وتململ الناس من ظلم آل سعود، وأخذت الفتن تطحن في نجد. فرأى عدد من مشايخ الدين غير الوهابيين، ورؤساء القبائل في نجد أن يتصلوا بحاكم حائل آنذاك محمد العبد الله آل رشيد لنجدتهم، وتخليصهم من شر هذه العائلة المتطاحنة
إن الشجرة السعودية لم تستأصل من جذورها بعد سقوط الدرعية، فقد تركت بعض الجذور التي نمت من جديد بعد أن عاد جيش مصر إلى بلاده تاركاً الجزيرة العربية. فجاء مشاري بن سعود إلى الدرعية، في جمادى الأولى سنة 1235 هـ، وانتزع الحكم، لكنه لم يدم طويلاً فقد قتل. وبعد شهر من قتله خرج من بعده تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود في عام 1235 هـ، فقتل عدداً من أبناء نجد، وأنشأ الدولة الثانية لسلالة آل سعود. وحاصره أهالي نجد ليقتلوه فهرب من الرياض، وحاول أن يتفق مع العثمانيين لكي يساعدوه في إنشاء حكم سعودي جديد يكون فيه خادمهم المطيع.
فأعاده العثمانيون، وبقي حاكماً على الرياض حتى عام 1249 هـ، حين قتله أبناء نجد. فجاء من بعده مشاري بن عبد الرحمن بن سعود، وأراد أن يخدع بعض السذج، وأعلن أنه «أمير مؤمن». وحاول فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود (الذي كان في مدينة القطيف حينما اغتيل والده تركي) أن يستولي على الحكم في الرياض، هو كذلك، لكنه فشل لأنه لم يجد من يناصره.
(...) وفي عام 1250 هـ (1835 م) التجأ فيصل بن تركي (جد الملك عبد العزيز آل سعود) إلى عبد الله بن الرشيد، ليعينه على قتل ابن عمه مشاري بن عبد الرحمن، والاستيلاء على الرياض. ووعده أن يمنحه ما يريد لتحقيق تلك الغاية، فرد عبد الله بن الرشيد على ابن سعود مشترطاً: «انني سأقتل لك ابن عمك مشاري، بشرط أن أجعل من الرياض منطلقاً لتخليص بلدي حائل من آل علي». فوافق فيصل بن تركي آل سعود على هذا الشرط. (...) وبالفعل فقد تمكن عبد الله الرشيد من قتل مشاري بن عبد الرحمن آل سعود. ونودي بفيصل بن تركي آل سعود حاكماً جديداً الرياض. ثمّ سار ابن الرشيد (بما أعاره ابن سعود من الجنود) إلى حائل وقتل ابن علي، وأعلن نفسه هو الآخر حاكماً جديداً عليها. فأيدته حائل وقبائل شمر، ولمع نجمه وقوي مركزه.
وأعلن فيصل بن تركي آل سعود حاكم الرياض نفسه «إماماً» على نجد. وحكم أربع سنوات من عام 1250 هـ إلى عام 1254 هـ ، إلّا أنّ عرب نجد لم يطيقوه فاستنجدوا بالمصريين مرة أخرى لمعاونتهم على اجتثاث حكمه. فسار جيش مصر ليدك معالم آل سعود. وألقى القبض على الإمام فيصل بن تركي وشركائه آل الشيخ (أي الأسرة الوهابية). وأخذوه إلى مصر هو وولداه عبد الله ومحمد وأخوه جلوي (والد عائلة آل جلوي). فبقي في مصر من سنة 1254 إلى سنة 1259 هـ. حين تمكن فيصل بن تركي آل سعود من الإفلات من رباطه، والخروج من مصر، بمساعدة عباس باشا الذي تعهد له الولاء والطاعة وحسن التبعية... فعاد الشرّ السعودي إلى حكم نجد من جديد دون أن تكون لهم سيطرة على حائل التي كان يحكمها ابن الرشيد، والحجاز التي كان يحكمها الأشراف. ولقد ساعدهم في تمتين حكمهم أمران. الأول: هو انسحاب الجيوش المصرية من الجزيرة العربية، نتيجة لمعاهدة لندن سنة 1840م. التي اقتضت أن تعود جيوش مصر إلى داخل بلادها. والثاني: هو تعهد فيصل بن تركي آل سعود بالسير في ركاب آل عثمان، وإطلاق اسمهم وحكمهم على البلاد.
