يقول السيد نصر الله إن «نكبة التكفير أخطر من نكبة احتلال فلسطين». إذ مزق تيار التكفير النسيج الاجتماعي والديني والسياسي وهدم الدول، وأدخلها في نفق الفوضى وأشعل بين مكوناتها حرباً دموية لا قعر لها.
يبدو صعباً، أحياناً، فهم حقيقة العلاقة بين تيار التكفير والولايات المتحدة، بسبب سرعة حركة المنطقة نحو مزيد من الخراب، والدخان الكثيف الذي يغطي مسرح العمليات، وعمق التحولات التي قد تَحولُ دون الوصول إلى نقاط التقاطع بين الجانبين.
وصفي الأمين / جريدة الأخبار
فالسائد هو التركيز على تضارب المصالح، وعلى الاختلاف الإيديولوجي بينهما، واستحضار مزاعم التعددية والعقلانية في الغرب، وأهمية «حقوق الإنسان» في سلم القيم لديه، وتناقضها مع شمولية وتطرف وعبثية التكفيريين. لكن الحقيقة هي أن ما يحكم علاقة واشنطن بهذه التيارات، لا يتعلق بالإيديولوجيا ولا بالقيم. كما أن ممارسات الإرهابيين وهمجيتهم هي في آخر سلم اهتمامات واشنطن. والرهان على إمكانية المواجهة الجدية بينهما، ينم عن فهم غير دقيق للسياسة الأميركية.
ممارسات تيار التكفير الإرهابية وارتكاب المجازر واصراره على الإلغاء والإقصاء، ليست غريبة عن التاريخ الأميركي، ولا عن أدوات السياسة الأميركية وخططها واستراتيجياتها. الولايات المتحدة قامت في الأصل على غزوة أوروبية انتهت بإبادة الهنود الحمر والقضاء المبرم على تاريخهم وثقافتهم. انهيار «الدولة» في منطقتنا أدى إلى انزلاق جماعاتها ومكوناتها إلى صراع دموي داخلي
وهي دولة تأسست على العنصرية والتعصب والتوسع وثقافة الحياة للأقوى، وعلى عقيدة دينية هي مزيج من المسيحية واليهودية. وهي الدولة الوحيدة في التاريخ التي استخدمت السلاح النووي، ودمرت مدينتين يابانيتين بالكامل. هي دمرت فييتنام وكمبوديا وأفغانستان والعراق (عدد الضحايا بالملايين، ولا يمكن مقارنته بعدد ضحايا الإرهاب التكفيري). وفككت يوغسلافيا والاتحاد السوفياتي وقسمت كوريا والسودان... وحاصرت كوبا وإيران وليبيا والعراق وسوريا... الخ.
السياسة الأميركية تقوم على تقاطع المصالح وافتراقها، من دون الالتفات الى الوسائل وإلى حجم الكوارث والأزمات التي تخلفها. تلتقي مصالح الحلف الأميركي مع الظاهرة الداعشية، على التدمير والتخريب والدفع نحو مزيد من الانهيار. كما تتقاطع عند نقطة التفرد وهيمنة القطب الواحد. مع ما يعنيه ذلك من فرض النموذج الواحد، والقيادة الواحدة، والعملة السيدة، ونمط الحياة الواحد والثقافة الواحدة. وذلك يقتضي إخضاع الشعوب، وإلغاء الهويات الوطنية والحدود، وامتهان السيادة والأمن القومي. باختصار هدم البنى الفوقية والتحتية للمجتمعات وإعادة تشكيلها وقولبتها.
