24 نيسان 2015، الذكرى المئوية الأولى لأكبر مأساة إنسانية شهدها القرن العشرين. «الإبادة الجماعية لمسيحيي السلطنة العثمانية العام 1915»
سليمان يوسف
24 نيسان 2015، الذكرى المئوية الأولى لأكبر مأساة إنسانية شهدها القرن العشرين. «الإبادة الجماعية لمسيحيي السلطنة العثمانية العام 1915»، التي أُبيد فيها نحو مليون ونصف المليون أرمني، وأكثر من نصف المليون آشوري وسرياني وكلداني، وعشرات الآلاف من اليونانيين، بأيدي القوات العثمانية وبمشاركة عشائر كردية، خلال حملة نُظمت بأمر من السلطنة العثمانية مستغلة ظروف الحرب العالمية الأولى للتخلص من المسيحيين الخاضعين لحكمها. مقارنة بسيطة لتعداد مسيحيي السلطنة قبل الإبادة وبعدها تكشف هول الكارثة التي جلبها العثمانيون على المسيحيين. فقد تراجع تعدادهم من نحو 4 ملايين، كانوا يعيشون في الولايات الأرمنية والأقاليم الآشورية والسريانية التي احتلها العثمانيون وضمّوها لدولتهم التركية الحديثة، إلى أقل من عشرة آلاف مسيحي، نتيجة القتل الجماعي والترحيل القسري والتحوّل بحدّ السيف الى الإسلام. فلولا الإبادة الجماعية، كان من المفترض أن يكون تعداد مسيحيي الدولة التركية اليوم بالملايين، وليس فقط نحو 100 ألف مسيحي.
«الإبادة الجماعية» من الجرائم الكبيرة ضد الإنسانية، التي يعاقب عليها القانون الدولي مَن ارتكبها (وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 96 الصادر في 11 كانون الأول 1946)، سواء أكانت الجريمة مرتَكبة على أسس دينية أو عرقية أو سياسية أو غيرها. لهذا، فالدولة التركية التي يلاحقها شبح الإبادة ويؤرقها الاعتراف الدولي بها، تنفي حصول الإبادة من اساسها، وهي سعت لدفن ملف الإبادة مع ضحاياها ومحوها من ذاكرة التاريخ. لكنها أخفقت في هذه المهمة بفضل مئات الوثائق والمصادر التي وثقت المذبحة وشهادات أحياء نجوا من ويلاتها ووجود عشرات التحقيقات والبحوث لمؤرخين وباحثين أجانب مستقلين تؤكد حصولها. منها مثلاً مذكرات المؤرخ البريطاني المعروف ارنولد توينبي، الذي يقول فيها: «لم يكن المخطط يهدف إلا الى إبادة السكان المسيحيين الذين يعيشون داخل الحدود العثمانية»، والسفير الأميركي لدى القسطنطينية آنذاك هنري مورجنتاو الذي يقول في كتابه «قتل أمة»: «في ربيع العام 1914، وضع الأتراك خطتهم لإبادة الشعب الأرمني وانتقدوا أسلافهم لعدم تخلصهم من الشعوب المسيحية أو هدايتهم للإسلام منذ البدء».
حتى الآن، اعترفت 22 دولة بالإبادة الأرمنية، بينها فرنسا وإيطاليا وروسيا، بالإضافة لبرلمان الاتحاد الأوروبي. فيما اعترفت السويد وأرمينيا وهولندا والتشيك بشمول الابادة الجماعية الآشوريين (سريان/ كلدان) واليونان. وفي خطوة تاريخية، وصف بابا الفاتيكان فرنسيس أثناء عظته صباح اليوم الاحد 12 نيسان الجاري، ما جرى للأرمن والآشوريين السريان على يد العثمانيين أثناء الحرب الكونية الأولى بـ «الإبادة الجماعية». التصريح البابوي، الذي تزامن مع اعتراف برلمان الاتحاد الأوروبي مجدداً بالإبادة الأرمنية، أغضب الأتراك، حكومة وشعباً، وأفقدهم أعصابهم. فقد سارع رئيسهم أردوغان الى تحذير البابا من تكرار تصريحاته، وهدّد مفتي أنقرة بتحويل كنيسة (آيا صوفيا) في اسطنبول مجدداً إلى مسجد، بعد تحويله الى متحف في عهد كمال أتاتورك. ومع توالي الاعترافات الدولية والهيئات والمنظمات الحقوقية بالإبادة الجماعية لمسيحيي السلطنة العثمانية، يكون ملف «الإبادة» قد تخطّى مرحلة التثبيت والتحقيق، ودخل مرحلة مطالبة المجتمع الدولي الدولة التركية، وريثة السلطنة العثمانية، الاعتراف بالإبادة الجماعية وتحمّل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية تجاه ضحاياها.
