حين فاز رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية التركية العام الماضي، أثار موجة من القلق، ليس في أوساط العلمانيين الأتراك فحسب، وإنما في أوساط المؤسسة العسكرية التي نصبت نفسها حامية لإرث أتاتورك
مأزق أردوغان
حين فاز رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية التركية العام الماضي، أثار موجة من القلق، ليس في أوساط العلمانيين الأتراك فحسب، وإنما في أوساط المؤسسة العسكرية التي نصبت نفسها حامية لإرث أتاتورك، وحافظة لهوية الدولة العلمانية بكل الطرق والوسائل. فالعسكر تدخّلوا أربع مرات، أي بمعدل مرة كل عشر سنوات، لـ «ضبط إيقاع» الديموقراطية، بما يؤدي إلى عدم هيمنة الإسلاميين على مقدرات البلاد.
وها هو حزب أردوغان، «العدالة والتنمية» الإسلامي الذي يحكم تركيا منذ العام 2002، يتراجع بشكل مدوٍّ في الانتخابات التشريعية الأخيرة، بحيث لم يعد قادراً على تشكيل حكومة حزبية بمفرده، وهو ما يجعل السيناريوهات المقبلة تتراوح بين تشكيل حكومة ائتلافية أو إجراء انتخابات نيابية مبكرة. ولعل هذا الإخفاق الانتخابي يحتم على أردوغان ورئيس الحكومة أوغلو كثيراً من «الإكراهات» السياسية لحزب «العدالة والتنمية»، عند الجلوس على طاولة المفاوضات مع بقية الأحزاب الأخرى لتشكيل الحكومة التركية الجديدة. علماً أن هذه الإكراهات قد تؤدي إلى «ضياع حلم السلطنة» بالنسبة لأردوغان.
فالزعيم التركي الذي انضمّ إلى مؤسس الجمهورية التركية الحديثة والعلمانية مصطفى كمال، باعتبارهما أكثر القادة تأثيراً في تاريخ تركيا الحديثة، كان قد أعلن بوضوح أنه يريد تحويل تركيا إلى جمهورية رئاسية بدلاً من استمرارها في ظل نظام برلماني، حيث صلاحيات رئيس الجمهورية محدودة جداً. لكن هزيمة «العدالة والتنمية» طوت أحلام أردوغان في تجميع كل الصلاحيات في أيدي الرئيس.
لقد سار أردوغان على مدى سنوات في طريق الحداثة، مقدّماً صورة مشرقة عن الوئام بين الديموقراطية والإسلام، محجماً عن اتخاذ خطوات نحو «أسلمة» الدولة، من شأنها أن تُثير ردود فعل غير قابلة للاحتواء من جانب فئات داخل تركيا، نشأت أجيالها على العلمانية منذ ثمانين عاماً، خصوصاً أن أي خطوة من هذا النوع لا يمكن أن تتجاهل توجهات نُخب البلاد العلمانية، من رجال أعمال ووسائل إعلام وجامعات، فضلاً عن قسم كبير من الطبقة الوسطى في المدن. وهذه دوائر لن تسير مع أردوغان إذا أعرض عن الطريق التي سلكته تركيا منذ عهد مؤسسها الأول كمال أتاتورك. وقد كان نجم الدين أربكان، معلم الإسلاميين الأتراك كلهم، بمن فيهم أردوغان قد قال له ذات مرة: لا تسلك سلوك ذوي العقول المقفلة! وقد أدرك أردوغان أن المسلم المتدين هو الذي يستطيع أن يكسب أكثريات في تركيا، وأن ينتهج سياسة معتدلة تدخل الإسلام إلى عالم الحداثة، وتدخل في الوقت عينه الحداثة إلى عالم الإسلام.
لقد أراد أردوغان السيطرة على منصب رئاسة الجمهورية في البلاد أياً يكن الثمن. فمن خلال رئاسة الجمهورية، يمكنه إدارة السلطتين العسكرية والقضائية، بحيث يعين أشخاصاً قريبين من الوسط الإسلامي لعضوية المجلس الأعلى للتعليم العالي والمحكمة الدستورية العليا والمحاكم الأخرى، وهي من أهم ضمانات النظام العلماني القائم في البلاد. فالقضاء والجيش هما السلطتان الوحيدتان اللتان يعجز عن السيطرة عليهما مباشرة حتى الآن.
على أن سياسة أردوغان وحزبه لها أبعاد داخلية وأخرى خارجية. فقد جسدت القومية الأتاتوركية التي تبنت أيديولوجيا الحداثة الغربية بكل مفاهيمها السياسية والثقافية، قطيعة مع الرابطة العثمانية زمن الخلافة والسلطنة والإمبراطورية المترامية الأطراف، التي تمتد من البلقان إلى القوقاز وصولاً إلى تركستان الشرقية، حيث يوجد في تلك الأقاليم ما يمكن تسميته بـ «العالم التركي» الذي يعيش فيه نحو 150 مليون ناطق باللغة التركية، ولا يزال جزءاً من الهوية التركية ومن نظرة الأتراك إلى ماضيهم وحاضرهم.
لذلك، وقبل بداية ما يُسمّى بـ «الربيع العربي»، فقد كانت السياسة الخارجية التركية التي قادها وزير الخارجية السابق، ورئيس الحكومة الحالية أحمد داود أوغلو، تعمل في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على توطيد علاقاتها مع سوريا وإيران والقضية الفلسطينية، مطبقة بذلك مفاهيم «العمق الاستراتيجي» و «المشاكل صفر» مع جيرانها من الدول العربية والإسلامية، وكذلك مع «أعدائها التاريخيين» مثل اليونان وأرمينيا. وقد قام ذلك على استثمار الفراغ الإقليمي الكبير بسبب غياب الدور العربي الفاعل، وتحالفها مع الولايات المتحدة من أجل تأمين عودة تركيا كواحدة من الدول الإقليمية صاحبة القرار والحضور الفاعل في المشهد السياسي الشرق أوسطي.
لكن مع مجيء هذا «الربيع» وانفجار الأزمة السورية، وقفت تركيا إلى جانب الحركات الجهادية الإرهابية عبر دعم المسلحين بالمال والسلاح، وبتمويل خليجي، وهو ما أدى إلى تدمير سوريا وتصعيد الخطاب الطائفي في دول العالم العربي والإسلامي. وقد بدا «الربيع العربي» لأردوغان وحزبه كما لو أنه فرصة تاريخية لفرض «نموذجه الاسلامي» وإعادة بناء مجد الخلافة العثمانية، وطرح نفسه كمعبّر عن حركات «الإخوان المسلمين» في العالم العربي. وهذا ما جعل العديد من الفئات العربية تنظر إلى الدور الإقليمي التركي في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والبلقان، على أنه استعادة «للعثمانية الجديدة»، حيث يحاول أردوغان الاستفادة من الموقع المتميز لتركيا في علاقتها بـ «الحلف الأطلسي» وبالولايات المتحدة لتحقيق هذا الغرض. ففكرة أردوغان تقوم أساساً على الدمج بين «العثمانية» و «الأطلسية»، بمعنى أن يصبح زعيماً إقليمياً تحت جناح السيطرة الأطلسية. وقد كانت العقبة الرئيسة أمام ذلك هي سوريا.
اليوم، وبعدما بات المشروع السياسي لتركيا بمنزلة النموذج الذي يلقى ترحيباً من «الإخوان المسلمين» العرب، الذين ينظرون إلى أنقرة كعاصمة محورية في الشرق الأوسط، وبعدما طوّرت تركيا توازياً علاقاتها مع بلدان «مجلس التعاون الخليجي» واضعة هذه العلاقات على خطوط الانقسام المذهبية السائدة في المنطقة، وصل أردوغان وحزبه إلى مأزق كبير، لا يتصل برؤية بلاده حيال ملفات المنطقة فحسب، بل أيضاً بهويتها. وأصبح الاصطدام وتداعياته على سياسة تركيا الخارجية قائماً بين المدافعين عن الذات التركية الصافية، الذين يرون في نهج التيار الإسلامي قطيعة مع الأتاتوركية، وبين أنصار التيار المذكور الذين يحنون إلى أزمنة عثمانية غابرة.
http://assafir.com/Article/424774
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه