الرجل ليس أكثر من مزيج من إديولوجيات وازدواجيات معقَّدة ضاق بها الشعب التركي، وأنزل اللعنات في صناديق الإقتراع
أمين أبوراشد
عندما اعترض رجب طيب أردوغان منذ نحو ثلاث سنوات على مسلسل "حريم السلطان"، وحاول دون جدوى منع تصوير الجزء الثاني منه، فمِن مُنطلق أن هذا المسلسل يُظهر شخصية السلطان سليمان وكأنه ينتقص من القيمة القومية والتاريخية لسلاطين بني عثمان، وأردوغان نفسه، بنى قصره الرئاسي مؤخراً من وحي قصور أجداده السلاطين، وبدأ بالتحضير لنظام رئاسي يُعيد مجد السلطنة والكلمة المُطلقة على حساب النظام البرلماني الديموقراطي من جهة، وإرث مصطفى كمال أتاتورك من جهة أخرى، إلى أن أتت الصفعة من الشعب عبر الإنتخابات البرلمانية الأخيرة ولم يستفق "السلطان أردوغان" منها بعد وقد لا يستفيق.
سقطت أحلام أردوغان بالوصول الى استحقاق العام 2023، وهو موعد إنتهاء مهلة المئة عام التي نصَّت عليها معاهدة لوزان عام 1923 بشأن تركيا بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية وإعلان الجمهورية بزعامة مصطفى كمال أتاتورك، حيث فرضت الدول المتحالفة في هذه المعاهدة شروطاً على تركيا، من ضمنها أنه لا يحق لها استثمار ثرواتها الباطنية ومنها النفط لمدة مئة عام أي لغاية عام 2023، وأن تحفظ كافة حقوق الأقليات لديها، وكان أردوغان يعمل على بلوغ تركيا مئويتها وهي تحت الحكم الرئاسي المُطلق، لتستعيد إمكاناتها وأمجاد الامبراطوريه العثمانية، سيما وأنه في أسبوع الإنتخابات كان يحتفل بين الجماهير بذكرى 500 عام على سقوط القسطنطنية التي هي اسطمبول اليوم بيد العثمانيين.
وبما أن إتفاقية لوزان اشترطت الشراكة الوطنية والسياسية للأقليات العرقية والدينية، وتم عند توقيعها إلغاء معاهدة "سيفر" الضامنة لحقوق الأكراد، كان أردوغان يردِّد دائماً في خطاباته "هدفنا ان نصل لعام 2023"، ويُخطِّط لقيام نظام رئاسي آحادي السلطة عبر "حزب العدالة والتنمية"، دون شراكة مع الأقليات والأكراد بشكلٍ خاص، الذين يعتبرون إتفاقية لوزان مجحفة بحقوقهم لأنها ألغت معاهدة "سيفر" الضامنة لهذه الحقوق، وذهبوا عبر نحو قرنٍ من الزمان الى الثقة بالأتراك من منطلق الأخوَّة الإسلامية وأن "الكُرد والتُرك" إخوة ولا تمييز بينهما، ووضعوا حقوقهم القومية في المرتبة الثانية، لكنهم لم يستطيعوا المحافظة على بنود معاهدة "سيفر" من جهة ولا الصمود في مواجهة تجاهل الأتراك لحقوقهم من جهة أخرى، خاصة خلال العقد الأخير من حُكم أردوغان وسعيه الى التفرُّد بالسلطة.
وعندما يُصرِّح زعيم "حزب الشعوب الديمقراطي" الكردي صلاح الدين دميرطاش، بعد صدور نتائج الإنتخابات البرلمانية الأخيرة برفض الإئتلاف الحكومي مع "حزب العدالة والتنمية"، فليس اعتراضاً على أداء الحزب بقدر ما هو على شخص أردوغان الذي ما زال على حدّ قول دميرطاش، الزعيم الفعلي لهذا الحزب، وليست لرئيس الحزب أحمد داود أوغلو أية سلطة بوجود أردوغان الحاكم الفعلي والموجِّه للسياسات الداخلية والخارجية، وما يُثبت مقولة دميرطاش، أن "حزب العدالة والتنمية" خسر نحو ثمانين مقعداً في الإنتخابات نتيجة انقسامات داخله، لأن إبعاد أردوغان للرئيس السابق عبدالله غول مع إحدى وسبعين شخصية مؤيدة له عن المشهدية السياسية والحزبية، أثار غضب مؤيديه وردوا على أردوغان في صناديق الإقتراع.
مشكلة تركيا أنها عاشت وتعيش في عهد أردوغان زمن السلطنة وآحادية القرار، سواء عندما كان رئيساً للوزراء أو في موقعه كرئيسٍ للجمهورية، خاصة أنه أخضع الجيش الذي كان حامياً للإرث العلماني لسلطة الحكومة، وقَمَعَ القضاء بشكلٍ فاضح بحيث بات الأحد عشر قاضياً الذين يشكِّلون المجلس الأعلى للقضاء تسعة منهم معيَّنون من أردوغان، إضافة الى قمع الإعلام ومواجهة الجماهير في الشوارع بالقمع والبطش منذ أحداث ساحة "تقسيم".