إنه لمن المؤسف حقاً أن لا تعترف حتى الآن أي دولة عربية أو إسلامية بالإبادة، باستثناء (لبنان) المتميّز بنظامه السياسي وبتركيبته الطائفية. ثمة انفتاح ملحوظ من قبل الدولة السورية على ملف الإبادة. لكن الانفتاح السوري مرتبط بالأزمة السورية الراهنة والدعم التركي للمعارضات السورية وللتنظيمات الإسلامية المسلحة المنخرطة بقوة في الحرب السورية الى جانب مسلحي المعارضة. علماً أنه كان من المنتظر أن تكون الدولة السورية سباقة في الاعتراف بالإبادة، فهي الدولة الشاهدة على جريمة الإبادة، باعتبارها احتضنت آلاف الهاربين من ويلاتها، وتحوي أراضيها العديد من المقابر الجماعية لضحايا المذبحة، الكثير منهم سريان سوريون، ناهيك عن أن تركيا تحتلّ أراضي سورية مهمة، مثل لواء اسكندرون والجزيرة السورية العليا.
مئة عام والإبادة مستمرة بطرق وأشكال مختلفة بحق مسيحيي المشرق. وقد ازدادت أوضاعهم سوءاً وخطورة في السنوات الأخيرة، وبشكل أكبر، أوضاع مسيحيي الدول التي طالها العنف الديني والمذهبي والعرقي وأزاح كل الحواجز السياسية والموانع المجتمعية والأمنية كلها من أمام المجموعات والتنظيمات الإسلامية المتشددة والمتطرفة، مثل تنظيم «القاعدة» و «داعش» وغيرهما من التنظيمات التي كانت تنتظر وتتحيّن فرصة كهذه لتنفيذ وتطبيق أجندتها الطائفية ومشاريعها الظلامية. فمع ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية»، الذي اعلن «دولة الخلافة الاسلامية» في المناطق التي يسيطر عليها في كل من سوريا والعراق، بلغ اضطهاد مسيحيي المنطقة مستويات خطيرة وغير مسبوقة. فالتنظيم المذكور، يعمل على فرض نسخته الدموية «المتوحشة» من الإسلام، ويسعى لتطهير المنطقة من المسيحيين «الكفار» ـ وفق توصيفاته ـ ومن غير المسلمين، لا بل حتى من المسلمين الذين يخالفونه في قراءة الإسلام وتفسيره. وتطبيقاً لمنهجه المتطرف نفذ في المناطق التي دخلها وسيطر عليها عمليات تطهير عرقي وديني وثقافي بحق الآشوريين (سريان ـ كلدان) وعموم المسيحيين والمكوّنات الصغيرة الأخرى الغير اسلامية، مثل الأيزيديين والشبك والصابئة، واستباح جميع ممتلكاتهم ومقدساتهم وكنوزهم الدينية والثقافية والحضارية النفيسة، وسبّى نساءهم وبناتهم.
إن زعزعة الاستقرار في دول المنطقة وتنامي دور التنظيمات الإسلامية الجهادية والسلفية المتشدّدة في الحروب الداخلية التي تعصف بها، أدخل الوجود المسيحي المتأصل والمتجذر في المشرق في دائرة الخطر. فهذه الحروب تنذر بحصول عمليات إبادة جماعية جديدة للمسيحيين، أو أنها على الأقل جعلت مستقبلَهم مجهولاً وغامضاً، فأصبح عليهم أن يختاروا بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو الرحيل. وقد فضلت غالبيتهم الرحيل، وأصبحت «المسيحية» ذاتها مهدّدة بوجودها في المنطقة التي ظهرت فيها، ومنها انتشرت إلى العالم.
http://assafir.com/Article/414990
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه