حين كنت تلميذاً في الثانوية طالعت كتابات الشيخ محمد مهدي الآصفي، وحرصت على ملاحقة كل ما أعثر عليه من مقالاته المنشورة في دوريات «الأضواء، النجف، رسالة الإسلام، الإيمان وغيرها».
بقلم: د. عبد الجبار الرفاعي
حين كنت تلميذاً في الثانوية طالعت كتابات الشيخ محمد مهدي الآصفي، وحرصت على ملاحقة كل ما أعثر عليه من مقالاته المنشورة في دوريات «الأضواء، النجف، رسالة الإسلام، الإيمان وغيرها». واعتدت على اقتناء كل جديد له، ومطالعته فور عثوري عليه. ولعل آخر مؤلف له أثار اهتمامي هو «دور الدين في حياة الإنسان»، صدر منتصف سبعينيات القرن الماضي، وهو كتيب يشرح مفهوم الدين، ويستعرض ويناقش النظريات المتنوعة في تفسيره. ولفرط إعجابي بهذا الكتاب قمت بترويجه بين زملائي، وتدريسه في حلقاتي، فقد كنت أهتم بتعليم مجموعات من تلامذة الثانوية والجامعة مؤلفات السيد الشهيد محمد باقر الصدر، وكتاب الشيخ الآصفي هذا.
اللقاء الأول بالشيخ الآصفي كان قبل أكثر من أربعين عاماً في جامع «النقي» في الكويت، إذ كان يصطحبني إلى الصلاة يوم الجمعة، أخي شريف القحطاني (أبوعادل) حين كنت أمضي العطلة الصيفية في الكويت. بعد أن نصلي خلف الشيخ يتحدّث للمصلين بصوت دافيء، يشرح عادة مفهوماً إسلامياً من منظور قرآني. وهكذا كنا نحضر دروسه الأسبوعية التفسيرية في ديوانية جامع النقي، وقاعة جمعية الثقافة الاجتماعية. للمرة الأولى أتعرّف على تفسير «الميزان» للعلامة الطباطبائي من خلاله، ذلك أنه كان يحمله أحياناً لحظة يفسّر الآيات، ويهتم بالاستناد إليه كمرجعية في بيان مدلولاتها، وهو يهتم بتوضيح لغة الميزان المكثفة الدقيقة المشبعة بالمصطلحات للمتلقين، بشرحها وتبسيطها عبر الأمثلة الحسية، وإن كانت معانيها مجردة.
أسلوبه في الحديث يجذبني، إذ كنت أنتبه لكل عبارة يقولها، وكل كلمة يتلفظها، وتهيمن على مشاعري تعبيرات وجهه المشبعة بالمعنى، وإيماءات جسده الروحية الموحية، وحركات يديه المسالمة. لا أتذكر ما يشي بعنف في صوته، أو فظاظة في كلماته، أو خشونة جسده. لم أكن أعلم عند مطالعة كتاباته قبل لقائي به أن صورته والهالة الروحية لشخصيته ستكون ملهمتي أيضاً.
الآصفي كائن عميق، ممتلئ عالمه الجواني، متأمل، هادئ، قليل الكلام، يؤثر الصمت، يتقن فن الإصغاء لمحدّثه، لا يغرق في الهذيان، مثلما يفعل أولئك المتعالمون، ممن يتكلمون ولا يصمتون، ذلك أنهم يتكلمون لأجل الكلام، كي يعلنوا عن وجودهم، ويعملوا على تحقيق ذاتهم بالكلام فقط، لا بالفعل. كذلك لم يكن الآصفي يخوض في مثالب الآخرين، ولا يحترف صناعة الأحقاد والكراهية والهجاء، ولا ينشغل بالشكوى والضجيج، ولا يبدي التشاؤم والتذمر والسأم من الأيام.