انهيار «الدولة» - المادي والمعنوي - في منطقتنا، أدى إلى انزلاق جماعاتها ومكوناتها إلى صراع دموي داخلي. والخراب الذي يخلفه الانهيار، هو المجال الحيوي الذي يعمل فيه الأميركي لبسط سيطرته، من خلال براعته في إدارة «الفوضى الخلاقة». وهذه الأخيرة هي التوأم الأميركي لإدارة التوحش في استراتيجية جماعات التكفير. وهاتان الاستراتيجيتان يحكمهما نمط إدارة واحد، وعقل واحد، لا يقبل الشراكة والاختلاف، وينزع نحو الفتك والتدمير. الفارق الوحيد بينهما هو أن «الفوضى الخلاقة» أداة لتفكيك الدول والمجتمعات. بينما إدارة التوحش، وسيلة للتمدد في الجغرافيا والإخضاع وتذويب الهويات، ونسف الذاكرة، وقتل المخالف، واسترقاق المختلف.
وتتقاطع واشنطن مع التكفيريين في اعتماد استراتيجية التوتر التي تستخدم لجر المواجهة داخل الدول إلى حافة الهاوية، فتندفع المجتمعات إلى القبول بأي بديل يحفظ أمنها ويحمي وجودها الجسدي.
الجانبان يخوضان، معاً، حرباً ضد محور المقاومة، لا تحتمل سوى نتيجة واحدة، منتصر أو مهزوم. يقول الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، إن «ظاهرة التكفير الإرهابي، لم يشهد التاريخ أخطر منها». معنى ذلك أن الصراع معها أصبح صراعاً وجودياً، ليس بالنسبة للمقاومة فحسب، بل لكل المجتمع الإنساني. فحرب الجماعات التكفيرية، وبخلاف كل وقائع التاريخ، لا تنتهي بهزيمة الخصم وإخضاعه، بل إن القتل والتدمير يبدأ فعلياً بعد «الانتصار» والاحتلال. وهي نقطة تقاطع مع الأميركي، مع فارق أن الأخير يستخدم وسائل وأدوات تخريب «ناعمة وحضارية».
ويقول السيد نصر الله إن «نكبة التكفير أخطر من نكبة احتلال فلسطين». هذا لأن نكبة فلسطين وحدت الأمة ضد عدو خارجي واحد، فغاب الكثير من النزاعات والخلافات، وتشكلت حركات تحرر حملت أهدافاً كبرى، تبدأ بالتحرير، ولا تنتهي بوحدة الأمة. بينما مزق تيار التكفير النسيج الاجتماعي والديني والسياسي وهدم الدول، وأدخلها في نفق الفوضى، وأشعل بين مكوناتها حرباً دموية لا قعر لها. والذرائع والحجج في الحالتين، الأميركية والتكفيرية، هي دائماً الإصلاح وبناء الدول والتأسيس لمجتمع العدالة، تحت عناوين دينية وانسانية وحقوقية.
يدرك الحلف الأميركي أن التهديد الوحيد لسعيه للهيمنة على المنطقة، هو محور المقاومة. كما يعلم، أن هذا المحور يملك من القوة والدوافع ما يجعله الجبهة الفعالة الوحيدة في مواجهة جماعات التكفير. فقد نجحت قوى المقاومة في إعادة ربط قضاياها الوطنية والإنسانية التحررية بهويتها الدينية، وأعلنت عالمية نضالها من أجل الإنسان، الأخ في الدين والنظير في الخلق. المقاومة حددت أهدافها بدقة، وتسعى الى تحقيقها بفعالية ودأب. محور المقاومة يصر على منع الأميركي والتكفيري من تنفيذ مخططاتهما، ويصر على اعتبار فلسطين قضية وجودية، وبوصلة تميز بين الخبيث والطيب. هذا الإصرار هو التجسيد المادي، الأوضح والأصدق، لأحد أهم المبادئ التي قام عليها ومن أجلها هذا المحور، وهو الوقوف في صف المستضعفين والقتال إلى جانبهم.
محور المقاومة الذي اكتفى في المرحلة السابقة بالتموضع في خندق الدفاع، والتحسب والتردد، يجد نفسه مضطراً إلى بدء مرحلة الهجوم على كل الجبهات، العسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية. إذ لم يعد ممكناً الاكتفاء بانتظار التكفيريين في الخنادق والتحصينات، بل ينبغي جعل الهجوم قاعدة لاستراتيجية متكاملة.
