لم يخرج العرب الشيعة الى الحرية والدور إلا بالشراكة مع إيران، لأنهم نسجوا هذه الشراكة انطلاقاً من وطنيتهم ولأنهم خاضوا في قضايا محقة بوجه الاحتلال والاستبداد، ولأن النخبة الفاسدة لا تملك مشروعا لا للسنة ولا للشيعة..
لا يجد حلفاء واشنطن الإقليميون لتبرير خيباتهم المتلاحقة في المنطقة إلا التلطي خلف سردية اتهامية للعلاقة بين العرب الشيعة وإيران، أي ولاء الشيعة لإيران على حساب ولاءاتهم الوطنية، بل وصلت «الجرأة» بالبعض لنعتهم بـ «الجالية الإيرانية».
تستفيد هذه السردية من حدة التوتر المذهبي السائد، ومن الانطباع والتصور اللذين يجرى تجذيرهما في الوعي الجمعي عند عوام السنة حول تاريخ الشيعة كجسم غريب ودخيل ومتواطئ على الإسلام. فيما من المتوقع أن تستعر هذه الحملة في الفترة المقبلة بظل الحاجة الى تعبئة الجمهور لمواجهة تداعيات التسوية النووية الإيرانية المرتقبة كمؤشر على احتدام حدة هذا التحريض الذي كان في إدخال مفردة «الاحتلال الإيراني» الى حقل التداول والخطاب الإعلامي والسياسي مؤخراً.
بالعودة الى التاريخ القريب، يظهر بوضوح أن الشيعة العرب ظلموا مرتين، مرة حينما تعرضوا للإقصاء والتهميش والتنكيل الممنهج من أغلب أنظمة المنطقة الاستبدادية، ومرةً حينما جرى اعتبار نضالهم للخروج الى الشراكة في أوطانهم على أنها تبعية لإيران.
تاريخياً، ما كانت حال شيعة العراق ولبنان واليمن والبحرين والسعودية، هل سعت هذه الأنظمة لدمجهم وقبولهم في نسيجها الوطني؟ هل عاملتهم كمواطنين متساويين بالحقوق والواجبات؟ بالتأكيد لا، بل العكس تماماً، إذ مارست النخب الحاكمة كل السياسات التي تضمن استدامة تخلفهم وتهميشهم وإقصائهم، وتعرضوا لشتى أنواع التنكيل والاحتقار والازدراء السلطوي والاجتماعي على مدى عقود في ظل صمت مدو بارد.
في المقابل، كيف تعامل الشيعة مع هذا الواقع؟ ألم يكن شيعة لبنان ناصريين دون اكتراث لسنية عبد الناصر، وخاضوا كل مراحل المقاومة بوجه إسرائيل تحت مسميات قومية وعلمانية ووطنية وحتى فلسطينية؟ هل خرج شيعة البحرين والسعودية شاهرين السلاح ضد أنظمة الحكم أو المواطنين الأبرياء؟ وفي اليمن وصلت حال الإقصاء للزيديين - وهم نواة اليمن رورحه - الى حد شن ست حروب عليهم (بالإضافة لهجمات القاعدة الدامية)، بل ومنعهم حتى من تدريس تعاليم مذهبهم بينما أُتيح للسعودية نشر المذهب الوهابي لدرجة أن أصبح آلاف من الزيديين وهابيين.
بعد هذا كله، هل يكون الشيعة العرب خارجين على ارتباطهم الوطني أم أن السلطة الرسمية أنكرتهم وسعت لنزع صبغة الوطنية عنهم؟ وفي الحالات التي خرج فيها الشيعة على أنظمة الاستبداد الفاسدة، ألم يكن هذا خروجاً سياسياً على النخبة وليس خروجاً من الوطنية، تماماً كما فعل نظراؤهم السنة في أكثر من بلد عربي؟ وحتى حين نسجوا علاقات مع إيران، فهم لم يتجاوزوا سيادة الدولة كونها سيادة مفتقدة أصلاً عبر نخبة تابعة وذليلة للولايات المتحدة توظفها في خدمة هيمنتها على المنطقة. ثم أين نسج الشيعة علاقات مع إيران ضد أشقائهم وإخوانهم، إلا إن اضطروا للدفاع عن النفس بوجه أتباع السلطة الفاسدة كما حصل في اليمن ولبنان؟ وفي هذه الحال كان الصدام سياسياً وليس مذهبياً كما اصطدم الكثير من قوى وأحزاب سنية في ما بينها في المنطقة (حماس وفتح مثلاً). ألم تكن إيران ظهيراً للشيعة لدحر إسرائيل من لبنان، وطرد أميركا من العراق، وكذلك لمواجهة التكفيريين؟ ألم تكن هذه إنجازات وطنية وقومية لولا الإصرار على الاستعداء العبثي لإيران والشيعة؟.
ثم أين سعى العرب الشيعة للتفرد بالحكم؟ حزب الله بكل قوته وحضوره خاض مواجهة داخلية منذ 2005 عنوانها السعي للشراكة من دون أوهام بالسيطرة والتفرد، في مقابل إصرار حلفاء السعودية على حكومة من دون أي وزير شيعي. في اليمن، جل ما طالب به الحوثيون – يمثلون قرابة 30% إلى 40% من السكان – تطبيق اتفاق السلم والشراكة بما يضمن لهم ولكل اليمينين مشاركة بحد مقبول في الدولة فكان الرد عليهم بأنهم ينفذون انقلاباً إيرانياً، فيما كان اليمن أصلاً بلداً مستباحاً بالكامل لقوى خارجية في مقدمتها الولايات المتحدة والسعودية.
في العراق، يسمح الدستور بشراكة كاملة للسنة في الحكومة المركزية وإدارة الإقاليم، إلا أن عقبات حدت من هذه الشراكة في الفترة الأخيرة لسببين أساسيين، الأول أسلوب المالكي في الحكم والذي أغضب الشيعة أكثر من السنة وهذا برز في رفض أبرز القوى الشيعية لرئاسته الحكومة بعد الانتخابات النيابية الأخيرة. والسبب الثاني، رضوخ جملة من العشائر السنية والبعثيين لتركيا والسعودية بالخروج على الحكومة المنتخبة بالسلاح والعنف والالتحاق بحركات تكفيرية من باب «توافق المصالح»، وذلك لاعتقاد حلفاء واشنطن أن ذلك يخلق توازناً مع إيران في العراق.
أما من جهة إيران، هي ترى أن المنطقة مقسومة بين نخب حاكمة فاسدة وكيلة للغرب وقوى معارضة شعبية تنادي بالاستقلال، وهي قوى سنية وشيعية وعلمانية. فهل اكتفت إيران بدعم الجماعات الشيعية المهمشة؟ الإخوان المسلمون هم تقليدياً المعارضة السنية الكبرى في العالم العربي، وعانوا من الإقصاء لفترة طويلة. في مرحلة «القحط الإخواني» لم يجدوا إلا إيران تؤمن لهم الملاذ والدعم والاحتضان وكانت العلاقات بين الطرفين ممتازة الى حين وصول الإخوان للسلطة حينها اعتقدوا أن بقاءهم فيها يستدعي إرضاء الولايات المتحدة والسعودية وتركيا عبر نبذ طهران وتبني خطاب مذهبي أبله. ماذا عن حركات المقاومة الفلسطينية، الإسلامية والعلمانية؟ هل دعمتها الأنظمة العربية «السنية» أم تآمرت عليها؟ في حين كانت إيران وسوريا سندها وحاضنتها وعضدها بالمال والسلاح والتدريب والموقف السياسي والإعلامي كما كان كلا البلدين مع حزب الله «الشيعي».
