حينما خرج من المفاوضات الماراثونية حول مستقبل بلاده، بدا الزعيم اليوناني ألكسيس تسيبراس رجلا قادماً من عالم آخر. ظهر مثل بطل تراجيديا إغريقية عوقب بالإرسال إلى عالم الكوابيس.
وسيم ابراهيم
حينما خرج من المفاوضات الماراثونية حول مستقبل بلاده، بدا الزعيم اليوناني ألكسيس تسيبراس رجلا قادماً من عالم آخر. ظهر مثل بطل تراجيديا إغريقية عوقب بالإرسال إلى عالم الكوابيس. مع هكذا عقاب، بكل معنى الكلمة، يمكن فهم الخواتيم. من هناك لا يمكن أن يُجلب شيء يمت بصلة للتفاؤل. لذلك كانت الصفقة كابوساً جديداً له شخصياً ولحزبه وكل داعميه، لكن لشعبه قبل أي شيء آخر.
مقابل هذا المناخ المأتمي، كانت هيبة ألمانيا ترتفع إلى نوع من الألوهية في حكمها لتكتل العملة الموحدة. كان ما حدث درساً قاسياً للغاية، لجميع من يفكر بالتمرّد على قوانين البيت وربّته.
مفاوضات قمة زعماء اليورو، حول مصير اليونان، استمرت حوالي 17 ساعة. لم ينم أحد طوال ذلك الوقت، كانت التسريبات تحذّر من إمكانية انهيار المفاوضات. أشرقت شمس الأحد والزعماء ينتقلون بين لقاءاتهم المصغّرة والجماعية. مع ساعات الصباح الأولى، هرع بعضهم للحصول على السبق، عبر بث «البشائر»، عبر حساباتهم على «تويتر»، بإتمام الاتفاق.
من سمع الأخبار عن الخطوط العامة للصفقة، ما كان ليصدق أن الزعيم اليوناني ليس سيوافق بل سيتجرأ على دعمها. لكن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل جعلته يرى نجوم النهار، التي سيعيشها مع بلاده، في حال اختار العناد. وصف بعض المسؤولين الأوروبيين بدقة أحد فصول ما حدث، موضحين بأن الرجل تعرض «لإيهام بالغرق الذهني».
ما قيل إنها محاولة فرنسية لموازنة الكفّة، وساطةً وضغوطاً، بدت مجرد دعاية خلَّبيّة، خصوصاً بعدما اتضح أن سلة «الأرباح» اليونانية فارغة تقريباً. هكذا كان الدور الذي تباهى به الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أشبه بدور وساطة كاريكاتورية، رغم حديثه عن مشاركته في صناعة «مناسبة تاريخية». نظراً للحصيلة المخيبة يونانياً، أمكن تخيل هولاند وهو يجلس مقابل ميركل، إلى جانب تسيبراس مذكّرا إياه: أحسن لك أن تقبل وإلا ستُخرجك من اليورو.
في ساعات الرعب هذه، مع رسم سيناريوهات الخروج من اليورو والانهيار الاقتصادي، لم يكن هناك مجال للبطولات الشخصية. اختار تسيبراس أن يكون واقعياً للغاية. خرج صباحاً محاولاً أن يظهر متماسكاً أمام الكاميرات إلى أقصى حد. صحيح أنه ظهر بكامل قواه العقلية والجسدية، لكن كلامه لم يترك مجالا للشك في أن من يتحدث هو رجل تم تحطيمه تماماً. مقابل التهديدات الصريحة بالإعدام، عبر الخروج من منطقة اليورو، اختار الموافقة على صفقة تحكم على اليونان بسجن التقشف، مع أشغاله الشاقة، بشكل شبه مؤبّد.
الرابح الأكبر في هذه الموقعة كانت ميركل. إنها الآن سيدة النواة الصلبة للاتحاد الأوروبي، المتوّجة بلا أي منازع. من يفكّر في غير ذلك ما عليه إلا أن يجرّب. مقابل الموافقة على خطة إنقاذ مالية ثالثة لليونان، حجمها نحو 86 مليار يورو، فرضت ميركل كل شروطها. جعلت تسيبراس يتوسّل أي شيء ليقدمه كمكسب، لكنه لم يحصل على جائزة ترضية يمكن الاعتداد بها.
لإنجاز خطة الإنقاذ المالي، وصولاً إلى بدء صرف قروضها، على اليونان أن تفعل كل شيء. حتى الأربعاء على برلمانها أن يوافق على أربعة تشريعات على وجه السرعة: رفع الضرائب، اقتطاعات من معاشات التقاعد، تحرير الاقتصاد أكثر وما يناسب ذلك من «إصلاحات» سوق العمل، إضافة إلى تبنّي خطة خصخصة تبدأ ببيع شركة الكهرباء الوطنية. الصفقة تُلزم اليونان ببيع ممتلكات عامة، بما يوفر 50 مليار يورو، لتوضع في صندوق يشكل «ضمانة» لقروض الإنقاذ الجديدة. قاوم تسيبراس بداية، محتجاً بأنه «ليس لدي تفويض لبيع نصف البلد»، كما قالت مصادر أوروبية للصحافيين في بروكسل. لكن ميركل لم تكترث. قالت إن على أثينا أن تدفع ثمن ليس فقط الإنقاذ ولكن أيضا انهيار الثقة: «يجب إعادة بناء الثقة، وعلى السلطات اليونانية تحمل المسؤولية».
بعض العارفين بدواخل المفاوضات، ممن بات يمكنهم الحديث بحرية، يقول إنها صفقة إهانة تنفّذ انقلابا بمعدات مالية ثقيلة. هذه الكلمات رددها يانيس فاروفاكيس، وزير مالية اليونان المستقيل منذ أيام. وصف الإستراتيجية التي اتبعتها برلين وباقي الجوقة بأنها «سياسة إذلال»، معتبرا أن الاتفاق ليس أقل من معاهدة استسلام. متحدثاً عن الوضع الذي يواجهه تسيبراس، قال فاروفاكيس إن المؤسسات المُقرضة «على يقين بأنهم سيجعلونه يأكل كل كلمة انتقاد لهم تلفّظ بها على مدار السنوات الماضية». مقارنا ما يحدث مع آخر انقلاب عاشته اليونان سنة 1967، قال «حينها تم إسقاط الديموقراطية بالدبابات، حسنا، هذه المرة (يجري الانقلاب) عبر البنوك».
الصفقة نزلت مثل الزلزال في البيت السياسي اليوناني، لذا لا يمكن بعد حصر الأضرار. تسيبراس في موقع محرج للغاية. عاد من بروكسل متبنياً حزمة تقشف وتنازلات تفوق، بأضعاف مضاعفة، إجراءات التقشف الذي طلب من اليونانيين رفضه في الاستفتاء. حالما وصل إلى أثينا، باشر اجتماعات طارئة مع وزرائه، كما مع نواب حزبه «سيريزا» اليساري الممسك بالسلطة. هناك يواجه معارضة ستبلغ الآن أقصاها، وعليه إدارة حالة غضب وتمرّد لا يمكن توقع تبعاتها. بين الرافضين للصفقة وزراء في حكومته، ونواب بينهم رئيسة البرلمان، وجميعهم ينتمون إلى الجناح اليساري المتشدد في الحزب.
هكذا سيكون تسيبراس أمام تحدّ من نوع مختلف، لتأمين الغالبية اللازمة لتمرير قوانين التقشف. هذا ما قاده سلفاً إلى الحصول على دعم أكبر أحزاب المعارضة، تحسّبا لمعارضة متوقعة لقسم من حزبه. العديد من المتابعين للسياسة الداخلية، يرجحون أن المعارضة ستطلب ثمناً سياسياً لخدمتها، عبر طلب تشكيل حكومة جديدة لتطبيق الاتفاقات المؤلمة.
لكن ليس هذا فقط ما يجعل تسيبراس في حفرة تتعمق إلى هاوية سياسية. هناك الآن سخط مُبرر من داعمي حزبه وشعبه. لا يدور الأمر حول طلب المستحيل من الزعيم الشاب. لكن ما دام يعترف الآن أنه كان «مستحيلا»، فلماذا سلك طريق العناد، مطالبا باستفتاء على التقشف، قبل الصدام الكبير مع الدائنين وإغلاق المصارف، ما زاد تكلفة فاتورة الانقاذ؟
يدافع تسيبراس عن نفسه بأنهم كانوا في وضع دفاعي جداً، وكل ما حصل كان مفروضاً عليهم. حين خرج من المجلس الأوروبي بعد الاتفاق، قال، بملامح محبطة، إنه أمام القرارات الصعبة «تحملنا المسؤولية من اجل تفادي الخطط الأكثر تطرفاً من قبل الدوائر المحافظة الأكثر تطرفاً في الاتحاد الأوروبي». وأضاف «منعنا الاختناق المالي وفق خطط مصممة بأدق التفاصيل، وكان تطبيقها قد بدأ».
بكلماته تلك، يشير إلى ما ردده فريقه: حينما اختارت أثينا عدم الرضوخ، بدأت برلين بتطبيق سيناريو الإخراج من اليورو، حتى لو لم تعلن ذلك. دليلهم هو دفع البنك المركزي الأوروبي لعدم زيادة تمويله لمصارف اليونان، ما جعل إغلاقها خياراً وحيداً لمنع الانهيار الكامل.
على كل حال، عنق الزعيم اليوناني لا تزال في قبضة الدائنين. المصارف لا تزال مغلقة، مع فرض حالة طوارئ تمنع حركة الرساميل خارجها. تعيش على «المصل» القادم من البنك المركزي الأوروبي، وحتى الآن لم يقرر زيادته كي يمكن إعادة فتح المصارف. قبل أي خطوة إيجابية، لفكّ هذا الحصار المحكم، على حكام اليونان المصادقة على التقشف في برلمانها وإثبات أن ما اتفق عليه سيطبّق بحذافيره.
بعد المصادقة اليونانية، ستحتاج خطة الإنقاذ إلى مصادقة ست دول أوروبية، على رأسها ألمانيا. يجب أن يحدث ذلك بحلول يوم الجمعة، وبعدها يمكن لمجموعة اليورو إعلان إطلاق عملية الإنقاذ. ستكون تلك الإشارة مجرد بداية. الكثير من القضايا يجب التفاوض حولها، ما يعني أن الاتفاق الحالي يمثّل مجرد «الحد الأدنى» من الثمن المطلوب مقابل الإنقاذ.
حين سئلت ميركل، بشيء من السخرية، أيّ شيء إذاً وضعه اليونانيون في صيغة الاتفاق، قالت إن بصمتهم واضحة تماماً: طلبهم خطة إنقاذ تفوق 80 مليار يورو.
الحكمة معروفة: من يطلب «النجدة» المالية، لا يحق له نثر الاشتراطات. أخفقت مراهنات تسيبراس على أن برلين لن تخاطر، مهما حصل، بإخراجهم من اليورو. داخل «قائمة الطعام» للمقترحات التي قدمها وزراء المالية لقمة الزعماء، ظهر للمرة الأولى التهديد المكتوب بإخراج اليونان في حال عدم الاتفاق. إنه خروج مؤقت سيقود في النهاية إلى طلاق دائم. حتى الآن لا يمكن استبعاد هكذا سيناريو تماما، مع الأخذ بالاعتبار نتائج زلزال الصفقة على الجسم السياسي اليوناني ومستقبل الزعيم الشاب.
تسيبراس قال إنه فاز بأمرين: وعد مستقبلي بشطب للدين، وعدم تسفير صندوق عوائد بيع الأملاك العامة إلى الخارج. لا يمكن الاعتداد بالأمرين. صياغة الاتفاق تقول إن تخفيف الديون، عبر تمديد آجال سداد القروض وتخفيض فوائدها، يمكن «النظر» به لاحقاً «في حال الضرورة»، وبعدما يتم التأكد من «التطبيق الناجح» للمرحلة الأولى من الصفقة. بالنسبة للمكسب المفترض الآخر، كانت برلين تريد وضع صندوق الـ»50 مليار» لعوائد بيع الأملاك اليونانية في لوكسمبورغ، لكنها قبلت أخيرا بتركه في أثينا تحت إدارة السلطات اليونانية لكن «تحت إشراف» الدائنين.
مع هكذا صفقة قاسية، ربما يمكن الحديث عن «نجاة» اليونان من الطرد خارج اليورو. لكن الحديث عن نجاة تسيبراس، ونجاة حزبه من الانقسام، لا يزال معلّقا داخل سيناريو الرعب الذي لم ينته بعد.
assafir.com
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه