رحل سعود الفيصل، أمس، وبقي الهيكل! رحل مع أفول نظام عربي شارك في بنائه وغاب عنه لحظة التربع على العرش.
رحل سعود الفيصل، أمس، وبقي الهيكل! رحل مع أفول نظام عربي شارك في بنائه وغاب عنه لحظة التربع على العرش. الرحيل هنا يعني انطلاق المحاكمة السياسية، والتاريخية، نظراً إلى النفوذ والدور الإقليمي الكبير. المحاكمة واجبة، لأنّ الهيكل لا يزال واقفاً على أعمدة سلطوية... مملكته
المحاكمة (السياسية) الخاصة بسعود الفيصل، التي بدأت في شهر نيسان الماضي حين جرى استبداله على رأس وزارة الخارجية بموظف من خارج الأسرة الحاكمة (عادل الجبير) يعمل سفيراً لها لدى واشنطن، انتقلت، أمس، إلى فصل جديد حين الإعلان عن وفاته رسمياً.
ويطوي رحيل ابن الملك الفيصل (صاحب الإرث العروبي المفبرك)، صفحة نظام سياسي عربي نجح حكّام الرياض في التربع على عرشه، بدأ تشكّله إبان «نكسة الـ 67» وقد تكون حقبة أفوله انطلقت بغزو العراق عام 2003 وما تبعها من أزمات ــ حالية ــ عصفت بدول المشرق العربي وباتت تهدد كياناتها.
ولربما، فإنّ خير دليل على ذاك التربع، نجاح الفيصل في آخر أعماله الدبلوماسية، حين سعى، نهاية العام الماضي، إلى تشكيل تحالف دولي يزعم محاربة تنظيم «داعش» بين سوريا والعراق، مطوعاً مواقف عربية ومراكز قرار (الجامعة العربية مثلاً) لتحقيق أهداف وصل مداها حد الدعوة، صراحة، إلى ضرورة مشاركة قوات برية في هذه «المعركة». بمعنى آخر: استدعاء القوات الأميركية مجدداً إلى العراق تحديداً بعدما غادرته عام 2011.
ولعلّ رمزية رحيل الفيصل تكمن في أنها أعلنت بينما كان حلفاؤه من الدول الغربية في سباق مع الوقت في محاولات حثيثة منهم للتوصل إلى «اتفاق نووي» مع إيران، التي كان الفيصل يصنفها خصماً أول (عدواً ربما) ويوجّه بوصلة دبلوماسيته في إطار رؤيته لصراع معها على النفوذ في الشرق الأوسط.
حياة دبلوماسية غنية بالأحداث، وحتى الإنجازات، ساهمت في بناء هيكلها قدرات دولته المتنامية خلال العقود الماضية، فضلاً عن امتدادها لنحو أربعة عقود. ومن كان يُحسن الظهور بلبوس غربي أنيق وحديث في عواصم القرار العالمية حيناً، وبثياب تقليدية أحياناً أخرى، لا يُسجل له ــ ولا لدولته ــ طول بقائه في منصبه، بل هي فترة زمنية مهمة طالت إلى درجة أنها قد تعيد التذكير بشخصيات وبنمط من العمل الدبلوماسي الذي ولّى وعرفته الدول الأوروبية الحديثة قبل الحربين العالميتين.
وبدأت سيرة سعود الفيصل على رأس وزارة الخارجية حين جرى تعيينه من قبل الملك خالد عام 1975، في حقبة تاريخية كان لا يزال العالم العربي يعاني بشكل أو بآخر خلالها من غياب «القاهرة ــ عبد الناصر» ومشروعها، وكان النظام السياسي العربي يتشكّل في خضم صراعات غير معلنة بين «دول وطنية» مركزية، بينما كانت السعودية تعرف فترة طفرة مالية ساهمت في توجيه التحولات الداخلية فيها.
وستترافق «ولاية» الفيصل الدبلوماسية مع تواريخ مهمة، أبرزها بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط، حدوث الثورة في «إيران الشاه» وتدخل الاتحاد السوفياتي في أفغانستان (1979)، وهي مرحلة شرق أوسطية مفصلية ستعتمد السعودية خلالها لمواجهة التداعيات على تكريس مشاريع «إسلامية» متطرفة وعلى بناء الأداة الشيطانية الكبرى: ما عرف، اصطلاحاً، بالجهاديين.
أيضاً، ستعرف «ولايته» نشوب الحرب العراقية ــ الإيرانية بتحريض سعودي وأميركي، تنتهي بتهميش وعزل بغداد في العالم العربي، وبإحلال الحضور العسكري القوي للقوى الغربية في منطقة الخليج.
واليوم، يرحل الفيصل في أعقد مرحلة تمر بها المنطقة بصفة عامة، ودول المشرق العربي بصفة خاصة، من شأنها إعادة تشكل الدول وفقاً لحدود جديدة، بينما تشن السعودية حرباً شرسة على جارتها الجنوبية، اليمن.
وأيضاً، هي مرحلة باتت تفقد في خلالها الرياض هيمنتها السياسية مع عودة طرف كتركيا إلى الساحة الإقليمية وسط تنامي دور جيرانها: قطر ودولة الإمارات. ومن بين مسببات هذا المشهد المتمثل بارتباك سعودي واضح إقليمياً هو إعادة تشكيل الولايات المتحدة لسياساتها في هذه «الرقعة الجغرافية». ومن المعروف أنّ الفيصل كان على خلافات واضحة مع واشنطن إزاء الواقع الجديد الذي بدأ يتشكل في بدايات العقد الماضي، ما دفع به إلى وصف العلاقات الثنائية خلال لحظة توتر عام 2004 بأنها «زواج إسلامي» تستطيع فيه المملكة الاحتفاظ بعدة زوجات ما دامت تستطيع أن تعدل بينهن.
أعوام دبلوماسية ستعرف، في الشق الداخلي، عدم تحوّل الخارجية السعودية إلى العمل المؤسساتي، والدلالات على ذلك كثيرة: مضامين وثائق «ويكيليكس» الأخيرة، أو حتى قول دبلوماسيين في الرياض إن «السياسة الخارجية السعودية مثل جهاز الضوء الكاشف، قادرة على التركيز الشديد على المجال الذي يهتم به الملك والأمير سعود أكثر من غيره، لكنها تعجز عن المتابعة عندما يتحول الاهتمام إلى مجال آخر».
اختصاراً، الخراب والصراعات التي تعرفها دول المنطقة في لحظة رحيل سعود الفيصل، ابن مدينة الطائف عام 1940 والذي عرف نفوذه مداه الأقصى زمن الملك عبدالله، تفتح الباب واسعاً أمام انطلاق المحاكمة السياسية، نظراً إلى وزن بلاده السياسي ومدى نفوذه الشخصي.
وفي أول ردود الأفعال على وفاة الفيصل، الحاصل على إجازة في الاقتصاد من جامعة «برينستون» الأميركية عام 1964، نعى الأمين العام لجامعة الدول العربية، نبيل العربي، الفيصل، وأعرب عن «حزنه العميق لفقدان الدبلوماسية العربية والدولية فارساً نبيلاً وشجاعاً، طالما دافع عن قضايا أمته بكل شجاعة وبسالة، وقاد دبلوماسية المملكة بكل كفاءة واقتدار على مدى أربعة عقود». فيما أعربت السفارة الألمانية في الرياض عن تعازيها، ووصفت وزير الخارجية السابق بـ»رجل الدولة الذي يحظى بالتقدير».
www.al-akhbar.com