في مثل هذا اليوم، في 6 أيار 1992، قبل 23 عاماً، وقعت أحداث ما سوّق يومها على أنه «انتفاضة الجوع». جرى تأجيج المضاربات «المفتعلة» على سعر الليرة بهدف إطاحة حكومة عمر كرامي
إيفا الشوفي
في مثل هذا اليوم، في 6 أيار 1992، قبل 23 عاماً، وقعت أحداث ما سوّق يومها على أنه «انتفاضة الجوع». جرى تأجيج المضاربات «المفتعلة» على سعر الليرة بهدف إطاحة حكومة عمر كرامي وتمهيد الطريق لتسليم السلطة التنفيذية إلى رفيق الحريري وإزاحة كل منافس له من المشهد العام. كان عملاً شريراً بامتياز، استُخدم فيه حاكم مصرف لبنان ميشال الخوري و5 مصارف على رأسها بنك البحر المتوسط المملوك من رفيق الحريري. آثار ذاك اليوم المشؤوم وتداعياته لا تزال ماثلة حتى اليوم، وستستمر لوقت طويل بفعل ما رتبه على صعيد تدمير الدولة وتدجين الحياة السياسية وتركيز الثروة والسيطرة على الموارد والريوع.
الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي يعاني منها اللبنانيون ليست وليدة اليوم، بل هي نتيجة سياسات واضحة ومقصودة اتبعتها السلطة بعد انتهاء الحرب لتحويل البلد إلى «كازينو مغلق» يعمل فيه الجميع في خدمة المصارف، وما حدث في 6 أيار عام 1992 كان مثالاً وقحاً على ذلك، وربما محطة تأسيسية لكل ما جرى لاحقاً. يقولون إن انهيار سعر صرف العملة التي يتقاضى بها الناس أجورهم ويحفظون مدخراتهم، هو أسرع الطرق إلى تدجين مجتمع ما وجعله طيّعاً وراضخاً.
هذا بالفعل ما أصاب المجتمع اللبناني منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي وحتى بدايات التسعينيات، أي في المرحلة الأشد قساوة التي أفضت إلى فرض الوصاية السورية والسعودية المشتركة على لبنان وتسليم رفيق الحريري دفّة قيادة النظام السياسي بعد «الانقلاب على اتفاق الطائف»، وهو عنوان الكتاب الذي أصدره ألبير منصور في عام 1993، وسجل فيه معايناته المباشرة من خلال تجربته كنائب في البرلمان حتى عام 1992 وكوزير للإعلام في حكومة عمر كرامي في بداية عهد الياس الهراوي، أول رئيس للجمهورية بعد الحرب.
«الحكم الفعلي اليوم أصبح بيد المصارف بالكامل، وطوال هذه الفترة كانت المصارف تنهب البلد وتأكل حقوق الناس بالتعاون المطلق مع السلطة». يشرح ألبير منصور هذا الواقع: «عندما غادرنا الحكم عام 1992 كان مجموع رساميل المصارف المجمّعة نحو 140 مليون دولار، أمّا اليوم فأصبح نحو 16 مليار دولار. هذا عدا عن الأرباح التي تقدّر فعلياً بنحو 25 مليار دولار منذ عام 1992، التي كسبتها المصارف جراء السياسات المعتمدة، أي أكثر من نصف الدين العام»!
في كتاب «تاريخ المصارف في لبنان»، الصادر عن بنك عوده في عام 2001، يتبنى المصرفيّان جورج عشي وغسان العياش تسمية «انتفاضة الجوع» التي «أطاحت حكومة عمر كرامي» في أيار عام 1992. عشّي كان رئيساً لجمعية المصارف (1989-1993) والعياش كان نائباً لحاكم مصرف لبنان (1990-1993)، وهما يتباهيان في كتابهما بنجاح القطاع المصرفي الحثيث في حماية مصالحه على حساب الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للناس. ينكران جميع الاتهامات التي وُجهّت إلى المصارف بتشجيع المضاربة على الليرة اللبنانية في تلك الحقبة، ولكنهما يقرّان بأن الشبهات كانت تحوم حول بعض المصارف التي تورطت في المضاربات على سعر صرف الليرة، إلا أن «جمعية المصارف تدخلت بفاعلية لدى السلطات لمنع تعديل المادة 12 من قانون إنشاء النيابة العامة المالية، التي تسمح بخرق السرية المصرفية».
كسبت المصارف المليارات وخسر الناس مدخراتهم وأجورهم
ما الذي حصل فعلاً في 6 أيار 1992؟ وما هو الهدف الذي أراد أرباب السلطة الوصول إليه ونجحوا فيه؟
يروي ألبير منصور وقائع هذا اليوم وما سبقه من إشارات كشفت في وقت متأخر المخطط الذي يُعَدّ للبلد. برأيه إنّ «المرحلة التي سبقت 6 أيار هي المرحلة الأساسية التي جرت فيها عملية التحضير للانهيار الاقتصادي».
مع نهاية عام 1991 أُقرَّت زيادة الرواتب في القطاع العام بمقدار ضعفين ونصف، ما أدّى إلى ضخ كمية كبيرة من النقد في السوق. كان من المتوقع أن يتعامل مصرف لبنان مع هذه الكميات عبر ترك السوق تستوعب جزءاً من هذه الزيادة من خلال ترك سعر صرف الليرة ينخفض تدريجاً، لكنّ مصرف لبنان أخذ منحىً آخر فاقم الأمور عن قصد. يقول منصور: «فاجأنا مصرف لبنان بقرار مجهول المصدر، لكنه كان واضحاً أنه متواطئ مع مجموعة رفيق الحريري والياس الهراوي بهدف إفراغ المصرف المركزي من احتياطه النقدي وتشليحه سلاحه في مواجهة تدهور سعر الليرة، فأخذ ينفق من الاحتياط مبالغ ضخمة من دون أي مبرر». في منتصف شباط بلغ مجموع إنفاق المصرف المركزي نحو 500 مليون دولار، خافضاً بذلك احتياطه من مليار دولار إلى النصف.
إثر ذلك، استدعى مجلس الوزراء حاكم مصرف لبنان ميشال الخوري ونوابه. في هذه الجلسة، «أكّد لنا الخوري أنه جرى استيعاب الكميات التي ضُخّت، وبالتالي لم يعد هناك هجوم على التحويل من الليرة إلى الدولار واستقر الوضع النقدي». أعلن منصور بعد تلك الجلسة ما نقله الحاكم ليطمئن اللبنانيين؛ كان هذا قبل نحو أسبوعين من الانهيار النقدي الكبير.
بعدما ضخّ المصرف نصف احتياطه النقدي، صُدمت الحكومة بعد أسبوع على الجلسة التي حضرها الحاكم ببيان غريب يعلن فيه العجز و»وقف التدخل في السوق»!، والبتالي أعطى إشارة إلى زيادة ضغوط المضاربات على سعر صرف العملة من دون أي رادع، «كان ذلك كأنه يدعو الناس ويشجعهم على تحويل أموالهم إلى الدولار، ولم يكن للحكومة أي علم بذلك. اكتشفنا لاحقاً أن الأمر كان عبارة عن اتفاق بين الرئيس الياس الهراوي والحاكم». خلال هذه الفترة، وصلت معلومات إلى الحكومة عن مضاربات على الليرة تقوم بها 5 مصارف لها علاقة بمجموعة الحريري المالية، على رأسها بنك البحر المتوسط، فاستُدعيت لجنة الرقابة على المصارف وطُلب إليها التحقيق في الأمر. يقول منصور: «رفضت اللجنة التحقيق بحجة السرية المصرفية. كان الجميع متواطئاً». باعتراف العياش وعشّي «تصدّت جمعية المصارف لمحاولة الحكومة تعديل المادة 12 من قانون إنشاء النيابة العامة المالية التي تسمح بخرق السرية المصرفية»، وهي محاولة كانت تهدف إلى نزع حجّة لجنة الرقابة على المصارف لعدم التحرّك وكشف المتورطين ومحاسبتهم.
يكشف منصور أنه طلب من كرامي حينها إقالة هذه اللجنة، لكنه تردد، إذ «خاف كرامي من الدخول في الموضوع المصرفي». في هذه المرحلة علم كرامي، وفق منصور، أنّ الحملة هدفها إطاحة الحكومة، فقرر عدم المواجهة وأبلغ رئيس الجمهورية والمخابرات السورية أنه سيستقيل. يشير منصور إلى أنّه على الرغم من تحقيق هدفهم بدفع كرامي إلى الاستقالة (لم يكن قد أعلنها بعد)، إلا أن ميليشيا المال، الممثلة برفيق الحريري، وميليشيا الأحزاب، وتحديداً حركة أمل والحزب الاشتراكي، إضافة إلى المخابرات السورية، أصرّوا على الاستمرار في تنفيذ مخطط «الانهيار»، كي تتحول الاستقالة إلى «إطاحة» كرامي في الشارع بضغط شعبي بهدف إقصائه سياسياً، كي لا يبقى أي منافس للحريري.
يوم 6 أيار تحرّك الاتحاد العمالي العام في تظاهرات مطلبية، بمشاركة أمل والاشتراكي اللذين نفذا أعمال شغب، وفي ظل اختفاء تام للقوى الأمنية من الشوارع. يوضح منصور أنه «آنذاك لم يكن الاتحاد متآمراً، لكن جرى استدراجه واستغلاله وتشجيعه». في هذا اليوم ظهر التحالف الحقيقي الذي حكم المرحلة لاحقاً واستمر حتى الآن. يرى أنهم «استغلوا الأوضاع الاقتصادية لتحويل الأنظار عن الانقلاب السياسي الذي كان يحصل من أجل إحضار الحريري إلى رئاسة الحكومة».
فجأة، مع وصول الحريري إلى الحكومة في 31 تشرين الأول 1992 هبط سعر الدولار إلى 1838 ليرة بعدما كان قد لامس مستوى 3 آلاف ليرة. يذكر منصور أن أحد مستشاري الحريري قال في حديث للـ «فاينانشل تايمز» آنذاك: «لقد جمعنا ثروة»، في إشارة إلى الأرباح التي تحققت من المضاربات، وأطلق على ما حصل تسمية «تأثير الحريري». يختم منصور: «كانت عملية واضحة لسرقة أموال الناس».
يومها، خسر العاملون بأجر الذين يشكلون نحو 60% من القوى العاملة قيمة أجورهم، وخسرت تعويضات نهاية الخدمة قيمتها، وكذلك ودائع آلاف المودعين الصغار، ووُضعت اليد على النقابات العمالية وفُرضت شروط قاسية للعيش والعمل والسكن في لبنان. في المقابل، انتفخت أرباح المصارف والاحتكارات التجارية وجرى السطو على الأملاك العامة وانهارت الخدمات العامة وارتفع الدين العام إلى أكثر من 70 مليار دولار حالياً.
http://www.al-akhbar.com/node/232228
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه