب تظاهرات 30 حزيران 2013 من الحكم في مصر، وخسارتهم نتيجة الانتخابات التونسية، وانحدار الحراك في ليبيا إلى حرب أهلية، وضياع الجماعة على موائد الرغبات الإقليمية والدولية بخصوص سوريا، فقد ذهب حلم أردوغان في القيادة الإقليمية أدراج الرياح. وتحول «الربيع العربي» من فرصة ممتازة لتركيا كي تمدد نفوذها الإقليمي في مرحلته الأولى، إلى عازل لتركيا في مرحلته الثانية مع تبلور تحالف سعودي - مصري - إماراتي يعزل أنقره ويمنعها من تمديد نفوذها بالمنطقة. ومع الخطوط الحمر الأميركية والاعتبارات الداخلية التركية، فقد رُسم خط أحمر واضح لتركيا لجهة انخراطها بفعالية في الشأن السوري، فلم يتبق لها سوى غضّ الطرف عن «داعش» وتحويله إلى ورقة في المساومات بين أنقره وواشنطن. في لحظة التخلي الإقليمية هذه، جاءت الدعوة السعودية من الملك الجديد سلمان بن عبد العزيز، لتكسر طوق العزلة الإقليمية عن تركيا. لم يتأخر الرئيس التركي بالطبع عن تلبية الدعوة، مع علمه بأن السعودية لا تحبذ عودة «الإخوان المسلمين» للحكم في مصر، وإنما في أفضل الأحوال تحويلهم من قضية صراعية في مصر إلى فصيل سياسي لا يحظى بمرتبة اللاعب الأول، وبالتالي تركيز الأولويات الصراعية على الخطر الإيراني المتمدد. بمعنى آخر، المعروض على تركيا كسر طوق عزلتها الإقليمية مقابل انخراطها في اصطفاف جديد لموازنة النفوذ الإيراني، بحيث تكون سوريا ساحة لأفعال وتجليات ذلك الاصطفاف الجديد. لم تعد خيارات تركيا كثيرة في الواقع، بعدما أرست تحالفاتها حصرياً على جماعة «الإخوان المسلمين». وبالتالي، وفي كل الأحوال، مثّلت زيارة أردوغان للسعودية مكسباً بفك عزلته الإقليمية أولاً، والانطلاق نحو تغيير غريمه النظام السوري ثانياً. يُمنّي أردوغان نفسه بأفضل الفرص في إيصال رئيس سوري جديد يتخذ من أنقره مرجعيــــته الإقليمية؛ وفي تحويل الشمال الـــسوري ـ من حلب وحتى إدلب ـ إلى منطـــقة «حدود رخوة» تعرف هيمنة اقتصادية تركية.

الخلاصة

لا تبدو التحركات السعودية تجاه تركيا و «الإخوان المسلمين» متعلقة فقط بتغيير شخص الحاكم من الملك الراحل عبد الله إلى الملك الحالي سلمان، وإنما بالأساس إلى تبدّل التوازنات الداخلية السعودية بالتوازي مع تغير التوازنات الإقليمية. ربما يكون لتفسير هيمنة «الجناح السديري» على الحكم من جديد بعض الوجاهة التفسيرية للتحول في السياسة الإقليمية السعودية، لكن مقتضيات التحالف بين العائلة السعودية الحاكمة بكامل أجنحتها والمؤسسة الدينية الوهابية كأساس لمشروعية الحكم، تملك قدرة تفسيرية أعلى لأسباب تغير السياسة الإقليمية السعودية، حتى تصبح أكثر صلابة في مواجهة إيران الشيعية. في هذه الحالة، تحقق السياسة السعودية الجديدة هدفين ثميـــــنين: الأول تمتين التحالف السعودي ـ الوهابي في الداخل بعد «الإصــــلاحات» التي قام بها الملك الراحل عبد الله على محــــدوديتها، والثاني تصليب المعسكر السعودي في مواجهــــة إيران وتحالفاتها الشيعية. ولا يخفى في النهاية بأن التكتل السني في مواجــــهة التكتـــل الشيعي، أمر يصب في التصورات الأميركية الخاصة بترتــــيب الأوزان الإقليمية في المـــشرق العربي والمنطـــقة، بحيـــث يحجّم كل منهما الآخر من دون أن يقضي عليه.

من الناحية العملية، تعرف السعودية قدراتها وحدودها، فهي تواجه إيران على الأقل منذ احتلال العراق العام 2003، وتواجه تركيا في الوقت نفسه منذ العام 2013. ومن شأن تحويل تركيا من منافس إلى شريك بمقتضى السياسة السعودية الجديدة، تسهيل المهمة السعودية في مواجهة إيران. لكن ومن وجه ثانٍ، يعني سعي الرياض نحو الاصطفاف مع أنقره على وجاهة أسبابه من المنظور السعودي، عملياً إلحاق الرقم العربي في المعادلة الشرق أوسطية ـ على تراجعه وتضاؤل تأثيره ـ بتركيا الطامحة في صراع التوازن مع إيران الناخرة فعلياً لهذا الرقم. إذا كان تشخيص الداء الحالي هو تراجع الرقم العربي في المعادلة الإقليمية بسبب تعاظم أدوار القوى غير العربية، فالدواء يتطلب بداهة تعظيم الرقم العربي في المعادلة أو تخفيف أدوار القوى غير العربية حتى لا نقول كلاهما معاً. أما الاستعانة بأحدها في مواجهة الأخرى، فيعني انطباق المثل القائل: «وداوني بالتي كانت هي الداء».

لم تعد حواضر العرب الكبرى في المشرق العربي فاعلة في رسم توازنات المنطقة، إذ أصبحت الصراعات / التحالفات في المنطقة تدور في دائرة أقطابها السعودية وإيران وتركيا. في هذه الأثناء، سيعود عرب كثيرون في المشــــرق العربي وخارجه لـــــتذكر بيتي شعر لبيد بن ربيعة العامري المتوفى العام 661 ميلادية:

فَإِن تَسأَلينا فيمَ نَحنُ فَإِنَّنا .. عَصافيرُ مِن هَذا الأَنامِ المُسَحَّرِ

عَبيدٌ لِحَيِّ حِميَرٍ إِن تَمَلَّكوا .. وَتَظلِمُنا عُمّالُ كِسرى وَقَيصَرِ


http://assafir.com/Article/18/406411

 

موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه