24-11-2024 05:51 AM بتوقيت القدس المحتلة

عن عدن «العاصمة» و«الحراك الجنوبي»

عن عدن «العاصمة» و«الحراك الجنوبي»

لم يكن في الجنوب اليمني يوما صراع على الهوية الوطنية. الصراع كان دوما على مفاعيلها ومخرجاتها، وعلى امكانية استثمارها ووجهة هذا الاستثمار

 

 

عبد الله زغيب

 

لم يكن في الجنوب اليمني يوما صراع على الهوية الوطنية. الصراع كان دوما على مفاعيلها ومخرجاتها، وعلى امكانية استثمارها ووجهة هذا الاستثمار. الإرث اليساري للدولة الاشتراكية كان واضحا في النشاط السياسي. مطالب الانفصال او الفدرلة كانت انعكاسا لتراكم تاريخي ساهمت في قولبته نخبة صنعاء الحاكمة. لكن واقع «إسقاط النخب» الذي تعيشه عدن اليوم أوجد معركة لتحديد الهوية، واعادة انتاجها في زحمة المشاريع الداخلية والاقليمية والدولية.

تختصر عدن الفسيفساء السياسية على طول الساحل اليمني، والجنوبي تحديدا. فالمدينة صاحبة المشروع المختلف عن النسق السياسي في صنعاء، باتت اليوم بيئة حاضنة للتناقضات اليمنية بشقيها الشمالي والجنوبي كلها، فهي تعيش تغريبة لم تكن بالحسبان. والتبدل من حال الى آخر لم يكن نتاجا طبيعيا وبسياق سلس، انما جاء بمثابة الاعصار الذي أعاد تحديد المسار أو اللامسار، بمعزل عن أي طبيعة قائمة للمشروع «الوطني» هناك، وباتت القضية رفضا لـ «انقلاب» حوثي مفترض، او استعدادا لوقف «مدّ» حوثي محتمل. وبين الانقلاب والمد، ضاعت بوصلة الجنوبي وجنّ جنون مؤشرها، في ظل «الانحراف» السريع عن عناوين سابقة كإصلاح أخطاء الحروب اليمنية وتعزيز التكامل من جهة، أو العنوان الاكثر رومنسية وراديكالية والمتمثل في الانفصال والعودة الى نموذج ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي مع دولتين شمالية وجنوبية.

ساحة «خور مكسر» في قلب عاصمة الجنوب اليمني عدن اكتسبت منذ منتصف الصيف الماضي اسما جديدا هو «ساحة الاعتصام». هناك تنصب الخيم وتقام الندوات اليومية منذ منتصف الصيف الماضي، في استحضار ناجح على المستوى التنظيمي للنموذج الاوكراني مع الثورة البرتقالية في كييف 2004-2005. العناوين كانت منذ انطلاق الفعاليات تتمحور حول «استقلال» الجنوب أو على الأقل الركون الى استفتاء شعبي لتحديد المصير. وتنوعت الاطراف الفاعلة بين «الحراك الجنوبي» الذي يحوي آلاف الجمعيات والهيئات والشخصيات، وأنصار الزعيم الجنوبي علي سالم البيض، اضافة لمئات الجمعيات «الحديثة العهد»، التي تحمل اسماء مختلفة وكان أنشطها مؤخرا لجنة «الشهيد خالد الجنيدي». الترويج اليومي «لمشروع انفصالي» في ساحة خورمكسر أوجد ما يسمى «الفعاليات اليومية» في مختلف المحافظات الجنوبية. وباتت عمليات رفع أعلام «جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية» عملا يوميا في مختلف المؤسسات الحكومية، في تحد واضح للحكومة المركزية في صنعاء، وفي ترويج فعّال لمفهوم «الانفصال» كمخرج لمختلف الازمات السياسية والامنية والمعيشية للمحافظات الجنوبية، حتى تمكن الحراك هذا من خلق «روتين ثوري» كاعلان كل خميس يوما «للاسير الجنوبي»، ويوما آخر «للعصيان المدني» في كل اثنين.

لشهور استمر العمل الاحتجاجي في عدن ولحج وأبين وغيرها ضمن أدبيات «الحراك السلمي» تلك، التي كانت ترى في كل ما يخرج عن أو من أروقة السياسة في صنعاء أمرا مرفوضا، حتى بات للرئيس اليمني قبل الاستقالة والعودة عنها عبد ربه منصور هادي اسما خاصا في عدن، هو «الرئيس المعيّن». وكان لزعامات او قيادات كالجنرال علي محسن الاحمر ألقابا يصفه بعضها بـ «مجرم حرب»، ولـ «حزب الإصلاح» إدانة آنية وأخرى تاريخية. فالحزب كان على رأس أعوان الرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح في الحرب اليمنية العام 1994، ما جعل «الاصلاح» منبوذا من الحراك الجنوبي ودائرته الواسعة ومتهما دائما «بالتكفير»، لكن ذلك لم يعق عمل الحزب الذي حظي بدعم حكومي واسع وغير مسبوق في الجنوب منذ العام 2011.

في المقابل، كان «انصار الله» خارج سرب «العداوة» الشمالية. ولكونهم مكونا أساسيا في المشروع الخارج على سلطة «المؤتمر الشعبي» وحلفائه في ثورة العام 2011، كسب التنظيم الحوثي ودا جنوبياً واسعاً، خصوصاً انه لم يكن جزءا من فسيفساء الحرب الاهلية اليمنية بنسخها المتعددة، حيث يحسب للراحل بدر الدين الحوثي موقفه الرافض لما جرى في حروب العام 1986 الجنوبية الداخلية و 1994 اليمنية الاهلية، اضافة لحرص وريثه عبدالملك على مشاركة الحراك الجنوبي في الحوار الداخلي قبل أحداث صنعاء في نهاية ايلول 2014 وسيطرة جماعته على السلطة. إلا أن «الإرث الودود» لم يكن كافيا لضمان الابتلاع السلس جنوبا لتقدم الحوثيين السريع في الشمال. فالحوثي، وإن أظهر مرونة سياسية هائلة في صنعاء، خصوصاً في «التحالف» غير المعلن مع «المؤتمر الشعبي» او مع ثقل الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح في «المؤتمر»، فإن هذه المرونة في تخطي العداوات التاريخية بإرثها الدموي، لم تكن واضحة المعالم في تعاطي الخطاب الإعلامي الحوثي مع الجنوبيين. فبرغم عدم ارتباط «انصار الله» بكل صراعات اليمنين، إلا ان تحالفاتهم المستجدة فرضت عليهم أجندات جديدة.

الوحدة «الإندماجية» غير الفدرالية بين صنعاء وعدن عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، واستفراد الرئيس علي عبدالله صالح بجاره الأصغر، باتت تركة ثقيلة على أكتاف الحوثيين. وباتت امكانية المناورة كالحديث عن استفتاء او استطلاع او تقرير مصير، من المحرمات «الوطنية». هذه الحقيقة التي استشعر فيها الجنوبيون مبكرا، باغتتها الأحداث، وجاءها من حيث لم تحتسب الرئيس المستقيل عبدربه منصور هادي ومعه ائتلاف «الفارين» من صنعاء، لبناء اسوار جديدة وخوض معركة تتنوع فيها العناوين والاساليب بين الشرعية والسياسية، كجعل عدن عاصمة موقتة، والاهم كان في البعدين الامني والعسكري. فبات شعار الوحدة حاضرا «بالقوة القاهرة»، وأضحت عدن ملاذا آمنا أيضا بالقوة لكل المنبوذين فيها منذ 25 عاما.

وبطبيعة الحال، لم يعد لفكرة الانفصال ارضية مدعومة من البنية السياسية الفوقية. وبرغم احتمالات قولبة الجنوب في وجه الحوثيين، إلا ان ايا من انصار منصور هادي أو «التجمع اليمني للإصلاح» او آل الاحمر وعلي محسن وغيرهم، لن يقبل بأقل من الكعكة اليمنية كاملة، أو على الأقل العودة الى طاولة «الصفوة» في صنعاء مجدداً، مهما كان عدد المقاعد مقتضبا. وبالتالي، فان الحدود المتاحة من أصحاب الكلمة حاليا في عدن لأصحاب الساحات، هي الاستثمار الموزون للقضية الجنوبية بما لا يفتح الباب امام انصار الانفصال. ففي نهاية المطاف، الثقل الحقيقي الوازن لدى الرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي وحلفائه، إن في «الإصلاح» أو «حاشد» وغيرهم، يتمثل في شخصيات «لاجئة» من الشمال بمالها ورجالها «بانتظار السلاح». لذلك بات واضحا نأي الحراك الجنوبي وحلفائه بأنفسهم عن الصراع مع الحوثيين، والتزامهم في نشاطاتهم اليومية بأدبيات ما قبل أدبيات «المد» و «الانقلاب».

صدم الحراك لدى معرفتهم بخبر تعيين العميد ثابت جواس قائداً لقوات الأمن الخاص (الأمن المركزي سابقاً) خلفاً للعميد عبدالحافظ السقاف. وهو أمر يحمل بعدين هما الاثقل منذ بداية الازمة مع وصول الرئيس المستقيل الى عدن. فالرجل هو المتهم المباشر بقتل حسين الحوثي، الأخ الاكبر لعبدالملك الحوثي ومؤسس «انصار الله»، بعدما اطلق النار عليه العام 2004 في حرب صعدة الأولى. وهذا يعني ان التركيبة الامنية للكتلة السياسية المستحدثة جنوبا ستوجه بشكل مباشر نحو صراع محتمل ضد الحوثيين. وفي هذا انحراف غير مبرر، بحسب «الحراك»، «للقضية الجنوبية». والبعد الثاني يتمثل في أن العميد الجواس اتهم خلال حرب العام 1994 بين الشمال والجنوب «بخيانة» الرئيس علي سالم البيض والهروب من الميدان بالتعاون مع زعماء قبليين. وهذا يعني ان الرجال السابقين للرئيس المخلوع علي عبدالله صالح هم اصحاب الكلمة في عدن بمعزل عن اي مشروع سياسي قائم هناك قبل العام 2015.

ومن أبرز وجوه عملية اعادة الهيكلة للوعي الجنوبي على المستويين السياسي والعقائدي، ما يحصل منذ مطلع آذار الجاري. فللمرة الاولى في تاريخ الجنوب اليمني تمارس جماعات «تكفيرية» نشاطاتها الاعلامية بحريّة منقطعة النظير، حيث اصدرت «اناشيد مصورة» تحمل الخلفية العقائدية الكاملة للتنظيمات الإرهابية المنتشرة في المشرق العربي كـ «النصرة» و «داعش»، بأدبيات يمنية جنوبية محليّة. ومنها يسمع المواطن العدني مصطلحات لم يعهدها من قبل في كل التبدلات الباردة او الحامية التي شهدتها بلاده، «كالرافضة» و «التشيّع» و «الخوارج» وغيرها.


http://assafir.com/Article/18/406623

 

موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه