لم يكد عمرو بدوي يعبر عن نيّته بالسفر إلى إيران، حتى جُوبه بسيل من المخاوف والشكوك التي جسدتها نظرة شرطي المطار الذي فحصه بعين الريبة.وأوصاه الأصدقاء بعدم الحديث إليهم بعد عودته متوقعين له رحلة أخرى في أروقة أمن القاهرة..!
في مؤلفه الذي يذكرنا بمتعة وفوائد أدب الرحلات، يذهب الكاتب المصري الشاب إلى إيران، ويعود منها بتفاصيل اجتماعية وثقافية وسياسية تختلف عن الصورة الحصرية التي تقدمها نشرات الأخبار والتصورات الجاهزة عن «جارتنا اللدودة». كتابه «مسافر الكنبة في إيران» (دار «مقام» للنشر والتوزيع) يعدّ مغامرة يتخللها الكثير من الكوميديا والدراما... والآكشن.
حتماً ستلقي بفكرة أن الزمن تجاوز دهشة حكايات «السندباد» و«ألف ليلة وليلة» في سلة المهملات في اللحظة التي تقرأ فيها كتاب «مسافر الكنبة في إيران» (دار «مقام» للنشر والتوزيع) للمصري عمرو بدوي (1980). بغلافه «المَرِح» الأزرق، وبالرسم الكاريكاتوري للكاتب في وسطه، وبعنوانه الذكي «المشاغب» يستفزك الكتاب لقراءته، فقد راهن الكاتب المصري على وقع كلمة «إيران» التي نحمل لها في ثقافتنا العربية ألف معنى، إلا معناها الحقيقي ربما.
منذ الصفحات الأولى للكتاب، تعرف أنك وقعت في شباك شخصية «استثنائية»، بتقديمه نموذجاً جديداً عن «أدب الرحلات» يستند إلى روح الرواية، فتخطفك الكلمات بـ «رشاقة» إلى رحلة مع عمرو بدوي في «بلاد فارس»، بل الأفضل وصفها بالمغامرة التي يتخللها الكثير من الكوميديا والدراما... وحتى الآكشن.
الكتاب يُعدّ إضافة إلى مكتباتنا العربية الزاخرة رفوفها بمؤلفات «السياحة» لا مؤلفات «السفر»، إذ إن «مسافر الكنبة في إيران» يعطي درساً عميقاً في التفريق بين الكلمتين، فضلاً عن أنه ترك مساحة للكاميرا لتوثيق حكايتها المستقلة، مستثمراً ببراعةٍ هوايته في التصوير الفوتوغرافي.
ينتمي بدوي إلى عالم «CS» وهي اختصار Couch –Surfing، التي أوجد الكاتب لها مرادفاً عربياً جميلاً وهو «مسافر الكنبة»، وهي شبكة تواصل اجتماعي تجمع أهل كل بلد بالرحّالة حول العالم، وتضمن للمسافر خدمة الاستضافة المجانية في منزل أحد أعضاء الشبكة في البلد الذي ينوي شدّ الرحال إليه. قد يبدو عالماً غريباً، لكن الغرابة تتلاشى شيئاً فشيئاً كلما قرأت أكثر في صفحات الكتاب، حتى إنك ربما تسأل نفسك: «أي عالم غريب أنتمي أنا إليه»؟ هذه الشبكة باختصار، استبدلت سفينة «سندباد» وبساط «علاء الدين» بـ «الكنبة»، إذ تُمكّن عشاق السفر والترحال من ممارسة شغفهم بالأماكن والاكتشاف بأقل التكاليف الممكنة، بعيداً عن حمّى شركات السياحة وثرثرة أدلائها.
كما أنها تمكن المنتمون إليها، من تقديم قراءة مختلفة للبلدان من خلال سكانها ومواطنيها، الذين يقدمون لك بلدهم مثلما يقدمون إليك طبقهم المفضل.. لتحكم أنت وحدك على مذاقه من دون أفكار مسبقة. لم يكد عمرو بدوي يعبر عن نيّته في السفر إلى إيران، حتى جُوبه بسيل من الأسئلة والمخاوف والشكوك التي جسدتها نظرة شرطي المطار الذي فحصه بعين محملة بالريبة. وليس هذا فقط، إذ أوصاه عدد من الأصدقاء بعدم الحديث إليهم مباشرة بعد عودته من طهران! متوقعين له رحلة أخرى في أروقة «أمن الدولة» فور عودته إلى القاهرة.
