لم تعد شبكتا «فوكس نيوز» و «سي أن أن» تتردّدان في إظهار التعصّب العلني، وبشكل مكثّف، ضدّ المسلمين، خصوصاً في الأشهر الماضية، بعد حادثة «شارلي إيبدو». شكّلت تلك الحادثة أيضاً نقطة تحوّل بالنسبة لقناة مثل «فرانس 24»
يمكن لمتابع القنوات الإخباريّة العالميّة، تلمّس تغيّرات في نهجها على نطاق عالمي. تغيّرات تتجاوز المحطات المحليّة أو العربية، وتشي بأن انقلابات إعلامية تحصل بالتزامن مع التغيرات السياسية والاقتصادية. نشرات الأخبار لم تعد رتيبةً بعد الآن، فهناك سفيرٌ أميركي ينزف في كوريا الجنوبية، وهناك نتنياهو يمثّل دور جليس أطفال في إعلان انتخابي...
كلّ ذلك بالتزامن مع تقارير أكاديميّة وصحافيّة، تتحــدّث عن تراجع دور القنوات الإخباريّة كما عرفناها في السنوات العشر الماضية، مع خفوت تأثيرها في صناعة الخبر، لصالح مواقع التواصل.
في محاولةٍ لاستنباط بعض التوصيفات لنمط التغطية الإعلامية الحالي، قد يصل المتابع لاستنتاجات صادمة بعض الشيء. بالرغم من أن تحديد التوجهات العامة للإعلام اليوم، قضية معقّدة، لا يمكن اختصارها في مقالات موجزة، لكن يمكن الإشارة إلى بعض اتجاهات الإعلام التلفزيوني الإخباري اليوم، وفي مقدّمتها النبرة الطائفيّة غير المسبوقة. لا ينحصر ذلك في خطاب القنوات الإخباريّة العربيّة، مع وصول بعضها إلى مرحلة خطيرة من التجييش الطائفي وبث الكراهية وتعميم اللغة الطائفية، بل ينسحب أيضاً على الإعلام الأميركي، بشكل أوضح وأكثر فجاجة من السابق.
على سبيل المثال، لم تعد شبكتا «فوكس نيوز» و «سي أن أن» تتردّدان في إظهار التعصّب العلني، وبشكل مكثّف، ضدّ المسلمين، خصوصاً في الأشهر الماضية، بعد حادثة «شارلي إيبدو». شكّلت تلك الحادثة أيضاً نقطة تحوّل بالنسبة لقناة مثل «فرانس 24»، إذ تكاد لا تخلو نشرة أخبار واحدة على القناة الفرنسية من أخبار مبنية على التناقضات الدينية والطائفية، كالتركيز على مصير الجالية اليهودية في فرنسا، أو بثّ تقرير بعنوان «الأقلية المسيحية في النيجر وصدمة التعايش بين الطوائف» (8/3)، إلى جانب تقرير آخر حول صدمة الشارع اللبناني إثر استقطاب تنظيم «الدولة الإسلامية» لشابَيْن مسيحيين (6/3)، وقائمة الأخبار الطائفية تطول وتطول.
إلى جانب التقدّم غير المسبوق للخطاب الطائفي، وفي سياق متّصل، يمكن اعتبار هذا العصر بامتياز، عصر الإعلام الجهادي، المباشر والمضاد، مع طغيان الاهتمام بكل ما ينبثق عن «داعش» من وثائقيات وبرام. إذا ما تم تنفيذ دراسة كميّة لحجم ساعات البث والمساحات الإعلامية التي تم تخصيصها لتغطية أخبار التنظيم وكل ما ينبثق عنه، ستكون الأرقام والإحصاءات صادمة بالتأكيد، بشكل يدعو للسؤال إذا ما كانت «أسطورة داعش» واحدة من الضربات الإعلاميّة الأبرز لهذا العصر.
وبالتزامن مع الاهتمام بالإضاءة على التطرف الداعشي، يمكن ملاحظة وجود تخبّط في التعامل مع صعود التيارات اليمينيّة، وتصدّر أحزابها المشهد السياسي في العديد من الدول الأوروبية، بدءاً من الاهتمام الإعلامي بالحملات الانتخابية للأحزاب السياسية في إسرائيل، ومروراً بالاهتمام الأخير بتصريحات مانويل فالس رئيس الوزراء الفرنسي الذي عبّر عن خشيته من تشرذم فرنسا في مواجهة أفكار حزب «الجبهة الوطنية» اليميني المتطرف بمناسبة الانتخابات الإقليمية التي تجري حالياً (بين 22 و29/ آذار الحالي).
يأتي ذلك بالتزامن مع حركات يمينيّة متطرّفة من كلّ لونٍ وشكل، في مقدمتها حركات النازيين الجدد وحركة بيغدا في ألمانيا. حيث تعلن تلك الحركات كراهيتها للجميع من مسلمين وذوي البشرة السوداء، وبذلك تشكل أنشطتها مادةً لا تنضب لنشرات الأخبار.
يقدّم كل ذلك صورة إعلام عالمي، دموي ومتطرف، تتلاشى فيه الحدود بين الجد والهزل. لا يكاد المشاهد يعلم إن كان ما يراه خبراً في نشرة أخبار أم مشهداً سينمائيّاً هزيلاً. وفي الوقت الذي تزداد فيه التخبطات الإعلامية يتصاعد الوعي العام بدور الإعلام في كل ما يحصل في العالم. إذ يمكن القول أيضاً أن من أبرز خصائص هذه الحقبة الإعلامية، كثرة البرامج والمبادرات التي تهتم اليوم بتحليل دور الميديا وكشف زيف القنوات العالمية وكذبها.
وفي ظل بحث صناع الأخبار عن الإثارة والغرابة، تغيب أكثر فأكثر البرامج التحليلية التي تعالج الخلفيات السياسية والاقتصادية المفسرة للانقلابات النوعية التي تجري في العالم اليوم. فالجميع مثلاً يعلم أن الطيار الأردني «الكساسبة» مات حرقاً في قفص، لكن هناك أسئلة أكثر مللاً وتعقيداً يعجز المشاهدون عن إيجاد إجابات شافية لها، مثل ماذا يحصل حقاً في اليونان، أوكرانيا، فنزويلا، وغيرها من بقاع هذا العالم المضطرب.