ابتكر الآصفي لنفسه نموذجه الخاص، الذي لا يشبه فيه إلاّ ذاته؛ نموذجاً يتجلى فيه نضجه الروحي، وتوازنه الأخلاقي، وحكمته العملية، وهو ما تفرّد به، إذ احتفظ بسلوك ومواقف ظلت موضع سجال بين مريديه وسواهم. فهو مثلاً استمر وفياً لأستاذيه آية الله الخميني وآية الله الخوئي. في أوقات عنفواننا الثوري وذوباننا بالثورة الإسلامية في إيران وقائدها آية الله الخميني، وتشديدنا على نفي ما سواها. وانفعالنا وغضبنا من مواقف آية الله الخوئي. كنا نرى العالم بعين واحدة، ولا نكاد نبصر سوى لونين، إما الأبيض أو الأسود، لذلك نندهش ـ نحن الثوار ـ من مواقف الآصفي المساندة المدافعة عن آية الله الخوئي، على الرغم من دعمه وانخراطه في الثورة الإسلامية في إيران وتمسكه بقائدها. بل كان بعضنا يسيء الظن بالشيخ، ويتهمه بازدواجية المواقف، حيث تلتبس لديه مواقفه؛ حتى أدركت أنا لاحقاً ـ قبل أكثر من ربع قرن ـ صواب موقف الآصفي في دعم أستاذيه، حين اكتشفت متأخراً ـ بعد دراسة وتدريس الفقه والأصول سنوات طويلة في الحوزة ـ مكانة السيد الخوئي العلمية، ودوره في حماية ما تبقّى من ميراث المرجعية والحوزة في النجف، بعد هيمنة سلطة صدام الفاشية على العراق.
حين أصدرت محور «الفكر السياسي الإسلامي»، في العددين الأول والثاني لمجلة قضايا إسلامية معاصرة العام 1997، دعوته للكتابة، فوضع تحت يدي تقريراته لدرس أستاذه الإمام الخميني في حوزة النجف، وسألته إن كانت منشورة من قبل، فأخبرني بأنه لم ينشرها، وأن الدرس كان بالفارسية، لكنه يترجمه للعربية ويكتبه مباشرة. وأضاف أنه قدّم ما كتبه لأستاذه، وأطلعني على تعليقات وإشارات الأستاذ الإمام على حواشي النص. لكنه اقترح فيما بعد إرجاء نشر التقريرات إلى أجل غير مسمى، فأعدتها له.
تميّز الآصفي بعمق تجربته الروحية، وثراء حياته الأخلاقية، وشفقته على الناس. وكأن صورة الله تتجلى له في المحرومين والمهمشين والبؤساء والفقراء واليتامى والمساكين، أي أنه كان يرى إلى هؤلاء بوصفهم صورة الله في الأرض. لذلك تفرّغ لهذه المهمة، فتكفل أعداداً كبيرة منهم في مخيمات اللاجئين ومختلف مواطن إقامتهم. وبنى مؤسسات خاصة تتكفلهم، وضع لها أنظمة حسابات خاصة، ومعايير صرف صارمة، وطرق مراقبة وتدقيق تفصيلية، يوليها عادةً لمتطوعين في الخدمة الاجتماعية، وإن كان هو لا يكف عن المتابعة والتفتيش والملاحقة حتى للتفاصيل الجزئية، وهو في كل ذلك يمارس نمطاً قاسياً من التقشف في النفقات على نفسه والفريق المتطوع معه، ويعيش حالة الزهد والتعفّف في الإنفاق، بنحو طالما أرهق العاملين معه، فاعتذروا من مواصلة المسار في مؤسساته؛ لعجزهم عن تحمل الحرمان والزهد الذي كان يفرضه بقساوة على نفسه وعائلته، وكل من يعمل معه. هكذا رأيته، وهكذا حدّثني أصدقاء عملوا معه، ولم يطيقوا ذلك.
ولعل من أطرف ما سمعته من تذمّر بعضهم، هو أنهم حين يسافرون معه في مهمة إنسانية، لإغاثة لاجئين أو رعاية محرومين أو الإنفاق على يتامى وفقراء ومساكين، فإنهم حين يدخلون المطاعم أوقات الغداء أو العشاء، عادةً يسأل هو عن أرخص أنواع الطعام، فيوصي به له ولهم. يقول أحد الأصدقاء لم أستسغ الطعام الرخيص الذي طلبه الشيخ الآصفي في إحدى السفرات، فقلت له شيخنا: أتسمح لي أن أتغدّى من الطعام كذا، الأغلى. فأجابني: لا مانع لدي، إن كان ذلك من مالك الشخصي، لا من أموال اليتامى والفقراء والمساكين، المؤتمنين عليها نحن.
وأتذكر سنة 1986 زرته في منزله وقت الظهر، وكنت أواصل الحديث معه في بعض القضايا الفكرية، ولما تأخرت دعاني للغداء معه. فقدّمت زوجته المرحومة أم ابتهال طبق الطعام، الذي كان متواضعاً جداً، كافة مكوّناته هي الأرخص في الأسواق الشعبية. لم أتناول منه إلاّ اليسير، وكففت عن المضي في تناوله بعد قليل، وحين دعاني للاستمرار تظاهرت بالشبع، وإن كان هو قد واصل رحمه الله تناول الطعام بشكل عادي، لأنه اعتاد عليه. وعند عودتي للمنزل سألتني زوجتي إن كنت تغدّيت في منزل الآصفي، فقلت لها: تعرفين زهد الشيخ الآصفي وتقشفه في العيش، الذي لا يطيقه شخص مثلي، فقدّمت لي الطعام الذي أعدته للغداء.
يقول الصديق الشيخ رياض الناصري: انه في العام 1985 جاءت المرحومة أم ابتهال زوجة الشيخ الآصفي الى منزلنا، وقالت انها تريد أن تسافر لارسال مساعدات لمخيمات اللاجئين العراقيين في مدينتي «أزنه والأهواز» في ايران، وهي تطلب استعارة عباءة زوجتي المرحومة أم ضياء؛ لأن عباءتها كانت قديمة جداً، قد تغير لونها من الشمس، فأعارتها أم ضياء العباءة مدة السفر.
لم يتخذ الآصفي لنفسه وعائلته بيتاً فارهاً، أو قصراً منيفاً في الأحياء الراقية بقم، بل إنه لم يشتر بيتاً، وانما لبث يعيش وعائلته في البيت الصغير القديم، في الحي الشعبي ذاته، طيلة فترة اقامته في هذه المدينة. وهو بيت كان ورثه من المرحومة والدته.
تدفقت الأموال على الشيخ الآصفي كالشلال من منابع شتى في مختلف البلدان، يقدّمها بسخاء وثقة: رجال أعمال وتجار ومحسنون؛ وهو مع كل ذلك لم يسقط في فتنة المال، ولم يستغله لأغراض شخصية أو حزبية أو سياسية. لم يتحوّل الدين في حياته إلى سلعةٍ يتكسب بها و يرتزق منها. وظلّ على الدوام ينشد إغاثة المحرومين، بغض النظر عن انتمائهم، كانت الإنسانية نصابه في الإنفاق على حاجات الناس.
نقل لي أحد وكلاء المراجع المعروفين في قم، أنه والشيخ الآصفي ومجموعة من المسئولين في المدينة اجتمعوا لمناقشة مشاكل المهاجرين العراقيين قبل سنوات. يقول: لكن الآصفي نبهنا إلى مشاكل المهاجرين الأفغان أيضاً. وقال: إن معاناتهم لا تقل عن معاناة العراقيين، فلماذا لا نفكّر في متاعب الكل. وطلب منا أن نفكّر بهم جميعاً، ونقترح حلولاً لمشكلاتهم معاً.