وهكذا عاد الحكم السعودي إلى نجد، وعاد معه حكم أسرة الكهنوت والشعوذة الوهابية بقيادة الشيخ عبد اللطيف الأول حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وعادت الفوضى والجرائم بقيادة هاتين الأسرتين بعد أن تعمقت تبعيتهما للسلطات التركية. ولم يكتف هذا الإمام فيصل بن تركي بسيادة السلطنة العثمانية، بل رأى أن يلعب على الحبلين، فذهب سنة 1862 م. إلى مفاوضة المستر بيلي المقيم السياسي في بوشهر باسم الحكومة البريطانية، لعقد معاهدة حماية على نجد، ودعم النفوذ السعودي وتوسيعه في أنحاء الجزيرة العربية كافة على أن يرتبط هذا النفوذ ببريطانيا. ووافق المستر بيلي على هذا الاقتراح السعودي. وبدأ دعم بريطانيا للأسرة السعودية التي أخذت تنشر الموت في ربوع البلاد بعد تعاملها مع الانكليز.
(...) وبعد أن توفي فيصل بن تركي سنة 1282 هـ. (1866 م) سُرّت نجد كلها بموته كثيراً. وخلف فيصل بعد موته ولداه عبد الله وسعود بن فيصل، ولكن هذين الولدين اختلفا على الغنيمة. وراح كل واحد منهما يجمع حوله الدلاديل والذيول (...) وثارت قبيلة العجمان بقيادة زعيمها راكان بن حثلين تناصرهم قبائل آل مرة، وتقدموا إلى الهفوف عاصمة الاحساء وكان فيها أحمد السديري حاكماً من قبل عبد الله بن فيصل، فحاصروه فيها، واستولوا عليها. وحاول عبد الله بن فيصل آل سعود أن ينتقم، فأرسل من يُحرق عدداً من بساتين الاحساء ودور الفلاحين الذين هرب العديد منهم إلى العراق. ولقد زاد هذا الفعل من النقمة والحقد على آل سعود. ولم يكتف عبد الله بن فيصل بذلك، بل حاول أن يأخذ العجمان على غرة قبيل طلوع الشمس فيقتلهم، ولكن العجمان وبني مرة تنبهوا لهذه الخطة الغادرة فدحروا الجند السعودي.
وسارع سعود (شقيق عبد الله) وأتباعه إلى اغتنام هزيمة جيش أخيه، فاحتل الرياض وطرد عبد الله منها، وذلك في سنة 1287 هـ. (1870 م). وأعلن سعود الثاني نفسه إماماً جديداً على نجد. ولكنّ عبد الله بن فيصل لم يستسلم لهذا الواقع، فحاول أن يغتال شقيقه ولكنه لم ينجح. وبعد أن أيقن بهزيمته، حمل ما سرقه من أرزاق الناس من ذهب وفضة ونفائس على مائة بعير، وراح يتنقل من مكان إلى آخر لعله يجد من ينصره. (...) وتوجه عبد الله بن فيصل إلى زامل السليم حاكم مدينة عنيزة في لواء القصيم، فرفض معاونته وطلب منه أن يغادر مدينته حالاً. فغادر الأمير السعودي عبد الله بن فيصل عنيزة إلى حائل، واتصل بحاكمها محمد العبد الله الرشيد غير أنه لم يجد صدراً رحباً منه أيضاً. فرحل عبد الله بن فيصل آل سعود من حائل إلى قبلية مطير واتصل بشيخها سلطان الدويش، ثمّ استنصر عساف أبو اثنين رئيس قبيلة سبيع على أخيه سعود، لمعرفته بأن شيوخ هذه القبائل يكرهون شقيقه.
ولكن سلطان الدويش وعساف أبو اثنين أبلغا عبد الله آل سعود بأنهما وشيوخ القبائل يكرهون الحكم السعودي كله لأنهم ذاقوا العذاب من الجميع. وهكذا لم ينجح عبد الله آل سعود بما حمله معه من ذهب مسروق بأن يغري به أحداً. فأرسل صديقه عبد العزيز بن بطبين إلى مدحت باشا العثماني مندوب السلطات التركية في بغداد آنذاك، ليستمد منه المعونة على قتل أخيه سعود. ووجد مدحت باشا في هذا التهافت السعودي فرصة سانحة للاستيلاء على الاحساء وسائر البلاد التي لم تخضع لتركيا قبل وجود آل سعود. فسار الأتراك (يساعدهم ناصر باشا السعدون رئيس قبيلة المنتفق، وعبد الله بن صباح حاكم الكويت، بجندهما) إلى الاحساء، واحتلوها، وأطلقوا عليها اسم «ولاية نجد».
