ما الذي نريده من الصوم؟!..لماذا نصوم، هل لمجرد أننا مكلّفين شرعاً بأداء هذه الفريضة، أم أننا نريد ارتباطاً بعالم السماء يؤهّلنا لنكون من أهل الله؟!.فكيف يمكننا أن نحقق هذا الهدف في شهر الله سبحانه؟.
الصوم، يعني الامتناع عن الطعام والشراب، وكلّ ما يُفطر، وكلّنا نلتزم بهذه القاعدة الفقهية، إنما لو تنّبه أحدنا إلى المعاني الأخرى من الصيام، فكم واحد منّا يستطيع الإلتزام بها؟!.. وهذا يجعلنا نطرح السؤال الآتي : ما الذي نريده من الصوم؟!..لماذا نصوم، هل لمجرد أننا مكلّفين شرعاً بأداء هذه الفريضة، أم أننا نريد ارتباطاً بعالم السماء يؤهّلنا لنكون من أهل الله؟!.فكيف يمكننا أن نحقق هذا الهدف في شهر الله سبحانه؟.
ورد عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله لجابر بن عبد الله: يا جابر، هذا شهر رمضان من صام نهاره وقام ورداً من ليله وعفّ بطنه وفرجه وكفّ لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر، فقال جابر: يا رسول الله، ما أحسن هذا الحديث ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا جابر، ما أشدّ هذه الشروط !".
لا يمكننا إلا الإقرار بما وصفه الرسول (ص) بأنها شروط صعبة للغاية، فكيف بمقدورنا الاقتراب منها ؟. أعتقد أن الأمر الأول هو التمهيد النفسي قبل مجيء شهر رمضان، بأن نوطّن النفس والروح بأن القادم من الأيام ليس كغيره من الشهور، نحن سندخل في ضيافة رب العباد وخالق الكون، وعليه يفترض أن نكون حاضرين لهذه الضيافة بأن نتزوّد بأصولها وشروطها.
من هذه الأصول والشروط ما ذكره الإمام الصادق (ع)، نقلاً عن صحيح محمد بن مسلم، أنّه قال: "إذا صمتَ فليصم سمعُك وبصرُك وشعرُك وجلدُك، وعدّد أشياء غير هذا، قال: ولا يكون يوم صومك كيوم فطرك".
وفي روايات عن أهل البيت (ع) تفاصيل لا غنى عنها في فوائد الصوم وشروطه وآدابه، منها: رواية جرّاح المدائني عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "إنَّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، إنّما للصوم شرط يحتاج أن يُحفظ حتى يتمّ الصوم وهو الصمت الداخل، أما تسمع قول مريم بنت عمران: إنّي نَذرت للرحمن صوماً فلن أُكلّم اليوم إنسيّاً، يعني صمتاً، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضّوا أبصاركم، ولا تنازعوا ولا تحاسدوا ولا تغتابوا ولا تماروا ولا تكذبوا ولا تباشروا ولا تخالفوا ولا تغاضبوا ولا تسابّوا ولا تشاتموا ولا تنابزوا ولا تجادلوا ولا تبادوا ولا تظلموا ولا تسافهوا ولا تزاجروا ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة، وألزموا الصمت والسكوت والحلم والصبر والصدق ومجانبة أهل الشرّ، واجتنبوا قول الزور والكذب والفراء والخصومة وظنّ السوء والغيبة والنميمة، وكونوا مشرفين على الآخرة منتظرين لأيامكم، منتظرين لما وعدكم الله، متزوّدين للقاء الله، وعليكم السكينة والوقار والخشوع والخضوع وذلّ العبد الخائف من مولاه، راجين خائفين راغبين راهبين، قد طهّرتم القلوب من العيوب، وتقدّست سرائركم من الخبّ، ونظفت الجسم من القاذورات، تُبرّأ إلى الله من عداه، وواليت الله في صومك بالصمت من جميع الجهات ممّا قد نهاك الله عنه في السرّ والعلانية، وخشيت الله حقّ خشيته في السرّ والعلانية، نقصت ووهبت نفسك لله في أيام صومك، وفرّغت قلبك له ونصبت قلبك له فيما أمرك ودعاك إليه، فإذا فعلت ذلك كلّه فأنت صائم لله بحقيقة صومه، صانع لما أمرك، وكلّما نقصت منها شيئاً ممّا بينت لك فقد نقص من صومك بمقدار ذلك... إلى أن قال: إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب، إنّما جعل الله ذلك حجاباً ممّا سواها من الفواحش من الفعل، والقول يفطر الصوم، ما أقل الصوّام وأكثر الجوّاع".
نعم: إنّ الصوم الذي أمر به الإسلام هو هذا الصوم السماوي المرتبط بعالم الغيب، الذي صدع به القرآن والسنة النبوية، الذي لا ارتباط له بالمادّة اطلاقاً. وهذا الصوم هو الذي يحدّ من قوّة إغراء المادة للفرد وسيطرتها عليه بحيث يسلك الفرد عند عدم سيطرة المادّة والملذات والشهوات عليه مسلكاً سلبيّاً اتجاهها يتخذ شكل الزهد والقناعة.
ولكن بإعطاء صفة الوجوب لهذا الصوم، ومفهوم العبادة، والإطار الإسلامي له تتحوّل هذه النظرة السلبية إلى طاقة محركة وقوّة دفع وايجابية في العمل الذي أساسه الامتناع وفروعه التزود من منافعه التي يأتي ذكرها فيما بعد.
وهذا الصوم أيضاً هو الذي يروّض الشعور برقابة غير منظورة، وهي المسؤولية الصريحة بين يدي الله تعالى تبتعد به عن الحرية اللا مسؤولة والأخلاقية غير الهادفة التي تكون عند الفرد الذي يصوم وينظر إلى الأرض فقط.
وعلى ما تقدم من هذا الصوم الإلهي المسؤول فلا يصح اطلاقاً القول بأنّ النظر إلى السماء والغيب يؤدي إلى استسلام الإنسان للقدر واتكاله على الظروف وشعوره بالعجز الكامل عن الخلق والابداع، بل إنّ هذا الاتجاه يعبّر عن مبدأ خلافة الإنسان في الأرض، فالإنسان خليفة الله، وهو مفهوم غنيّ في التأكيد على قدرة الإنسان وطاقاته المهذبة النافعة الصالحة للمجتمع وللفرد، والمبتعدة عن الطاقة الشرّيرة الضارّة المفسدة للمجتمع والفرد. وهذا أبعد ما يكون عن مفهوم الاستسلام للقدر والظروف، لأنَّ الخلافة الصالحة تستبطن مسؤولية تجاه ما يستخلف عليه، ولا مسؤولية بدون حريّة وشعور بالاختيار والتمكّن من التحكم في الظروف، فالمسؤولية تتعارض مع التقييد والاستسلام والتسيير. وهذا هو ما أكده القرآن الكريم بقوله تعالى: فأمّا من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى فسنيسره للحسنى، و إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفرواً، وغير ذلك من الآيات الأُخرى التي تركت للإنسان حرية اختيار المصير.
ولتحقيق المزيد من الإفادة، من الواجب علينا جميعاً العودة إلى خطبة الرسول الأعظم (ص) في استقبال شهر رمضان المبارك، نتمّعن فيها ونغوص في معانيها وروحها علّه ينتقل إلينا كل هذا العبق الرباني في شهر الله، فعندها يمكننا التمني بأن نكون من أهل الله.
* الاستعانة ببحوث فقهية، بحث في الصوم، الشيخ حسن الجواهري/ موقع شبكة المعارف الإسلامية.