في محاضرة لبشارة يقرأ فيها اتفاق الإطار حول الملف النووي الإيراني، توقعت أن أعثر على استبصار نقدي للاستراتيجيات العربية حيال التحولات الإقليمية والدولية فإذ به يقاربها من منظورات دعائية حول ما يسميه «التمدد الإيراني"..!
«الموت في التماثل؛ والاختلاف حياة الزمان»... هذه الأيقونة للمفكر الشهيد مهدي عامل، هي، وحدها، التي تصون كل فعالية فكرية ــــ سياسية، من الانزلاق إلى موقع التكفير. وفي العالم العربي، اليوم، ما هو أكثر من الاختلاف؛ هناك صراع، بل صراعات بين معسكرات وقوى، وتالياً، بين رؤى ومقاربات وأفكار. وفي هذه الحمأة، من المفهوم أن يكون تبادل الهجاء الإعلامي، أداة صراعية بالمعنى المباشر، أداة غير منتجة للفكر الجديد. ولكن، أما كان من المنتظر أن يكون سجال المثقفين ــــ المتعارضين ــــ مفيدا، أي منتجا لمقاربة ثالثة، أو، على الأقل، مساعدا على تدقيق الطروحات، وإغنائها، وإنقاذها من طاحونة الاستهلاك اليومي.
ليس مدهشا، بالنسبة لي، أن يضيء كاتب ذو خلفية فلسفية وبصيرة، مثل كمال عبداللطيف، على هذه الضرورة، في صورة «المثقف القادر على حراسة مقتضيات اليقظة الذِّهنية والتسلح بالنقد والفكر النقدي». إنما المدهش حقا ألا ينتبه الكاتب إلى أنه ينشر هذا القول الحصيف في موقع قطري يهلل، علنا، للظلامية والإرهاب. هل يمكن للصورة أن تنفصل عن الإطار؟.
احتفظت، خلال هذا الأسبوع، بثلاث مساهمات لمثقفين عرب، «قومي» هو عزمي بشارة، و»يساري» هو سلامه كيله، و»ليبرالي» هو ساطع نور الدين؛ قررت أن أراجعها، رغم، بل قل بسبب الخلاف، لأمتحن مقارباتي.
في محاضرة لبشارة يقرأ فيها اتفاق الإطار حول الملف النووي الإيراني، توقعت أن أعثر على استبصار نقدي للاستراتيجيات العربية حيال التحولات الإقليمية والدولية، وفرضيات حول مآلها، وبدائل، ومسعى جدي لفهم إيران وسياساتها ودورها اللاحق، وكيف يمكن التفاعل معه من مواقع، وفي مسارات مختلفة. وحاولت أن أبحث عن تصور منطقي وملموس للمخاوف الخليجية ــــ والعربية ــــ من تنامي الدور الإيراني، وكيف يمكن تصفية هذه المخاوف، وتحديدها، والحوار حولها، وعلى أي أساس؟.
من واجب المثقف العربي، بالطبع، أن يقف عند مفصل تاريخي نوعي مثل مقدمات الاعتراف الدولي بإيران كقوة إقليمية رئيسية، عقلانية وبراغماتية، يمكن التوصل معها إلى إدارة حديثة للمصالح والصراعات والتفاهمات والصفقات؛ ثم يطرح الأسئلة الضرورية حول انعكاسات تنامي الدور الإيراني على الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، وحول مستقبل القوة الإسرائيلية، وحول قضايا مثل امكانية بناء نظام أمني اقليمي يلحظ المصالح العربية، وإمكانية الشراكة التنموية، والتبادل العلمي والثقافي، في إطار لا يفوّت حدود التفاهم أو حدود الصراع.
كل ذلك ــــ الذي ينتمي إلى سياق فكري ــــ يهمله بشارة، ليقارب المسألة كلها من منظورات دعائية تدور حول ما يسميه «التمدد الإيراني» الذي «يستغل» العداء لإسرائيل للتوسع عربيا، ويدعم «الدكتاتورية» السورية، ويسلّح الجماعات الطائفية الخ. وهو تمدد «يقاومه الناس...». الناس هكذا من دون تحديد اجتماعي أو سياسي أو ثقافي الخ. وهؤلاء الناس، يقاومون التمدد الإيراني بـ «ما هو موجود»! فهل يعني بصدورهم العارية أم بعقولهم الخاوية؟ لا أظنه يقصد الشطر الأول؛ فالمليارات والأسلحة والتحالفات المعدة لمقاومة إيران، يمكنها أن تقاوم الولايات المتحدة أيضاً. يقاوم «الناس...» إيران، حسب بشارة، حتى بالتحالف مع السعودية، وكذلك، بمواجهة الدكتاتوريات! وحلفائها من «بعض القوميين العرب»، ممن يخونون العروبة التي ترفرف راياتها في سماء الدوحة!.
يسأل سلامه كيلة، «تكرارا، ما الحل في سوريا؟». حقاً، إنه، بعد أربع سنوات من الصراع الدامي، سؤال جوهري، ينتظر المرء أن يقاربه الكاتب بأدوات جديدة، تأخذ بالاعتبار المأساة والتجربة وموازين القوى والامكانيات الفعلية للحل. يلاحظ كيلة، آسفاً، أن القوى الدولية والإقليمية تعمل على ترتيب أوضاع معارضين يقبلون بحل تحت سقف الرئيس بشار الأسد. أهي مؤامرة... أم هو اعتراف بالفشل في امكانية إسقاط الرئيس ونظامه، بعدما تم استهلاك المليارات التي مولت كل صنوف الحرب ضده. كيلة مصرّ على أن «الشعب...» يرفض التسوية، وسيظل يقاتل حتى الاطاحة بالفئة الحاكمة! هل حقا «الشعب...» هو الذي يقاتل نظام الأسد؟.
نختم مع ساطع نور الدين، في نصه الأنيق الذي يتجاهل تدمير بلد فقير وقصف وتجويع أهله ــــ ولا نجادل، فقد يكون المسؤول عن هذا المصير، عند الكاتب، هو التمرد الحوثي ـــ ما يهمّ، هنا، هو تجاهل نور الدين للآثار الهيكلية التي ستتركها الحرب على الخليج، وأمنه الإقليمي، واقتصاده، وامكانية استدامة الصراع الدموي في الجزيرة العربية، وتجذير تقاليد العداء بين اليمنيين و»الخلايجة الجدد» الخ. كل ذلك ليس مهما بالمرة عند الكاتب الذي يرى أن حرب اليمن أظهرت قدرة الدول والمجتمعات والجيوش الخليجية، وأسقطت الاتهامات الموجهة إليها بأنها هشّة وضعيفة ومدلّلة؛ تماما كما قال الشاعر الفلسطيني، جهاد الترباني:
«لله درّ ليوثٍ طال غيبتها حتى تولّى زمام الحكم سلمانُ»