إذا كان من حق كل أمرئ أن يطمح لحكم بلده الذي ينتمي إليه فإن من الواجب عليه أن يملك فكراً ممنهجاً وتصوّراً واضحاً لنمط الحكم الذي يريد تطبيقه ورؤية سياسية إنسانية تحكمها ضوابط أخلاقية موزونة
محمد نجيب صيدح
إذا كان من حق كل أمرئ أن يطمح لحكم بلده الذي ينتمي إليه فإن من الواجب عليه أن يملك فكراً ممنهجاً وتصوّراً واضحاً لنمط الحكم الذي يريد تطبيقه ورؤية سياسية إنسانية تحكمها ضوابط أخلاقية موزونة ,حتى لا يكون الهدف هو الوصول إلى كرسي الحكم فقط .وإذا ما وصل هذا الطامح للحكم فعلاً فثمّة أمران لا بدّ من المحافظة عليهما : حق شعبه في أن ينعم بالطمأنينة النفسية والأمنية والمعيشية ،وحق الشعوب الأخرى بأن يحترم مصالحها ولا يحتقر إنسانيتها بالتعامل معها باستعلاء واستكبار وتسلُّط بحجّة تأمين مصالحه أو مصالح شعبه أو أمنه القومي. هذا ما يؤكد عليه ويقرّه منطق العقلاء وأقرّته شرعة حقوق الإنسان ومنظمة الأمم المتحدة التي أنشئت لا لحفظ حقوق كل دولة فقط بل لاحترامحقوق بقية الدول الأخرى القريبة والبعيدة.
هذه الضوابط الأخلاقية والإنسانية هي التي تجعل الحاكم نعمة ورحمة, ومع فقْدِها يصبح نقمة ومصيبة ! وإذا كان تاريخ البشرية بشكل عام –ومنذ بدئه- يضجّ بمآسي الحكام الذين ذرف العالَمبسببهم الكثير من الدموع ونزف أنهاراً من الدماء وهُتكت فيه أعراض وسلبت أموال ,فإن ذلك يكشف عن حجم رعونة هؤلاء الساسة وظلمهم وقسوتهم وبالتالي فقدُهم لأبسط قيم الإنسانية وضوابطها. ولن نتوغّل كثيراً في طيات التاريخ للحديث عن نماذج وأنماط تلك المآسي بل يكفي ذكر بعض ما حدث في هذا العصر أو في القرنين الماضيين حيث شاهدنا بداية الغزو الاستعماري الأوروبي – فرنسا, إنكلترا, البرتغال, ألمانيا..- لبلادٍ كثيرة في آسيا وأفريقيا وبداية اكتشاف أمريكا الشمالية حيث أبيدت خيرات وثقافات وأزهقت نفوسٌ كثيرة بأبشع وسائل القتل والتنكيل!
ترى! كم أباد هؤلاء الأوروبيون الغزاة لأمريكا – بعد أن اعتبروا أنفسهم مالكي تلك البلاد – كم أباد هؤلاء من أهلها وهم سكانها الأصليون المسمّون بالهنود الحمر؟ ألم يكن ذلك بالملايين حتى كادوا أن يفنوهم جميعاً ثم حصروا الباقين منهم في بقعٍ محدّدة؟ ألم يلقوا في البحر آلاف الأفريقيين السود بحجّة أنهم لا يصلحون للإستعباد والخدمة فكانوا طعماً للحيتان والأسماك, والذين نجوا منهم - وهم المئات - ذاقوا الذل والهوان في تلك البلاد النائية؟ ..نعم ! لقد تعامل هؤلاء المستعمرون القساة القلوب مع الهنود الحمر والأفريقيين المستضعفين بوحشية مفرطة كما يتعامل رعاة البقر مع قطعانهم, وهكذا كان عنفهم بين بعضهم حينما اشتعلت حرب الشمال والجنوب في ما سمّي بعد ذلك بالولايات المتحدة.