وإنّ كل هذه الوقائع قد أوردتها كتب التاريخ. كما أنّ حافظ وهبة (المستشار السعودي للملك عبد العزيز)، دوّن هذه الوقائع في صفحة 229 من كتابه «جزيرة العرب في القرن العشرين». وحينئذ يتضح - حتى لسذج الناس - أن العائلة السعودية لم يقم حكمها في بلادنا - قديماً وحديثاً - إلا على أعمدة أجنبية يهودية أولاً ثم عثمانية وانكليزية وأميركية. ويتضح أيضاً أن الأمير السعودي كان يقتل أخاه في سبيل ملذاته وشهواته للحكم. وفي سبيل محافظته على هذه الشهوات يبيع آل سعود بلادنا للشيطان الرجيم. وفي هذا العصر يحاول بعض أمراء الأسرة السعودية إعادة نفس تاريخهم القديم بقتل الآلاف من شعبنا، وقتل حتى بعض أفراد أسرتهم، كما حصل للأمير خالد بن مساعد بن عبد العزيز آل سعود عام 1964.
ولم يستقر الأمر لسعود الثاني طويلاً، فقد اجتمع الناس في الرياض على خلعه وطرده، في يوم 17 رجب 1288 هـ. (1871م). ووجد أخوه عبد الله المقيم في الاحساء، كالدمية في يد العثمانيين، أخيراً الفرصة مواتية له. فجاء إلى الرياض يدعمه الجند العثماني. وحمل أخوه سعود ستين بعيراً بما سرقه من ذهب وراح يستنصر الناس، هو الآخر، لقتل أخيه عبد الله. واستطاع أن يجمع البعض من قبيلة الدواسر، والبعض من قبيلة عتيبة بما كذبه عليهم، قائلاً إنه يريد قتل أخيه عبد الله عميل الأتراك، وأن يبعد هؤلاء من البلاد التي سلمها لهم شقيقه عبد الله، وأنه سيجعل الأمر شورى بينهم، وسيترك الأمر للناس يختارون من يريدون لحكمهم ومن يرتضون... وبمثل هذه الوعود ظل سعود الثاني يُمنّيهم. فاقتنع بعض أبناء الدواسر، وساروا معه وحاصروا أخاه عبد الله في أرض الجزعة قرب الرياض. وهرب عبد الله، واستولى سعود من جديد على الرياض وأعلن نفسه «إماماً». وانتظر الدواسر وعتيبة أن يحقق ما وعدهم به، لكن من دون جدوى.
وثارت قبيلة عتيبة بقيادة مسلط بن ربيعان، فهجمت على الرياض من جهتها الغربية. فخرج «الامام» سعود لقتال عتيبة، فأحاط رجالها به، وقتلوا معظم أنصاره، وأصابوا سعود نفسه بجرح بليغ مات على أثره وذلك في صيف سنة 1291 هـ (1874 م)... وبموته امتطى أخوه عبد الرحمن آل فيصل آل سعود صهوة الإمامية، وقفز إلى الحكم مدعوماً بالأتراك. واستمر عبد الرحمن بن فيصل «إماماً» في الرياض نحو سنة، حتى جاء أخوه الأكبر عبد الله بن فيصل، من جديد، ونصّب نفسه «اماماً» مكانه، قائلاً: «إنه أحق بالمنصب من عبد الرحمن». وأفتى مشايخ الدين الوهابي «بصحة هذه الأحقية». ولكن عبد الله الفيصل لم يدم حكمه طويلاً، هذه المرّة، حيث تمكن أبناء أخيه سعود (الميت) من القبض عليه، وحبسه يوم 12 شعبان عام 1887 م. وأفتى مشايخ الدين السعودي «بأحقية أولاد سعود على عمهم». وبهذا النوع من تشريع تجار الدين لحكم اللصوص استناداً إلى مبدأ «نحن مع الغالب ضد المغلوب»، انتشرت المفاسد في البلاد.