وكائناً ما كانت التركيبة السياسية الجديدة في تركيا يبدو أن حزب "العدالة والتنمية" لم يستطع مواجهة الأحزاب المعارضة الثلاثة والمنظومة السياسية والإعلامية الداعمة لها، خاصة أن تُهَم الفساد التي لاحقت بعض وزرائه بقيت سيفا مسلطاً في يد المعارضة وأجادت استثماره، كما يبدو أن أردوغان وحزبه فشلا في التسويق لمشروع النظام الرئاسي للبلاد ولم ينجحا في طمأنة المواطنين الذين يخشون سير البلاد نحو مزيد من الدكتاتورية، كما أن مشاركته الفاعلة في ميادين الانتخابات قد زادت من هذه المخاوف وأعطت شعورا بعدم الثقة بداود أوغلو نفسه، وفي مجمل الاحوال، تعتبر نتائج الانتخابات التركية مؤشرا على ابتعاد الناخب التركي عن حزب "العدالة والتنمية" رغم أنه ما زال أكبر الأحزاب في البرلمان، لكن الإعتراض الشعبي هو على السياسات الخارجية الخاطئة التي اتخذها قادة هذا الحزب الذين كانوا يحكمون تركيا على مدى ثلاثة عشر عاماً بمفردهم، وتأثُّر الرأي العام التركي الذي ادرك تضرره وتضرر بلاده جراء هذه السياسات القائمة على استعداء دول الجوار مثل سوريا والعراق خدمة لمشاريع بعض الجهات الاقليمية والدولية، إضافة الى معاداة مصر نتيجة الدفاع المستميت لأردوغان عن الأخوان المسلمين لأن العرق العثماني لديه مدينٌ للأخوان منذ تأسيس حركتهم على يد حسن البنَّا عام 1914، تلك الحركة التي جاءت ردَّة فعلٍ إسلامية على سقوط الأمبراطورية العثمانية للمُطالبة بإعادة إحياء مجد تلك الأمبراطورية!
أردوغان دفع وسوف يدفع ثمن "براغماتية الأنا "، لأنه علمانيٌّ متى يقف على باب القارة العجوز لتحقيق حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، معتدل متى ينصّب نفسه مثالاً للإسلام المنفتح على الغرب كعضوٍ في حلف الناتو، متطرف متى يرغب أن يرضي ثورات "الربيع العربي" ويحتوي المتطرّفين فيها، وسنّي أكثر من سواه في ادعاء حرصه على أهل السنّة في سورية، ومتطرِّفٌ مذهبيّ يمتهن استيراد المرتزقة الإرهابيين لزعزعة نظام علوي والقضاء على مزاعم الهلال الشيعي الساكن في هواجسه!
عثماني القومية هو، متى يبطش بالأكراد ويحاور زعيمهم عبدالله أوجلان وهو أسيرٌ لديه، ويفرض عليه معاهدة سلام وهو رهينة القضبان، وتركيُّ المصالح وهو يوقّع 60 اتفاقية دفاعية عام 2010 مع "إسرائيل" من منطلق التحالف مع كل من يضمن مصالح تركيا، ويستفيق على إسلامه لنصرة غزّة وتقديم تسعة شهداء على متن سفينة مرمرة في مشهدية مسرحية لإظهار الدعم، ولم يقطع علاقته بـإسرائيل التي رفضت الاعتذار وبقي الموضوع عالقاً حتى قدوم أوباما وتمّ الاعتذار.
كل ما حققه أردوغان على مستوى التنمية، لم يغفر له هفواته القاتلة، من القضاء خطوة خطوة على "الإرث العلماني" الذي يعتبر أغلى من السيادة لدى من نهلوا ثقافة "أتاتورك"، إلى تطويع الجيش وتكبيل يديه وخنق الحريات تحت ذريعة الدين، والمحاولات المتدرّجة لفرض بعض أحكام الشريعة في حنينٍ من أردوغان لثقافة حزب الفضيلة، إلى مصادرة حرِّية القضاء للتعميم على فساد المقرَّبين منه، إلى الخطأ القاتل عبر توريط تركيا في الحرب على سورية وحشر الأنف بالشؤون الداخلية للدول الأخرى، وجعل تركيا محطة استيراد وتصدير للإرهاب والأسلحة، وتحمُّل الشعب التركي كلفة تدفُّق النازحين، مما يؤشّر إلى أن الرجل ليس أكثر من مزيج من إديولوجيات وازدواجيات معقَّدة ضاق بها الشعب التركي، وأنزل اللعنات في صناديق الإقتراع ليقول "لا" مدوِّية لأمبراطورٍ هزيل لم يكن عهده أكثر من حقبة سوداء وحلقة من مسلسل مرَّ عليها الزمن ..