لم يحدث شيء من هذا كله، وحالما تقرأ أبواب الكتاب العشرين، بعناوينها المميزة مثل: «عجبا لم يشيّعني أحد!»، «ملحد، لكن يأكل السكر حلالاً»، «هذا ليس قرآناً عزيزتي ساغر»، «من قم المقدسة إلى طهران الراقصة»، «رومانسية تحت الأرض»، و«حوار متناقض مع الخميني»، حتى تبدأ تتساقط عن كاهل فكرك عشرات الأفكار المعلّبة والجاهزة - والظالمة في أحيان كثيرة - عن بلد عريق وعظيم وهام مثل إيران.
الإيرانيون مختلفون في آرائهم السياسية، لكنهم متفقون جميعاً على الوطن
الكتاب، لا يحفل فقط بجمال الطبيعة الإيرانية وعراقة الماضي بآثاره الراسخة حجراً وفكراً، بل يتعداه ليطرق أبواب مواطني «جارتنا اللدودة». لم يلتق المؤلف خامنئي ولا روحاني، بل التقى ساغر وعلي وفاطمة، وهم أناس يشبهوننا كثيراً.
حقائق كثيرة يحملها الكتاب إليك، لكن أكثرها تأثيراً يتمثل في فهم العفوية التي يتمتع بها الشعب الإيراني. عمد المؤلّف إلى اختبار المجتمع بأسلوب لا يخلو من جرأة بل قل من مغامرة، ففضلا عن أن اسمه «عمرو» – وما يحمله من معان استفزازية كما نعتقد في الثقافة الشيعية - عمد إلى الصلاة على مذهب السنة «كف على كف» في أكثر من مسجد في إيران، كان أكثرها رهبة في مقام «الإمام الرضا» في مشهد، من دون أن يضايقه أحد.
وليس هذا فحسب، إذ يفاجئنا الكتاب كيف أن الأسرة الواحدة تجمع بين مؤيدي الشاه السابق محمد رضا بهلوي، ومؤيدي الإمام الخميني، وبين اليسار واليمين تحت سقف واحد من دون أن يخوّن أحدهم الآخر. وتجبر نفسك على المقارنة بما حل بمجتمعاتنا عقب ما بات يعرف بـ «الربيع العربي» من تجاذبات وتخوين وصفات جاهزة مثل: «ناشط» و«فلول» و«شبيّح» و«بلطجي» و«عميل» .. إلخ. ففي «مسافر الكنبة» يبدو جلياً كيف أن الإيرانيين مختلفون في آرائهم السياسية، لكنهم متفقون جميعاً على الوطن.
لا يكتفي بدوي بالحديث عن الأماكن والآثار، ونميمة من صادفهم في إيران وأكل من أطباقهم واستمع إلى نكاتهم وأحلامهم، بل يشارك القارئ زوّادته التي جعلت من «بلاد فارس» مقصده الأول في سفره الطويل الذي استمر ثلاثة أسابيع، بعد تجواله في 40 دولة حول العالم. يفرد في الكتاب مساحة للحديث عن الفن التشكيلي والسينما، والموسيقى الفارسية، وأشعار عمر الخيام وحافظ شيرازي والفردوسي، إلى جانب التطرق لرواية «سمرقند» لأمين معلوف، و«الطريق إلى أصفهان» لـجيلبرت سينويه، و«آلموت» فلاديمير بارتول، فضلاً عن مؤلفات أكاديمية وسياسية عن إيران.
لقد استطاع الكتاب بتلقائيته وخفة ظله، أن يقدم إيران بصورة مختلفة كلياً عن الصورة الحصرية التي تقدمها إلينا الفضائيات وتقارير الأمم المتحدة، وما تقدمه حتى طهران عن نفسها من صورة صارمة. «مسافر الكنبة في إيران» يجعلك تشعر بأنك تمسح بكمّ قميصك الغبار المتراكم على مرآتك، لترى وجهك في ثقافة اشتبكت كثيراً مع هويتك على مدى آلاف السنين، لكنها حتما تشبهك في أشياء كثيرة. أما الشيء الأهم الذي استطاع عمرو بدوي أن يفاجئك به، فهو أن الحقيقة أكبر من نشرة الأخبار، وأن الحياة تكمن خارج الكتب!..