وتململ الناس من ظلم آل سعود، وأخذت الفتن تطحن في نجد. فرأى عدد من مشايخ الدين غير الوهابيين، ورؤساء القبائل في نجد أن يتصلوا بحاكم حائل آنذاك محمد العبد الله آل رشيد لنجدتهم، وتخليصهم من شر هذه العائلة المتطاحنة من أجل شهواتها. فتوجه ابن رشيد بجموع إلى الرياض. وضرب ابن الرشيد أبناء سعود، وفك أسر عمهم عبد الله بن فيصل، وأخذه معه إلى حائل (العاصمة آنذاك)، ووضع حاكماً من عنده في الرياض، وجعل عبد الرحمن بن فيصل آل سعود مساعداً لذلك الحاكم. لكنّ عبد الرحمن حاول أن يثير الفتنة من جديد، وينفصل بالرياض، ليجعل من نفسه إماماً كما فعل في السابق. وحين اكتشف ابن الرشيد فتنته، أمره بالتوجه إلى حائل ليقيم إلى جانب أخيه الأسير عبد الله الفيصل، ومعه عدد من مشايخ الوهابية. وبذلك توقف عهد الفتاوى الباطلة، واستقرت نجد كلها لقيادة ابن رشيد. ولم يعد لآل سعود وآل الشيخ أهمية أو أثر.
ولم يدم هذا الأمر طويلاً، فقد قام عبد الرحمن آل فيصل بدس نوع من السم البطيء الذي ينبت في شجيرات بالصحراء، ويطلق عليه «أم لبن» لشقيقه عبد الله بن فيصل. ولما ساءت حالته في حائل طلب من ابن رشيد أن يذهب به للرياض. فسمح له وذلك عام 1890 م، وأذن لأخيه عبد الرحمن بن فيصل أن يرافقه، ويسكن في الرياض أيضاً. ومات عبد الله بن فيصل بعد وصوله إلى الرياض بيوم واحد. وحاول عبد الرحمن أن يثير الفتنة من جديد، يسانده تجار الفتاوى إياهم، مشايخ الوهابية (آل الشيخ). وقبضوا على عامل ابن الرشيد (ابن سبهان). ولم يدم هذا الأمر أكثر من 20 يوماً، وحاصر جيش ابن الرشيد الرياض التي كره أهلها فتن آل سعود وحكمهم، واستسلم عبد الرحمن. ولم يكن جوابه على ما اقترفه إلا طلب المغفرة، وما كانت حجته سوى أن عامل ابن الرشيد قد أساء إليه ولم يوفر له ما يحتاجه من مال وطعام. وعفا محمد بن رشيد عنه، وأمر عامله بأن يعطيه ما يحتاجه. لكن مشايخ الدين السعودي لم يستسلموا بعد، فذهبوا إلى القصيم، واتصلوا ببعض التجار والرؤساء، واستطاعوا إغراء بعضهم بالوعود الكاذبة.
وأخذوا منهم البيعة لعبد الرحمن آل سعود، واتفقوا على مباغتة ابن الرشيد وضربه ضربة تشله وتفصل نجد عن بعضها. واستعدوا لذلك فعلاً، واتفقوا مع زامل آل سليم بأن يجعلوه حاكماً على عنيزة بدلاً من آل يحيى. كما اتفقوا مع ابن مهنا بأن ينصبوه في مدينة بريدة بدلاً من آل الخيل. ولكن ابن الرشيد علم بالأمر، وانقض عليهم وقتل في هذه المعركة المعروفة بواقعة المليدة زامل آل سليم، وابن مهنا. أما مشايخ الفتاوى، وعبد الرحمن بن فيصل آل سعود فقد هربوا ومعهم «حريمهم» من الرياض إلى الاحساء. وأقام فيها عبد الرحمن الفيصل سبعة أشهر جمع خلالها بعض من سوّل لهم بمغريات السوء، وهجم على الرياض واستخلصها هي وضواحيها. ولكن ابن الرشيد كرّ عليه بجيشه، وقابله في قرية حريملا، فقضى على من معه. وتمكن عبد الرحمن بن فيصل من الهرب إلى الاحساء، فالقطيف، فالكويت.
وبذلك طويت صفحة الدولة السعودية الثانية.
* (مقتطفات من كتاب «تاريخ آل سعود» لناصر السعيد)