لم تكن جبهة النصرة في سوريا التابعة لتنظيم القاعدة أكثر وضوحاً مما هي عليه الآن، ولم تكن صورة زعيمها أبو محمد الجولاني، بأفضل حالاً عما كانت سابقاً.
احمد فرحات
لم تكن جبهة النصرة في سوريا التابعة لتنظيم القاعدة أكثر وضوحاً مما هي عليه الآن، ولم تكن صورة زعيمها أبو محمد الجولاني، بأفضل حالاً عما كانت سابقاً.
فهو هو ذلك الشخص عديم الخبرة التنظيمية والقيادية، ترى كلامه في مقابلته الأخيرة مع قناة الجزيرة القطرية مليئاً التناقضات .. يُراعي الأجنحة المختلفة داخل جبهته تارة، ويسترضي الغرب والإقليم تارة أخرى.
في تلك الغرفة الفاخرة، جلس متزعم جبهة النصرة، محاضراً في سياسات شرعية، لم يأت فيها بأي حديث ديني أو آية قرآنية، بعكس أقرانه من قادة تنظيم القاعدة ، لكنه تشابه معهم بالعزف على الأنغام الطائفية والمذهبية. لا جديد في هذا الخطاب سوى تأكيد ولائه لشخص خارج حدود سوريا، هو زعيم تنظيم القاعدة "أيمن الظواهري".
النصرة والجهاد في فلسطين
على مقربة من فلسطين المحتلة، وعلى الحدود من قاعدة الغرب المتقدمة في المنطقة العربية والإسلامية ألا وهي "دولة الإحتلال الإسرائيلي"، وقف مسلحو جبهة النصرة، وأداروا ظهرهم للعدو الذي أمعن في المقدسات تدنيساً، وبالمسلمين قتلاً وتشريداً، وراحوا يبحثون عن "إفتراءات" شرعية، لقتال أبناء الشعب السوري، وذلك بتوجيهات من أيمن الظواهري، كما قال الجولاني.
فالظواهري هو من وجه جبهة النصرة لعدم استهداف الغرب انطلاقاً من سوريا، وضمناً العدو الإسرائيلي.
في ظاهر الأمور قد يبدو أن هذا التوجيه سياسة، تريد منها جبهة النصرة تطمين الغرب، إرضاء لجهات إقليمية، خليجية وتركية، غير أن في باطنه، أن تنظيم القاعدة بفروعه السورية واليمنية والسعودية وغيرها، لم يكن على اجندته يوماً مهاجمة الكيان الإسرائيلي، وإلا ما الذي يفسر خروج فلسطينيين من الضفة الغربية المحتلة وغزة، للإنضمام إلى تنظيم القاعدة في أفغانستان وسوريا وغيرها.
النصرة والجماعات المسلحة الأخرى
إلى سوريا، دخل مسلحو جبهة النصرة من العراق، حاملين راية سوداء ، لكن الجولاني وإن لم يقل موقفه الصريح من المسلمين السنة في سوريا، فإن أفعال الجبهة، سبقت أقوال "أميرها العام".
أولى سهام النصرة بعد خسارتها أمام داعش في دير الزور، توجهت إلى مسلحي باقي الفصائل، ومنها حركة حزم، التي تحمل أفكاراً مشابهة لتلك التي درسها قادة النصرة وعناصرها، على الرغم من أنه تم تصوير هذه الحركة على أنها "معتدلة"، وفق المنظور الغربي.
"شردت" النصرة هذه الحركة، ووضعت قادتها العسكريين والشرعيين في السجون، ومن بينهم شرعيها العام "أبو عبد الله الخولي"، على خلفية قضية مقتل "يعقوب العمر"، رغم أن النصرة اعدمت سابقاً المدعو "ابو عبيدة"، بنفس التهمة بريف ادلب.
أسلحة جبهة النصرة التي قال الجولاني إن مصدر شرائها "تبرعات"، وجهت أيضاً إلى فصائل أخرى، ذات توجه "إسلامي" بحسب المسميات المتبعة إعلامياً، ومنها لواء شهداء اليرموك في درعا، وغيرها من الفصائل على امتداد الجغرافيا السورية، كما أن حركة أحرار الشام وجيش الإسلام لم يسلما من مدافع تنظيم القاعدة في الشام.
النصرة وتكفير المجتمعات
حاول الجولاني أكثر من مرة دفع التكفير عن فكر جبهة النصرة، لكنه كان واضحاً بأن جبهته تكفر ما "نص عليه الشرع"، وطبعاً الشرع الخاص بها. جولة سريعة في شرع هذه الجماعة تكشف لنا الكثير مما رفض الجولاني الإفصاح عنه.
في تشرين الأول / أوكتوبر من العام 2013، نشرت مؤسسة المنارة البيضاء التابعة لجبهة النصرة مقابلة مع "الشرعي العام" سامي العريدي، تحت عنوان (منهجنا وعقيدتنا)، ذكر فيها أن "حمود بن عقلاء الشعيبي" هو أحد مرجعيات جبهة النصرة العلمية.
الشعيبي يكفر كل من يحكم بغير ما أنزل الله - وفق منظوره- ويقول إن "تحكيم القوانين الوضعية كفر، وأن المحكم لها كافر بالله العظيم"، ويقصد بذلك حكام العرب كافة والعاملين في الدولة، وبالتالي من لم يكفر هؤلاء فهو كافر. وهنا نحن أمام مجموعة كبيرة من المسلمين، هم "كفار" بحسب جبهة النصرة.
يقول الشعيبي في كتابه "القول المختار في حكم الاستعانة بالكفار" إنه لا "يجوز لليهود والنصارى وغيرهم من الكفار أن يبقوا في جزيرة العرب"، في فتوى صريحة بتهجير هؤلاء. ونلاحظ كلمة "وغيرهم من الكفار"، وهنا جواز استنساب الكفر، وبالتالي سيكون كل المسلمين متهمين بالكفر ما لم يثبت العكس، لأسباب عدة، منها على سبيل المثال الصلاة في المسجد النبوي، نظراً لوجود قبر النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم بداخله.
وأصدر الشعيبي فتوى بحق الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش بالردة، وبالتالي القتل فوراً ولا يترك له مجال للتوبة، وكذلك على الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم.
ونصح العريدي لتبيان نهج جبهة النصرة بقراءة كتاب "معالم في الطريق" لـ "سيد قطب"، وفيه "ليس المجتمع الاسلامي هو الذي يضم ناساً ممن يسمون انفسهم مسلمين، بينما شريعة الاسلام ليست هي قانون هذا المجتمع، وان صلى وصام وحج البيت الحرام"، وفي ذلك تكفير صريح للمسلمين حتى من صلى وصام وحج، إذا لم يطبقوا "الشريعة".
وفي هذا الكتاب، يتحدث سيد قطب عن نظرية تكفير المجتمعات الإسلامية، وليس الحكام فقط، ويعتبر أن المسلمين الذين يعيشون في دولة لا تطبق الشريعة هم في "الجاهلية" وبالتالي ليسوا بمسلمين، وإن أقاموا الشعائر الإسلامية.
ووجه الجولاني في مقابلته الأخيرة رسائل إلى الداخل السوري، بأن جبهته تنظيم القاعدة، قاطعاً بذلك أي مجال لفك الإرتباط مع القاعدة، وتحديدا إلى فصائل ما يسمى "جيش الفتح"، معترفاً بصراحة ان بعضها مرتبط بجهات خارجية، ويتلقى الدعم الخارجي. وبالتالي فإن مصيرها المحتوم هو كما مصير "جبهة ثوار سوريا" و"حركة حزم"، التي حكمت عليها النصرة بالتبعية للخارج، وهذا ما يؤشر على أن "جيش الفتح" ما هو إلا مطية تريدها جبهة النصرة، لفرض أفكارها التكفيرية على الشعب السوري، وإن لبس الجولاني اللباس الشامي.