بحجّة مساعدة الفرنجة والتتار قتل الكثير من الشيعة والموارنة والنصيرية بعدما استبيحت مدنهم. وكانت النتيجة تدمير البلاد وهدم المنازل وقتل العديد من السكان». وكانت فتوى ابن تيمية هي المحرّك الأساسي لجريان الدماء
مَن يتصفح كتاب «الحياة الفكرية للأقليات المذهبية في لبنان في العهد المملوكي» للباحث والمختص بعلم الآثار في الجامعة اللبنانية الدكتور مصطفى سبيتي، والذي يعود تاريخ صدوره إلى ما قبل الأزمة المذهبية في العالم العربي عمومًا والسوري خصوصًا، يؤكّد أنّ لماضي الشعوب عِبرةً لا بدّ من الاستفادة منها، نظرًا إلى تجدّد الأحداث وتشابهها في مراحل مختلفة من التاريخ، وأنّ تناسل الأحقاد المنبثقة من فتاوى لم تصدر إلا عن خلفيات مذهبية وطائفية تعصّبية، تجعل الموت وسيلة مشرّعة في سبيل إحقاق الحقّ بحسب وجهة نظر القاتل والمقتول، الجلاد والضحيّة، الظّالم والمظلوم.
علي نسر / جريدة السفير
الهجمة المملوكية على تلك الأقليات في ذاك الزمن، مدفوعة بتهمٍ جاهزة، ليست بعيدة من شكل الهجمات التي تتعرض لها المنطقة اليوم، وكذلك التهم. فالحملات عسكرية، لكنّها مغلّفة بسياج ديني مذهبي أورث الأجيالَ شعاراتِه ولم يتجرأ أكابر الأطراف المتصارعة، على مر العصور، من تجاوزه، لأنّ محوه من سجل التاريخ قد يحدّ من نفوذ المنتفعين منه وخصوصًا رجال الدين.
وهذا ما يؤكده الباحث في مقدمة كتابه عندما يقول: «ولعل التجارب المعاصرة قد أثبتت أن ماضي الشعوب ليس بيتًا من قصيدة يمكن حذفه، أو الاستغناء عنه، أو تبديله، إنه نهر من الدم والذكريات والأحداث يصبّ في عروقنا شئنا ذلك أم أبينا، كرهنا أم رضينا».
ما زالت نيران الخلافات متأججة، والنعرات متعششة في النفوس، وتلك الحقبة التي يسلط الكتاب الضوء على أحداثها الجسام، تؤكّد فكرة اجترار التاريخ نفسه من دون تعديل أو تغيير، طالما أنّ الحقل المعرفي الذي تنهل منه أفكارنا لمّا يزل هو نفسه منذ بدايات الخلاف، وإن يحاول بعضُنا تغليف التهم بشريط وطني أو قومي كمحاولة لتلميع صورته، وهذا يشهده التاريخ دائماً. فالحملة المملوكية على الأقليات في كسروان من شيعة وموارنة ودروز، كان شعارها القضاء على المتعاونين مع غزاة المنطقة من تتار وفرنجة، لكن النتائج غالبًا ما تكون وخيمة عندما تستغل هذه الشعارات لتصفية حسابات ذات بعد ديني ومذهبي، تدفع أثمانه الحضارات بشرًا وشجرًا وأحجارًا.
«وقد توّج المماليك سياساتهم القميعة، بحملات عسكرية على الطوائف الأخرى في المناطق الجبلية اللبنانية، كالجرد وكسروان، بحجّة مساعدة الفرنجة والتتار ضدهم، ما أدّى إلى قتل الكثير من الشيعة والموارنة والنصيرية بعدما استبيحت مدنهم. وكان من نتيجة هذه الحملات تدمير البلاد وقطع الأشجار وهدم المنازل وقتل العديد من السكان». وكانت فتوى الشيخ ابن تيمية هي المحرّك الأساس في جريان الدماء والقتل العشوائي، لا بل كان لوجوده على رأس الحملة كقائد من الناحية الشرعية الدور الفعّال في ما حصل.
وسواء كانت تلك الأقليات قد تعاونت مع الغزاة أم لم تتعاون، فإنّ فتاوى ابن تيمية ودعوته المحرضة للحملة، كانت كفيلة في تأسيس مفاهيم قومية ووطنية يمكن الاتكاء عليها على مر الأزمان، لو بقيت محصورة في تهمة العمالة للخارج، لكن سرعان ما تلطّخت حروف التهمة بدماء مذهبية أسهمت في تأجيج الصراع أكثر، وساعدت في تغذية الخلاف الدموي أيضًا، إذ انحرفت أسباب الحملة عن طريقها القومي لتدخل في أتون الأسباب المذهبية الضيقة، وخرج المفتي آنذاك بفتوى تكفّرُ هذه الأقلياتِ لأنها لا تتفق مع مفاهيمه الدينية والمذهبية، ورأى أنّ قتالهم كمنافقين يشكّلون خطرًا على كيان الدين، «واجبٌ جوهري أكثر من قتال الكفار والمشركين»، وقد روى القلقشندي: «كان شيخنا ابن تيمية يرى أن قتال الدروز والنصيرية أولى من قتال الأرمن لأنهم عدو في دار الإسلام وشر بقائهم أضرّ».
وإذا ما قارنّا تلك الشعارات، بشعارات الحملات والحملات المضادة اليوم، وتلك التهم بالتهم التي تتدفق يوميًا، لنجدُنا نؤكّد أن التاريخ لم يتغيّر كثيرًا، فما نشاهده من مشاهد مروّعة بحق الأبرياء على أيادي الغزاة الذين استجلبتهم تصرفات الطغاة من قبلُ، كما يرى ابن خلدون، لخيرُ دليل على ما توصّلنا اليه، فالأقليات اليوم هي الأكثر عرضة للفناء أمام عيون العالم، والعدو الأساس محيَّدٌ بحجّة أنّ قتال المنافقين أولى.
وهذا ما يجب أن يتنبّه إليه «حزب الله» كطرف أساس في المعركة، فهو استطاع أن يغلب ابن تيمية حين حصر شعارات مشاركته في الحرب ضمن المحافظة على المقاومة وإسقاط مشاريع إسرائيل وأميركا التوسعية، فلم يعلن حربه باسم الدين أو المذهب ولو في العلن على الأقل، إنما وضع إستراتيجيات قومية ووطنية فوق كل شيء. ولكن يبقى للأطراف الأخرى مذهبيًّا حق التوجس والخوف والسؤال ماذا لو انتصر «حزب الله»؟ لذا، فلكي يكمل هذا الحزب حربه ضد هذه الأفكار، فعليه أن يعيد للجانب الوطني دوره في الصراع، وأن يعمل على إحياء الحركات الوطنية التي شاركته او سبقته في العمل المقاوم، خصوصًا أنه من المتهمين بإلغاء أدوار هؤلاء. فالانقسام الوطني في بدايات الحرب الأهلية هو الذي صعّب تطويق المقاومة الفلسطينية، لأنه أخرجها من الباب الطائفي الذي أُريد لها أن تدخل فيه.
هذا بالاضافة إلى ما تحتاجه الأزمة من وقفة جريئة تشبه وقفة الناصر محمد بن قلاوون الذي منع ابن تيمية عن الكلام في العقائد آنذاك. فالقضية اليوم تحتاج رجالات أقوياء من الطرفين للعمل على نسف التاريخ والتشكيك فيه، خصوصًا تاريخ الأمة بعد وفاة الرسول وما حصل من حروب باسم الدين، علّهم يسهمون في تجفيف الدماء أمام الأجيال القادمة، خصوصًا أنّ مصادر كتابة تلك المرحــلة وما فيها من سير الرسول مشكوك في مصداقيتها.