لا أبالغ إذا قلت إنّ سياسات وممارسات الكثير من المسؤولين الغربيين، خصوصاً الفرنسيين والبريطانيين، تقوم أساساً على الكذب والنفاق وازدواجية المعايير
د. فيصل المقداد
لا أبالغ إذا قلت إنّ سياسات وممارسات الكثير من المسؤولين الغربيين، خصوصاً الفرنسيين والبريطانيين، تقوم أساساً على الكذب والنفاق وازدواجية المعايير. ولا يتورّع هؤلاء المسؤولون في تعاملهم مع الأوضاع في المنطقة العربية عن استخدام الأساليب الأكثر انحطاطاً وسخافةً في تاريخ العلاقات الدولية. فالكثير من هؤلاء المسؤولين لا يرى في العالم الآخر إلاَّ ما يخدم مصالحهم الشخصية والمواقف الرخيصة لحكوماتهم على حساب الحقيقة. وإضافةً إلى ذلك، فإننا في إطار ما يواجهه العالم من مخاطر جدّية على الأمن والسلم فيه، فإننا نلاحظ أنّ مواقف الغرب البعيدة عن المبادئ والقيم الكونية لم تتغيّر على الإطلاق منذ أيام الاستعمار والاحتلال المباشر إلى ما نسمّيه الآن في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين على أنه الاحتلال والاستعمار غير المباشر.
لقد أصدرت الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي الكثير من القرارات التي قامت ببنائها على معاناة وآلام الشعب السوري وتعميق الأزمة التي يمر بها، إلاَّ أن ما أصبح أمراً تم التسليم به الآن هو تناقض هذه القرارات والسياسات مع المصالح الأساسية للشعب السوري. فكيف يمكن للحكومتين الفرنسية والبريطانية فرض عقوبات على السوريين أشخاصاً ومؤسسات والادعاء أن هذه العقوبات الاقتصادية في شكل خاص تخدم الشعب السوري! وفي هذا المجال، أصدر الاتحاد الأوروبي قراراً فرض بموجبه عقوبات على مجموعة من السوريين بذريعة قيام حوالى ثلاثة عشر ما أسموه «جهة» تعمل في مجال مشروع استخدام الأسلحة الكيماوية، وهو كلام عارٍ من الصحة، وأثبتت تقارير منظمة حظر الأسلحة الكيماوية تناقضه مع ما تم إنجازه في هذا المجال. وقد علمنا من العديد من الدول الأوروبية التي أصبح مسؤولوها يشتكون كثيراً في السر وقليلاً في العلن من هيمنة النظام الفرنسي على قرارات الاتحاد الأوروبي بمختلف مؤسساته، إن فرنسا قد قدمت، بالتوافق مع آخر المتعاطفين معها مثل بريطانيا، قائمة الأسماء الأخيرة حيث وافق الآخرون إذعاناً عليها. فإذا كانت هذه الآلية المتبعة في الإطار الأوروبي لاتخاذ قرارات تجاه الدول المستقلة ذات السيادة، فإن ذلك يظهر الوضع المتدهور الذي وصل إليه الوضع الدولي والعلاقات الديمقراطية في العلاقات بين الدول التي يرفض دعاة الديمقراطية هؤلاء مجرد مناقشتها في الأمم المتحدة والمنتديات الدولية الأخرى. ولا يمكن، ونحن نتناول قضايا آليات فرض العقوبات على الدول النامية والصغيرة بل وحتى على الدول الكبرى مثل روسيا والصين، إلاّ أن نتحدث عن الدور الأميركي في فرض هذه التوجهات على عالم اليوم، إذ أن فرنسا أعجز من فرض مثل هذه السياسات اللاأخلاقية لولا الطلب المباشر وغير المباشر الموجه إليها من قبل الولايات المتحدة. وفي هذا المجال، فإننا نجافي الحقيقة والواقع إن لم نقل إن مثل هذه الإجراءات إنما تتم أصلاً بناءً على توجيهات وتعليمات من قبل الإدارات الأميركية في إطار توزيع الأدوار. وقد وصل الأمر، في سياق متابعة تنفيذ مثل هذه العقوبات، بما في ذلك الإجراءات أحادية الجانب، وهو الاسم الدبلوماسي الوحيد لها، عندما يصل مفتشو أجهزة الاستخبارات الأميركية ووزارة الخزانة فيها إلى معظم بنوك العالم للتفتيش على حساباتها في شكل مباشر ومراقبة حركتها المالية للتأكد من أن الجزاءات يتم تنفيذها على سورية وروسيا وغيرها كما تشتهي الولايات المتحدة وربيبتها «إسرائيل»، من دون أي اعتبار لسيادة واستقلال الدول ومصالحها ومصالح مؤسساتها المالية المباشرة.
ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه هو تعامل الغربيين مع قضايا مكافحة الإرهاب في العالم حيث يزعم هؤلاء الوقوف ضد الإرهاب في مالي وتشاد وأفريقيا الوسطى، وكلها دول كانت مستعمرات فرنسية سابقة، بينما يتعامل هؤلاء مع الإرهاب والإرهابيين في سورية وباقي الدول العربية بطريقة مواربة. والعالم كله أصبح يعرف الآن، خصوصاً قبيل بدء السنة الخامسة على بدء الحرب الإرهابية على سورية، كيف دعم الغربيون هذه الحرب الإرهابية المعلنة من قبل فلول عصابات الإخوان المسلمين المجرمة وحلفائهم من قطعان الوهابيين والداعشيين والنصرويين الذين نشروا الفساد في الأرض وشوّهوا الدين الإسلامي واشتروا ولاء القتلة والمجرمين لهم مقابل دولارات البترول بهدف وحيد وهو قلب حركة التاريخ نحو الوراء وإعادة عقارب الساعة وخطوات التاريخ إلى عقلية العصور الوسطى. وفي هذا المجال تحالف الديمقراطيون الغربيون من ساركوزي وهولاند وآخرين مع أعتى أشكال التسلّط والتخلّف من أنظمة شمولية ليس في منطقة الخليج فقط، بل في أجزاء أخرى كثيرة من العالم توزع الأدوار على قادتها ليقوموا بتنفيذها من دون أي سؤال أو جواب. وعندما يقوم آخر ملحق في السفارات الأميركية والفرنسية والبريطانية وغيرها بتقديم التوجيهات لمن يطلقون على أنفسهم ملوكاً ورؤساء وأمراء فإنها تحظى بالطاعة ويقوم ممثلو هؤلاء في جنيف ونيويورك ومنابر دولية أخرى بالتصويت لها أو تبنيها من دون قراءتها، وأنا لا أبالغ في ذلك.
إن توزيع الأدوار بين الدول النافذة في الاتحاد الأوروبي وفي الولايات المتحدة أصبح أمراً معروفاً لكل من يفهم في ألف باء السياسة الدولية، لكن أن يُبنى توزيع الأدوار على أسس لا أخلاقية فهذه هي المشكلة. والمشكلة الأكبر هي ممارسة مثل هذه السياسات التي تتناقض مع المبادئ التي اعتمدتها الدول الأوروبية منذ ويستفاليا مروراً بصياغة القانون الإنساني الدولي في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر وأخيراً في القرن العشرين، قبيل وبعد الحربين العالميتين الأوروبيتين بامتياز، فإن ذلك لا يعتبر إلاَّ تضليلاً للذات وكذباً على النفس قبل أن يكون كذباً على الآخرين. وأنا هنا لا أطبق مثل هذه العبارات على جميع المسؤولين الأوروبيين طبعاً، فالتعميم من حيث المبدأ لا يجوز ولا ينطبق على الجميع في مختلف الحالات.