لا يزعج الأميركي، إرهاب تيار التكفير وممارساته وهمجيته، بل تزعجه طموحات هذا التيار، ومحاولاته الخروج عن السيطرة وأهدافه النهائية. ولقمع هذه الطموحات يغذي حرب التكفيريين ضد مجتمعاتهم، بهدف تدجينهم على نحو يسمح باستتباعهم لاحقاً وربطهم بماكينته الاقتصادية وجعلها شريان حياة لأي كيان، أو كيانات يسمح لهم باقتطاعها في منطقتنا. في كل الأحوال، التسوية والتفاهم بين الجانبين، ليس أمراً غريباً، بل هو الأمر الطبيعي، في ظل التحولات الكبيرة، وانقلاب القيم والمعايير. وأي مواجهة بينهما، تحت أي ظرف، يحرصان على إبقائها في إطار التحالف والصراع.
التحالف الأميركي «يشن حرباً جوية على داعش» منذ عشرة أشهر. لكن الأخير يواصل تقدمه الميداني في العراق وسوريا. ويتواصل تدفق المسلحين من الدول الحليفة لواشنطن نحو مناطق سيطرة «داعش» والجماعات المسلحة.
اجتماع وزراء خارجية دول التحالف لمحاربة «داعش»، الأخير في باريس، خرج بنتيجتين أساسيتين: الأولى، دعم للعراق مشروط بإنجاز «مصالحة وطنية بين مكوناته». وهو شرط يستبطن اتهاماً للعراق بالمسؤولية عن تمدد التنظيم، وتغييباً مقصوداً للتكفيريين. والثانية، تأكيد أن المعركة ضد «داعش» طويلة الأمد. والنتيجتان تشيران إلى اتفاق أعضاء التحالف على أن «داعش» ليس خطراً وشيكاً يستدعي الاستنفار. وتؤكدان الاكتفاء بالضربات الجوية التي ثبت فشلها، وأن هذه الضربات هي استراتيجية الحلف الوحيدة ضد «داعش» حالياً.
مسار «الصراع» بين واشنطن وتيار الإرهاب وطبيعة «المواجهات» بينهما، تؤكد سهولة توصلهما الى تسويات، أو الى تفاهمات حول قواعد اشتباك، تحفظ مصالحهما معاً. فكما وجدت «النصرة» (وليدة «داعش») أرضية مشتركة للتعاون مع الإسرائيلي، بإمكان «داعش» إيجاد أرضية مشابهة مع الأميركي. وكما لا يجد بعض مسؤولي حركة حماس حرجاً في «الدردشة» مع الإسرائيلي، لن يكون صعباً تفاهم تيار التكفير مع الأميركي على تنظيم «الخلاف». وكما فاوضت واشنطن طالبان، لن تمتنع عن التناغم مع «داعش». ولا غرابة في أن تتحالف واشنطن مع الإرهابيين ضد محور المقاومة، بعدما التقت المصالح السعودية والإسرائيلية على مواجهة إيران ومحاصرتها.
تحقيق الأهداف الأميركية، غير ممكن بوجود محور المقاومة. وبالتالي، فإن تعزيز التكفيريين وتحصينهم بقوى إقليمية حليفة، أمر حيوي بالنسبة لواشنطن. أما لجهة المقاومة، فإن هزيمة المشروع الأميركي، غير ممكنة في غياب استراتيجية بعيدة عن التردد والانتظار، بقيادة موحدة، ساحتها كل الجغرافيا العربية والإسلامية، ولا مكان فيها للتسامح مع الأجندات الخاصة. استراتيجية، عسكرية وأمنية وسياسية واقتصادية وإعلامية وثقافية شاملة. فالمثل الأميركي يقول: «إن لم تكن تملك سوى مطرقة، فكل المشاكل التي تواجهك ستصبح مسماراً».