قد أصبحت هذه القسوة هي الطابع الأساسي لشخصيتهم فكانت العلاقة مع الشعوب الأخرى خالية من أية رحمة أو شعور بأدنى رأفة, سواء في استعمال القنابل الذرية في اليابان أو حروب السنوات الطويلة في فيتنام أو تجارب نشر الجراثيم لإحداث أمراض مبيدة جديدة في أفريقيا وشرق آسيا.. مضافاً الى الفتن والمؤامرات وإثارة النزاعات العرقية والدينية والطائفية وغيرها, كل ذلك بهدف السيطرة على بلاد الدنيا لنهب خيراتها وعدم السماح لغير أمريكا في أن يكون له سلطة على أية دولة من دول هذه الأرض لأن ذلك يهدّد مصالحها وأمنها القومي ولا بدّ من المحافظة على ذلك ولو على حساب دماء وكرامة بقية الشعوب.
عقلية راعي البقر- الكاو بوي- بقسوتها وعدم احترام إنسانية الإنسان هي ثقافة الأمريكي في زماننا الحاضر. هي ثقافة الإنحدار الأخلاقي رغم تطوّر الجانب العلمي والتقني الذي استغلّ للسيطرة على العالم, ولكنه أجرى أنهاراً من الدموع والدماء.
ثمّة نموذجان أدركا خطورة هذا الفرعون الأمريكي فحاولا حفظ كرامتهما وخيراتهما من هذا التسلط وهما: ماليزيا وإيران.
أما ماليزيا فقد سعت في أخريات القرن الماضي إلى الاستقلال التام عن فكر وثقافة واقتصاد وسياسة أمريكا واعتمدت على ذاتها وصبرت
فكانت النتيجة أنها أصبحت دولة صناعية متقدِّمة في كل المجالات واستطاعت أن تحافظ على شخصيتها وخصوصيات شعبها في مقابل الانحلال الأخلاقي والإستغلال الإقتصادي ولم تدخل في أي محورٍ– أمريكي وغيره -,فكانت مثالاً شجاعاً في الصمود وعدم الرضوخ لأية دولة أخرى.
وأما نموذج إيران – التي كانت قبل الثورة الإسلامية ولاية أمريكية بكل ما في الكلمة من معنى التبعية والسيطرة والإستغلال – فقد انقلب
هذا النموذج رأساً على عقب وأصبح بفضل ثقافته الإسلامية دولة مستقلة سياسياً واقتصادياً وفكرياً وثقافياً لا هيمنة أمريكية عليه, فكان ثمن ذلك الاستقلال حرباً عراقية مدمِّرة وحصاراً اقتصادياً دولياً قاسياً, ولكن رغم ذلك اعتمدت إيران – حكومة وشعباً – على خبراتها العلمية وطوّرتها حتى أصبحت مؤخراً دولة نووية سلمية , وطوّرت قدراتها الحربية والزراعية والصناعية والطبّية وغير ذلك من المجالات الحيوية اللّازمة لبناء دولة مكتفية, وبدلاً من أن تكون كلّاً على غيرها أصبحت من القوة بمكانٍ تفرض من خلاله شروطها والاعتراف بحقوقها فتنافس العالم على خطب ودِّها ورضخت أمريكا ومعها الغرب عموماً للإعتراف بكونها دولة قوية لا يمكن الاستغناء عنها في هذا العالم.
لقد فشلت أمريكا في تحطيم إيران الثورة وإخضاعها,وأصبحت تجربتها السياسية الفريدة والقائمة على أساس الإسلام محطّ دراسة هذا
العالم وتحليل هذه الأطروحة في الحكم, حيث تختلف كثيراً عن أنماط الحكم السائدة في العالم رغم ما صاحب ذلك من إعلامٍ مضلِّل وتشويهٍ وتسخيفٍ لمفاهيمها من كونها حكومة دينية ثيوقراطية أو حكومة رجال الدين أو حكومة ولاية الفقيه أو الى كونها ذات مذهب معين أو أنها فارسية أو صفوية الى غير ذلك من العناوين التي أريد منها تشويه صورتها عالمياً لكي تُعزل عن العالم ولا تتأثّر بتجربتها دولة من دول هذه الأرض. إيران دولة قامت على مبدأين: الإسلام والعداء لأمريكا.
وفي مقابل هذين النموذجين : ماليزيا وإيران, ثمّة نماذج مؤذية في التبعية المذلّة لأمريكا وهي كثيرة, ولكن أشدّها إيلاماً تبعية دول الخليج في منطقتنا العربية حيث ربطت نفسها كلياً بهذا الوحش الكاسر فكانت أداة طيّعة بيده تنفّذ له ما يشاء فإذا امتنعت عن تنفيذ رغباته وحفظ مصالحه خسر أمراؤها عروشهم كما حدث لحاكميَ قطر وبندر السعودية.
أما سبب هذه التبعية المطلقة فربما يعود الى عدم إيمان هؤلاء الحكّام بشرعية سلطتهم فكان أن ربطوا أنفسهم بهذا الشيطان , أو ربما أعطوا أنفسهم شرعية لحكمهم لأن هذا الشعب البدوي – بزعمهم – لم ينضج بعدُ لكي يختار حكّامه بديموقراطية أكثر فاستعانوا بأمريكالحماية أنفسهم. وهذا التفكير الأخير وما قبله يكشف عن أن ذهنية هؤلاء الحكام هي ذهنية بدوية وأعرابية لأن حاكماً يعتبر شعبه الذي يعدُّ بالملايين لا يستحق حكماً عادلاً وليس فيهم منهو أحق منه بالحكم.. هذا الحاكم هو البدوي بعينه وهو لا يرى أبعد من أنفه! صحيحٌ أن هؤلاء الحكّام الخليجيين يعيشون في قصورٍ تفيض بالخدم والحشم وأقصى مظاهر البذخ والترف الغربي ويركبون أفضل السيارات ووسائل النقل ومعهم مستشارون مثلهم ولكنهم لم ينفصلوا عن تفكير البداوة, تماماً كأولئك البدو الذين أعانتهم حكومتهم لبناء بيوتٍ لهم بدلاً من الخيم فبنوا بيوتاً فارهة
ولكن .. بدلاً من أن يسكنوها نصبوا قربها خيماً وسكنوها ثم وضعوا قطعان ماشيتهم في تلك البيوت الجديدة! ..من المؤكّد أن شعوب الخليج ليسوا كلهم بهذه الذهنية , ولكن المؤكّد أن حكّامهم يحملون نفس هذه العقلية : عقلية البدوي الذي عاش قسوة الصحراء وضيق أفقها فكانت علاقتهم مع شعوبهم وغيرهم علاقة القسوة واللؤم والحقد والتسلّط على الغير إن لم يكن بقوة السلاح فبقوة المال الذي تسلًطوا عليه من بركات النفط وعاثوا بسببه في الأرض فساداً, فاشتروا به ذمم النفوس المريضة وحاكوا به المؤامرات والفتن والحروب, ولم يكن آخرها القسوة المفرطة في اليمن حيث يعيش أفقر شعب في منطقتنا بل كان قبلها وما زالت في لبنان وسوريا والعراق ومصر وليبيا وغيرها من البلدان العربية, وربما كان الآتي أعظم والله أعلم
لقد أدخلتم يا حكّام الخليج البدَوي السرور الكبير على قلب أمريكا والغرب عموماً حين أمّنتم مصالحهم, وشرحتم قلب إسرائيل حينما أنسيتم شعوبكم قضية فلسطين المقدّسة فكنتم نعم الخدم لهؤلاء!
يا شعوب العالَم! لن تملكوا سيادتكم وحرِّيتكم إلا بعد أن ترضعوا صغاركم حليب الكره لأمريكا وتربّوا كباركم على العداء لها لأن ديدنها وثقافتها هي أن تسوق العالم بقسوة رعاة البقر الذين تخلّوا عن أخلاقهم واحترامهم لإنسانية شعوبهم. ويا شعوبمنطقتنا! لن تنالوا استقلالكم وسيادتكم إلا بعد أن تتخلّوا عن بداوتكم حين ربطتم مصيركم وذهنيّتكم ببداوة حكّام الخليج فكنتم نسخة أخرى عنهم في القسوة والفظاظة والابتعاد عن أخلاقيات السماء التي جاء بها أنبياء منطقتكم فكنتم أكفر الناس!
ويلٌ لعالَمٍ تسوسه أخلاقيات رعاة البقر! وويلٌ لمنطقة يتحكّم فيها فكر جاهلية البدو حيث لا رحمة ولا خلق ولا إنسانية!