ومما يدل على أكاذيب العديد من المسؤولين الأوروبيين هو دعمهم للإرهاب والإرهابيين عندما يتعلق الأمر بسورية، إلاَّ أنهم يزعمون مكافحة الإرهاب الذي تمارسه بوكو حرام في نيجيريا التي أعلن قادتها ولاءهم للإرهابي البغدادي ويدّعون أنهم ينسّقون سبل مكافحتها مع الحكومة النيجيرية، لكنهم يمارسون الكذب عندما يقولون أن «داعش» في سورية وضعها مختلف ولا يوجهون ولو كلمة لوم إلى حكومة أردوغان في تركيا التي يقول زعماء المعارضة التركية وبعض المسؤولين السابقين في النظام التركي مثل عزيز تاكجي، وكيل النيابة التركية السابق في مدينة أضنة: «إن تركيا قد تحولت إلى جنة للإرهابيين». وكان تاكجي قد أكد في لقاء له مع الإعلام التركي أن الشاحنات التي أمر بتفتيشها في 19 كانون الثاني عام 2014 لم تكن تحمل مساعدات إنسانية إلى سورية، كما ادعى جهاز الأمن التركي، بل كانت تنقل معدات عسكرية وأسلحة متوجهة إلى التنظيمات الإرهابية هناك.
تعودنا أن تتضامن معظم دول الاتحاد الأوروبي مع بعضها إزاء بعض السياسات الخارجية التي قد تضر بمصالح إحداها. إلا أن ما كنا قد تحدثنا عنه سابقاً من ارتباط بعض المسؤولين الأوروبيين والأميركيين بمصالح شخصية أو مصالح ضيقة بعيداً عن استراتيجيات الاتحاد ودوله الأعضاء والقيم التي يبشرون بها، فإننا لم نعثر على أي أثر لهذا التعاون والتضامن عندما منع النظام السعودي وزيرة خارجية السويد مارغو والستروم من الحديث أمام المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية بناءً على دعوة تلقتها وزيرة الخارجية السويدية من الجامعة إثر تعرضها لحملات من قبل جهات معروفة بعد اعتراف حكومتها بالدولة الفلسطينية. هنا فاحت رائحة صفقات السلاح وعمولاتها بين دول مثل فرنسا وبريطانيا وغيرها وأولويتها على المبادئ والقيم الأوروبية والجيوب المملوءة بأموال النفط من قبل الكثير من المسؤولين الأوروبيين الذين لم ينبسوا بكلمة دفاعاً عن قيمهم المزعومة أو دفاعاً عن زميلتهم التي أهانتها السعودية وجامعتها في القاهرة وهذا طبعاً لا يعني، في مفهوم الاستراتيجية السورية وقيمها، إننا نتبنى أي من وجهات النظر الأوروبية بما في ذلك السويدية وأجنداتها إزاء الأوضاع السياسية والإنسانية في الدول العربية أو في المنطقة بما في ذلك مسائل حقوق الإنسان واحترام الشرعية الدولية.
عندما تتهاوى القيم والمواقف الأوروبية والأميركية أمام المصالح الضيقة والشعارات الفارغة، فإن ذلك يدل على عقم هذه السياسات الأوروبية وسقوط مسؤوليها. وإذا كنا قد قمنا بالانضمام إلى الكثير من الأصوات في أوروبا التي تعلن رفضها لسياسات المعايير المزدوجة والسياسات الرخيصة وقصيرة النظر للمسؤولين الأوروبيين والتي لا تعبر عن آراء الشعوب الأوروبية، التي نحترمها ونقدر قيمها، فإننا أردنا التحذير من مغبة الاستمرار في انتهاج هذه السياسات من قبل المسؤولين الأوروبيين التي فقدت مصداقيتها وأدت إلى تفاقم أوضاع عالم اليوم ومشاكله الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ناهيك عن التوتر الذي تشهده العلاقات الدولية وأدى إلى تعميق الهوة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب. فما هي المصالح الحقيقية للغرب في تفتيته لبلد مثل ليبيا ودعمه المستمر للوهابية والإخوان المسلمين وتزويده بالمال والسلاح للعصابات الإرهابية التي تقتل السوريين والليبيين والمصريين واليمنيين والجزائريين؟ أما الفواتير التي يجنيها الغرب من دعمه للإرهابيين في «داعش» و«جبهة النصرة» و«الجيش الإرهابي الحر» و«جيش الإسلام» وتصوير بعض هؤلاء على أنهم معارضة مسلحة معتدلة، فقد ثبت عقمها وسقوطها وعدم إمكانية الدفاع عن دوافعها ولا من النتائج الكارثية التي تترتب عليها.
فمتى يصدق المسؤولون الغربيون؟
http://www.al-binaa.com/?article=31975
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه