يتذكر الولدان كيف بكيا طويلا أثناء توجههما نحو معبر الناقورة. يستذكران لحظاتهما الاولى في وطن جديد يتعرفان إليه فتياناً. وطن دخلاه بالدموع حزنا على «وطن آخر» لم يقل أحد لهما إنه عدو بلادهما
ظهيرة 14 أيار 2015، وعلى مسافة أيام قليلة من «عيد التحرير»، يفتح جندي من جنود «القبعات الزرق» البوابة الحديدية في الناقورة. تقول الأم لولديها، وهما يعبران من الجنوب باتجاه الشمال، من فلسطين إلى لبنان: «هنا أرضنا. هنا الجنوب»، ليبدأ الطفلان رحلتهما من «الهُناك» الى «الهُنا».
من «نهاريا» في شمال فلسطين المحتلة، يعود الطفلان اللبنانيان الى وطن لم يعرفاه من قبل. «لبنانهم» كانوا يرونه كعائلة من وراء «السياج الشائك»، في مناسبات كانت تدعو اليها «الجالية اللبنانية في إسرائيل». أيضا كانوا ينظرون من نهاريا الواقعة في سهل متصل بالبحر، نحو التلال الشمالية ومن خلفها كانت قرى ولد فيها أهلهم، كما كانوا يرددون أمامهم.
وصل «علي» (15عاما) و «محمد» (13 عاما) مع والدتهما إلى قريتهم في الجنوب. الأم كانت قد هربت بمعية زوجها العنصر في الميليشيات اللحدية الى فلسطين المحتلة في 23 أيار 2000 وكانت حينها حاملا في شهرها الثالث، لتنجب ابنها الأول «علي» في أحد مستشفيات نهاريا بعد أشهر. تبرر قرار اللجوء بخوفها من ردة فعل عمها لو قررت البقاء في قريتها الواقعة في القطاع الغربي، بعد الانسحاب الاسرائيلي. والد زوجها هو «ابو عصام» مسؤول معبر اللحديين في «الحمرا» قرب الناقورة.
في فلسطين المحتلة، أقامت العائلة في «كيبوتس» (مجمع سكني يضم غرفا صغيرة) فقير عند أطراف مستوطنة نهاريا. شكّل ذلك أول صدمة لها، بالمقارنة مع معاملة مختلفة تلقاها بعض كبار العملاء ممن كانوا يخضعون لإمرة وزارة الدفاع الاسرائيلية.
تتكتم الأم عن ذكر المبلغ الذي كانت تتقاضاه العائلة من «وزارة الشؤون» (الاسرائيلية)، وتقول انها تفرغت للعمل بالتنظيفات وغسل الاواني في المطاعم. تحكي عن حياة الذل التي عاشتها وزوجها الذي يتحضر للعودة الى لبنان «قريباً»، كما أبلغها عبر اللجنة الدولية للصليب الاحمر.
ولداها «علي» و «محمد» لبنانيا الهوية فقط. عمليا، كانا يشعران بالانتماء الى المكان الذي ولدا فيه. مكان لا يعرفان أن اسمه الحقيقي فلسطين. مكان له اسم واحد بالنسبة لهما: «إسرائيل». هذا ما تعلماه في المدرسة اليهودية في نهاريا. «ذاكرتهما هي ذاكرة الولادة والطفولة والمدرسة»، تقول أمهما، وجل ما يعرفانه عن الوطن الام ما كانا يتصفحانه عبر الشبكة العنكبوتية. أعجب «علي» ببيروت «كمدينة جميلة ولكن ليس كعاصمة بلدي كما صرت أعرف الآن»، على حد تعبيره.
أما شقيقه «محمد»، فقد بدا غزير الكلام عن رفاقه في مدرسة «نفار شحاكيم»: «كنا ندرس ونلعب سوياً». يعود بالذاكرة الى «الغان» (الحضانة بالعبرية) يوم حضر ورفاقه اليهود احتفالا مفاجئاً للمعلمة بمناسبة عيد ميلادها. نال يومها «الدبدوب» الاول في حياته وأطلق الكثير من البالونات في الهواء. يحكي الطفلان بلكنة فلسطينية عن الحياة اليومية في نهاريا. يسميان الأشياء بأسمائها العبرية، ويشرحان خريطة الأماكن والطرق بكثير من الحنين اليها. يرويان قصص رحلاتهما المدرسية الى البحر وأماكن التنزه الخضراء.
الطفلان يحفظان الكثير من الأغاني العبرية وأسماء المطربين في «اسرائيل». ينشدان جيدا «النشيد الإسرائيلي» («هتكفا» ـ «الامل»). أما عن لبنان، فيقول «علي» ان «كل ما نعرفه عن لبنان أنه بلد إرهاب»، قبل ان يتبادل الحديث باللغة العبرية مع شقيقه «محمد» بحثا عن كلمة باللغة العربية. يردف «محمد» بصورة عفوية معلقا «لا أحب لبنان»، ولا يخفي مشاعره: «اشتقت لإسرائيل. نعم، أرغب برؤية أصدقائي في المدرسة ولو ليوم واحد»!
يسارع «علي» للاعتراض على كلام شقيقه «محمد»، ويقول: «أرغب بزيارة بيروت بعد حصولي على أوراقي الثبوتية كي أتمكن من التجول بحرية». حرية افتقدها الطفلان حيث ولدا، إذ كان يتعين عليهما إبلاغ الشرطة الإسرائيلية مسبقا قبل قيامهما بأية رحلة أو زيارة خارج نهاريا، ومن ثم انتظار موافقتها ليسمح لهما بالانتقال من مكان إلى آخر داخل فلسطين المحتلة.
يفضّل الشقيقان، اللذان سيلتحقان بالمدرسة في قريتهما الجديدة في العام المقبل، القول أمام رفاقهما الجدد إنهما كانا في أميركا وليس اسرائيل. كل ما فعلاه منذ وصولهما حتى الآن قضاء الوقت في منزل جدهما (والد أمهما) وتعلم «شك الدخان». حين دخلا هذا البيت المؤلف من طابقين ظنا انه البيت الذي يتم فيه تصوير مسلسل «باب الحارة» الذي تابعاه من نهاريا، وحين كانت تصعب عليهما كلمة بالعربية.. تتولى الأم الترجمة!
يتذكر الولدان كيف بكيا طويلا أثناء توجههما نحو معبر الناقورة. يستذكران لحظاتهما الاولى في وطن جديد يتعرفان إليه فتياناً. وطن دخلاه بالدموع حزنا على «وطن آخر» لم يقل أحد لهما إنه عدو بلادهما. وطن لا يعرفان أنه يحتفل بعيد تحريره من اسرائيل التي يحفظون أعيادها ونشيدها و «أبطالها»!
حكايات «علي» و «محمد» عن بلدهما «الأول» لا تنتهي. ذاكرتهما لا تحمل صوراً لغيره من البلدان. لا رابط فعلياً لهما مع بلدهما الفعلي الذي اكتشفاه قبل أيام قليلة. تلك القضية ما تزال مفتوحة منذ اليوم الأول للتحرير. «علي» و«محمد» ليسا حالة خاصة. المئات من اللبنانيين ولدوا في إسرائيل ولا يعرفون شيئاً عن «لبنانهم». وإذا كان أهاليهم يدفعون ثمن عمالتهم، من خلال ترك وطنهم ونبذهم من قبل المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني، فإن لبنان، ما يزال معنياً، على الأقل، بالبحث عما يمكن فعله لإنقاذ الأبناء.. الذين لا ذنب لهم سوى أنهم أبناء عملاء. كانت المهمة لتكون أسهل خلال السنوات الماضية كلها، لكنها إذا لم تعالج اليوم، فستكون غداً أصعب.. حكماً.