24-11-2024 02:47 AM بتوقيت القدس المحتلة

تموز العائد ما زال يروينا

تموز العائد ما زال يروينا

«إنهم يرونها لك» جملة تحمل الكثير من هذا التبصّر، ولا سيّما بعدما أثبتت الوقائع والأحداث أن حروب إسرائيل على الذاكرة الفلسطينيّة أو العربيّة بعامّة لا تقلّ شأناً عن حروبها العسكرية.

اثنان وأربعون عاماً تفصل بين لحظة اغتيال غسان كنفاني في تموز العام 1972 على يد الموساد الإسرائيلي وتموز العام 2015.

رفيف رضا صيداوي/ جريدة السفير

43تموز العائد ما زال يروينا  اثنان وأربعون عاماً تفصل بين لحظة اغتيال غسان كنفاني في تموز العام 1972 على يد الموساد الإسرائيلي وتموز العام 2015.  رفيف رضا صيداوي/ جريدة السفير  43 عاماً مرّت على اغتيال غسان كنفاني، و67 عاماً مرّت على محاولات اغتيال القضية الفلسطينيّة التي كان هو قد كرّس لها فكره وأدبه وروحه ودمه؛ هو القائل «إن الفكرة النبيلة لا تحتاج غالباً إلى الفهم، بل تحتاج إلى الإحساس». فكان أن استمرّ ذبح فلسطين آلاف المرّات بسكاكين أبنائها وأشقّائها وكادت تتبخّر الفكرة النبيلة، وكاد يتبخّر حتّى الإحساس بها. 43 عاماً مرّت على اغتياله، و67 عاماً مرّت على محاولات اغتيال القضية. لكن في كلّ تمّوز من تلك التمّوزات ينبعث غسان كنفاني ليروي بتراثه الفكريّ والأدبيّ والثوريّ يباس القضيّة التي يتلاعب بها إسرائيليّو الخارج والداخل. ولأن غسّان كنفاني الشاعر والأديب كان قد أدرك منذ وقت مبكّر أن ليس بالشعارات وحدها تحيا القضيّة، فإنه هو مَن قال إنّنا «إذا كنّا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغيّر المدافعين لا أن نغيّر القضية». في روايته «العائد إلى حيفا»(1969) يصف غسان كنفاني عودة سعيد وزوجته صفيّة إلى حيفا بعد مرور عشرين سنة على معركة حيفا في العام 1948، كالآتي: «ظهر يوم الثلاثين من حزيران 1967، كانت سيارة «الفيات» الرمادية التي تحمل رقماً أردنياً أبيض تشقّ طريقها نحو الشمال، عبر المرج الذي كان اسمه مرج بن عامر قبل عشرين سنة، وتتسلّق الطريق الساحلي نحو مدخل حيفا الجنوبي. وحين عبر الشارع ودخل إلى الطريق الرئيسي انهار الجدار كلّه، وضاعت الطريق وراء ستار من الدموع، ووجد نفسه يقول لزوجته صفيّة: «هذه هي حيفا يا صفية»! والتفت إلى زوجته، إلّا أنها لم تكن تسمع، كانت منصرفة إلى التحديق نحو الطريق: تارة إلى اليمين حيث كانت المزارع تمتدّ على مدى البصر وتارة إلى اليسار حيث كان البحر، الذي ظلّ بعيداً أكثر من عشرين سنة، يهدر على القرب. وقالت فجأة: «لم أكن أتصوّر أبداً أنّني سأراها مرّة أخرى» وقال:«أنت لا ترينها، إنهم يرونها لك». بمثل هذا الأدب الراقي البليغ، كان غسان كنفاني، وفي خضمّ موجة الأدب الواقعي الشعاراتي الاحتفائي إلى حدود الكرنفالية أحياناً، يُبصر ويَكشف ويَفضح. كان إيديولوجياً من دون أن يسيء إلى الأدب. وكان أديباً من دون أن يسفِّه الإيديولوجيا. «إنهم يرونها لك» جملة تحمل الكثير من هذا التبصّر، ولا سيّما بعدما أثبتت الوقائع والأحداث أن حروب إسرائيل على الذاكرة الفلسطينيّة أو العربيّة بعامّة لا تقلّ شأناً عن حروبها العسكرية. وأن توجّهها المُبرمَج والمخطَّط لمصادرة الذاكرة العربية ما هو إلّا مسار نحو إزالة هذه الذاكرة وتاريخها، لا بل نحو استئصالها ومحوها. لهذا السبب قُتل غسّان كنفاني. قتلوا صاحب البصر والبصيرة. وسيستمرون في قتل كلّ ذي بصر وبصيرة. غير أن غسان كنفاني وأمثاله من المُبصرين العروبيّين حفروا أمكنتهم في صميم ذاكرتنا العربيّة وفي صميم الوجدان العربي. حتّى أنه من دونهم تفقد العروبة طعمها، وتفقد فلسطين رائحتها. فهُم معنا في معركة الوجود. هُم معنا في الحياة والممات، وفي اليأس والأمل. هم معنا في الواقع وحتّى في الخيال. فهذي «رُقيّة» بطلة رواية «الطنطوريّة» لرضوى عاشور تقرأ لغسان كنفاني قصّة «أرض البرتقال الحزين» وتحفظ سطراً فيها يقول: «وعندما وصلنا صيدا، في العصر، صرنا لاجئين» وبقيت العبارة تتردّد في سمعها لأيام وليال كأنها بيت من الشعر. وتلك جملة «إنهم يرونها لك» الروائيّة تخرج من التخييل وتوجِّه قراءَتنا الواقعية لعمليات تزييف الذاكرة، تارةً عبر تزييف الحقائق، وتارةً عبر إنتاج الإسلام المتطرّف ودواعشه، وتارةً ثالثة عبر القذف بنا في أتون حروب المصالح وأهواء الدول الكبرى. هذا ما يمثّله غسان كنفاني في الذاكرة العربيّة والفلسطينيّة. هذا هو تمّوز الفلسطيني العربي الذي غادر الأسطورة ليقبع معنا على أرض الواقع العربي. يرافقنا في يوميّاتنا وبؤسنا الراهن ويرسم لنا ومعنا طريق المستقبل. عاماً مرّت على اغتيال غسان كنفاني، و67 عاماً مرّت على محاولات اغتيال القضية الفلسطينيّة التي كان هو قد كرّس لها فكره وأدبه وروحه ودمه؛ هو القائل «إن الفكرة النبيلة لا تحتاج غالباً إلى الفهم، بل تحتاج إلى الإحساس». فكان أن استمرّ ذبح فلسطين آلاف المرّات بسكاكين أبنائها وأشقّائها وكادت تتبخّر الفكرة النبيلة، وكاد يتبخّر حتّى الإحساس بها.

43 عاماً مرّت على اغتياله، و67 عاماً مرّت على محاولات اغتيال القضية. لكن في كلّ تمّوز من تلك التمّوزات ينبعث غسان كنفاني ليروي بتراثه الفكريّ والأدبيّ والثوريّ يباس القضيّة التي يتلاعب بها إسرائيليّو الخارج والداخل. ولأن غسّان كنفاني الشاعر والأديب كان قد أدرك منذ وقت مبكّر أن ليس بالشعارات وحدها تحيا القضيّة، فإنه هو مَن قال إنّنا «إذا كنّا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغيّر المدافعين لا أن نغيّر القضية».

في روايته «العائد إلى حيفا»(1969) يصف غسان كنفاني عودة سعيد وزوجته صفيّة إلى حيفا بعد مرور عشرين سنة على معركة حيفا في العام 1948، كالآتي: «ظهر يوم الثلاثين من حزيران 1967، كانت سيارة «الفيات» الرمادية التي تحمل رقماً أردنياً أبيض تشقّ طريقها نحو الشمال، عبر المرج الذي كان اسمه مرج بن عامر قبل عشرين سنة، وتتسلّق الطريق الساحلي نحو مدخل حيفا الجنوبي. وحين عبر الشارع ودخل إلى الطريق الرئيسي انهار الجدار كلّه، وضاعت الطريق وراء ستار من الدموع، ووجد نفسه يقول لزوجته صفيّة:

«هذه هي حيفا يا صفية»!
والتفت إلى زوجته، إلّا أنها لم تكن تسمع، كانت منصرفة إلى التحديق نحو الطريق: تارة إلى اليمين حيث كانت المزارع تمتدّ على مدى البصر وتارة إلى اليسار حيث كان البحر، الذي ظلّ بعيداً أكثر من عشرين سنة، يهدر على القرب. وقالت فجأة:

«لم أكن أتصوّر أبداً أنّني سأراها مرّة أخرى»
وقال:«أنت لا ترينها، إنهم يرونها لك».

بمثل هذا الأدب الراقي البليغ، كان غسان كنفاني، وفي خضمّ موجة الأدب الواقعي الشعاراتي الاحتفائي إلى حدود الكرنفالية أحياناً، يُبصر ويَكشف ويَفضح. كان إيديولوجياً من دون أن يسيء إلى الأدب. وكان أديباً من دون أن يسفِّه الإيديولوجيا.

«إنهم يرونها لك» جملة تحمل الكثير من هذا التبصّر، ولا سيّما بعدما أثبتت الوقائع والأحداث أن حروب إسرائيل على الذاكرة الفلسطينيّة أو العربيّة بعامّة لا تقلّ شأناً عن حروبها العسكرية. وأن توجّهها المُبرمَج والمخطَّط لمصادرة الذاكرة العربية ما هو إلّا مسار نحو إزالة هذه الذاكرة وتاريخها، لا بل نحو استئصالها ومحوها.

لهذا السبب قُتل غسّان كنفاني. قتلوا صاحب البصر والبصيرة. وسيستمرون في قتل كلّ ذي بصر وبصيرة. غير أن غسان كنفاني وأمثاله من المُبصرين العروبيّين حفروا أمكنتهم في صميم ذاكرتنا العربيّة وفي صميم الوجدان العربي. حتّى أنه من دونهم تفقد العروبة طعمها، وتفقد فلسطين رائحتها. فهُم معنا في معركة الوجود. هُم معنا في الحياة والممات، وفي اليأس والأمل. هم معنا في الواقع وحتّى في الخيال. فهذي «رُقيّة» بطلة رواية «الطنطوريّة» لرضوى عاشور تقرأ لغسان كنفاني قصّة «أرض البرتقال الحزين» وتحفظ سطراً فيها يقول: «وعندما وصلنا صيدا، في العصر، صرنا لاجئين» وبقيت العبارة تتردّد في سمعها لأيام وليال كأنها بيت من الشعر. وتلك جملة «إنهم يرونها لك» الروائيّة تخرج من التخييل وتوجِّه قراءَتنا الواقعية لعمليات تزييف الذاكرة، تارةً عبر تزييف الحقائق، وتارةً عبر إنتاج الإسلام المتطرّف ودواعشه، وتارةً ثالثة عبر القذف بنا في أتون حروب المصالح وأهواء الدول الكبرى.

هذا ما يمثّله غسان كنفاني في الذاكرة العربيّة والفلسطينيّة. هذا هو تمّوز الفلسطيني العربي الذي غادر الأسطورة ليقبع معنا على أرض الواقع العربي. يرافقنا في يوميّاتنا وبؤسنا الراهن ويرسم لنا ومعنا طريق المستقبل.