على سبيل المثال، يبرر الإخواني لنفسه تلقي التمويل من دول إقليمية وينخرط في نشر الفوضى في بلده فيما يعتبره رداً على الاستبداد والظلم اللاحق به كما يحصل في ليبيا ومصر، فيما لا يرى علاقة العربي الشيعي مع إيران إلا عمالة للمجوس والفرس. رغم التكاليف الباهظة، لم يخرج العرب الشيعة الى الضوء والحرية والدور والحضور الكريم إلا بالشراكة مع إيران، لأنهم نسجوا هذه الشراكة انطلاقاً من وطنيتهم أولاً، وثانياً لأنهم خاضوا في قضايا محقة بوجه الاحتلال والاستبداد، وثالثاً لأن النخبة الفاسدة هشة وفارغة ومعزولة ولا تمتلك مشروعاً لا للشيعة ولا للسنة.
في المقابل، ما حالة العرب السنة الذين التحقوا بالقرار الخليجي أو التركي؟ من اليمن، وسوريا والعراق وليبيا ومصر ولبنان وفلسطين، كان مصير السنة كارثياً إما بالاقتتال في ما بينهم بسبب التنافس السعودي – التركي، وإما بالاقتتال مع الشيعة كما ذكرنا. تحولت الشرائح السنية هذه – لا سيما في الأرياف والعشائر - الى مجرد حطب لتأجيج النار حول إيران وحلفائها. تلاعب الخليجيون والأتراك بانفعالات وغرائز شرائح من العرب السنة، بخطاب بسيط مكرر سهل الهضم يرتكز إلى الكذب والشبهات والإنتقاء، من دون أي اكتراث لوقائع الاجتماع العربي وتاريخه وتعقيداته وكذلك حقائق الصراع الدولي – الإقليمي في المنطقة. مثلاً، تكشف وثائق ويكيليكس أن دولاً خليجية كانت تحرض الولايات المتحدة وإسرائيل على ضرب إيران منذ سنوات قبل كل ما يحدث في العراق وسوريا واليمن والبحرين.
قبل الختام يمكن لقارئ أن يطرح إشكالية موقف الشيعة العراقيين تجاه الاحتلال الأميركي. يمكن القول إن بعض الشخصيات الشيعية كان متواطئاً وبعضها الآخر كان موقفه ملتبساً، فيما قاتل الكثير منهم في معارك جنوب العراق وهي المعارك الأساسية بوجه الأميركيين. جاء موقف بعض الشيعة العراقيين كرد فعل على مذابح صدام المليونية بحقهم، إلا أنه خلال أشهر من الاحتلال انتقلت قوى شيعية عراقية عدة نحو مقاومة يقر الأميركيون أنها كانت الأقسى لا سيما أسلوب العبوات الجانبية والكمائن ذات البصمة الحزب اللهية.
الأهم، لو أراد البعض استخدام هذا الانفعال المحدود للمحاججة بعمالة الشيعة، فهل يقبل هذا البعض بذات القياس الفج على السنة؟ ألم تذهب أنظمة عربية سنية للتطبيع مع إسرائيل (مصر، قطر، الأردن، السلطة الفلسطينية) وأنظمة سنية نحو شراكة استراتيجية مع إسرائيل (تركيا) وأنظمة فتحت خطوط اتصال مع الإسرائيلين (السعودية)، وأنظمة عربية سنية انطلقت منها الدبابات والطائرات لغزو العراق، وقوى سنية تعاونت مع التدخل الغربي (ليبيا – المعارضة السورية)، هل يصح إذاً أن نرمي العرب السنة بتهمة العمالة؟.
أمام كل ويلات المنطقة يجد الكثيرون أن الجواب الأسهل والأيسر للنفس والعقل هو تعليق كل هذا برقبة «الشيعة»، كما أنه طبعاً يمكن الرد على كل هذه الإشكاليات والأسئلة بجواب رتيب فارغ وساذج: «لكنهم يقتلون السنة في سوريا».
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه