بدا الرئيس الأميركي باراك أوباما مضطرباً وهو يعلن الاتفاق النووي مع إيران. مضطرباً في النص والأداء؛ كان يلحّ على التأكيد أن العقوبات والدبلوماسية حققتا الهدف المطلوب للأمن القومي الأميركي
ناهض حتر
بدا الرئيس الأميركي باراك أوباما مضطرباً وهو يعلن الاتفاق النووي مع إيران. مضطرباً في النص والأداء؛ كان يلحّ على التأكيد أن العقوبات والدبلوماسية حققتا الهدف المطلوب للأمن القومي الأميركي ــ وقصده الإسرائيلي ــ وهو منع الإيرانيين من امتلاك القنبلة النووية. وكأنهم أرادوا، أصلاً، امتلاكها، لا امتلاك القدرات القومية في المجالات السياسية والاقتصادية والدفاعية. و كأن الولايات المتحدة كانت قد فرضت العقوبات على الجمهورية الإسلامية بسبب برنامجها النووي، لا بسبب رفضها الاعتراف بإيران كدولة مستقلة وقوة إقليمية متحررة من التبعية للإمبريالية.
جادل أوباما في إمكانية تحقيق الأهداف القومية من دون شنّ الحروب، وأن إيران أذعنت سلمياً، وانتهى خطرها. باختصار، أنجز الرئيس إرثه للتاريخ؛ فمن يظن، بعد، أنه سيسمح لأي كان بالمس به؟ الرسالة الأهم، في خطاب أوباما، تمثلت في ما تنبأ به من آفاق للتوصّل إلى حلول توافقية في الملفات الساخنة الأخرى.
لم يترك المرشد الأعلى، علي خامنئي، أي التباس في موقفه؛ أعلن أن المعركة مع «الغطرسة العالمية» المتجسدة في الولايات المتحدة سوف تستمر. غير أن تفاعلات الاتفاق الإيراني ــ الأميركي، لا يمكن أن تبقى أسيرة المواقف المبدئية. لقد خُلقت، بالاتفاق، عملية سياسية أهمّ من الاتفاق نفسه، بل تتجاوزه إلى مرحلة جديدة من التفاهمات حول جملة من المسائل الاقتصادية والاستراتيجية والجيوسياسية.
اقتصادياً، سوف يختبر الأميركيون، الآن، إمكانات الشراكة مع إيران التي ستهبط عليها، عمّا قريب، ثروة سائلة ضخمة، في ظروف الأزمة المالية العالمية، ما يمنح طهران قدرة استثنائية على التدخل في الأسواق، خصوصاً أن المليارات الإيرانية، المستندة إلى بنية إنتاجية قومية، هي مضاعفة التأثير، عدة مرات، عن البترودولارات التي تملكها دول نفطية ذات اقتصادات هشة. السؤال الأميركي الأول، محل الاختبار، هو هل سيواصل الإيرانيون تعزيز علاقاتهم الاقتصادية مع روسيا والصين ودول البريكس، أم سيتحوّلون إلى الاندماج في المنظومة الأميركية؟ سيكون ذلك، بالأساس، موضع صراع داخلي في الجمهورية الاسلامية التي تطمح فئات اجتماعية وازنة فيها إلى الذهاب غرباً. بلا شك، سيشرع الإيرانيون، تواً، في مبادلات تجارية واسعة مع الولايات المتحدة، لكن التبادل التجاري شيء والتوجه الاقتصادي شيء آخر.
هنا يحضر الخيار الاستراتيجي؛ ففي السياق نفسه، هل تواصل طهران اندفاعها نحو الانضمام إلى منظمة شنغهاي الدفاعية، أم ستفضّل التأنّي والحياد والبحث عن دور خاص، يكفل استقلالها، ويُخرجها من إطار المحاور العالمية؟ الخيار المعلن للمرشد الأعلى واضح الاتجاه نحو الاصطفاف ضد المحور الأميركي. لكن كيف ستتضافر العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، داخل إيران، وفي ما بين إيران والولايات المتحدة والغرب؟ هذا ما لا يمكن التنبّؤ به حالياً.
في الحالتين، اكتسبت الجمهورية الإسلامية وضع القوة الإقليمية الحاكمة في الصراعات الجيوسياسية المحتدمة في منطقتنا؛ أعني أنه سواء أكان خيار الإيرانيين نحو الشرق أم نحو الغرب، فقد حصلوا على الاعتراف بمكانتهم المحورية في ملفات سوريا ولبنان والعراق واليمن، بل في كل ما له علاقة بالصراعات الجيوسياسية بأشكالها الحدودية والأمنية والمذهبية إلخ. الجوهري، هنا، هو الاعتراف الصريح بالدور الإيراني في محاربة الإرهاب. وللتذكير، فقد ورد ذلك الاعتراف في نص الاتفاق، من خلال استثناء الأسلحة والمعدات اللازمة لمكافحة التنظيمات الإرهابية من الحظر المفروض على إيران، في مجال استيراد المعدات العسكرية وتصديرها.
بالنسبة إلى روسيا، المعنية بتشكيل تحالف دولي ــ اقليمي، يحيّد الخلافات السياسية لمصلحة مواجهة الإرهاب، أصبح الاتفاق على الملف النووي الإيراني منطلقاً للشروع في تنفيذ مبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، القائلة بتحالف المتحاربين ضد الوحش الذي يهدد الجميع. الآن، يمكن أن تكون إيران، بقدراتها وفاعليتها وشبكة تحالفاتها، محور مكافحة الإرهاب في المنطقة، في سياق سياسي يسمح بتفاهم روسي أميركي أوسع نطاقاً، ويخفّض مستوى التنافس على الشريك الإيراني.
هكذا، إذاً، انفتحت عملية سياسية ــ معقدة وشائكة وربما طويلة ــ ولكنها فاعلة بين الأميركيين والإيرانيين، للتفاهم على ملفات هي، جميعها، ملفات عربية، ولكن العامل العربي فيها غائب، إلا في سياقات الانتحار الذاتي.
ليس ثمة مؤامرة ولا خطة تمدد إيراني، بل هناك فراغ وجنون ومصالح صغيرة في العالم العربي. وهو ما سيحكم التفاهمات الأميركية الإيرانية، في غياب الفاعلين المعنيين.
هل ستواصل السعودية ــ وقطر ــ السياسات المرتبطة بما يُسمى السنيّة السياسية أو المشروع السنّي ــ الذي يحوّل الكتلة العربية الأساسية من كتلة قومية إلى كتلة طائفية ــ هذا المشروع، كما يدل واقع الصراعات القائمة، عاجز عن استقطاب أي قوة ذات وزن سوى التنظيمات التكفيرية الإرهابية.
هل ستستمر الرياض والدوحة في دعم تلك التنظيمات في سوريا والعراق واليمن؟ هل يستمر هذا الجنون إلى المزيد والمزيد من تحطيم الكيان العربي، وتحويل المنطقة العربية إلى موضوع لتفاهمات القوى الدولية والإقليمية؟
ـ بالتناحر العراقي ــ العراقي، لا يبقى، موضوعياً، من أفق في العراق، سوى تفاهم إيراني ــ أميركي، يمكنه أن يؤدي إلى استقرار هش، ولكنه لن يؤدي إلى خلق آليات إعادة بناء الدولة الوطنية، المشروطة بالوحدة والاستقلال.
ـ مع إيران الصاعدة، سياسياً واقتصادياً، تواصل السعودية الانتحار الذاتي في عدوانها الوحشي على اليمن. في النهاية، لا تملك الرياض القدرة على اعتراض حل دولي للقضية اليمنية، أصبح متاحاً الآن.
هل ترى السعودية ــ تحديداً ــ المشهد، أم أنها تصرّ على الانتحار؟
ـ في سوريا، الملف الأكثر تعقيداً، لارتباطه بملف الصراع مع إسرائيل، سيكون هنالك احتمالان، أوّلهما تفاهم إيراني أميركي يلجم السعودية وقطر وتركيا، وثانيهما تصاعد المساعدات الاقتصادية والدفاعية الإيرانية لدمشق، بما يسمح لها بالحسم. في الاحتمالين، سوف يزداد النفوذ الإيراني في سوريا. وهناك الكثيرون، من السوريين وأنصارهم في البلدان العربية، مَن يجدون هذا الخيار وجيهاً ومفيداً من كل النواحي السياسية والاقتصادية والدفاعية.
فماذا يبقى من العالم العربي؟
السعودية المتورطة في حرب مدمرة والمهددة بالخلافة الداعشية والأزمة المالية، أم مصر، «أم الدنيا» التي يضربها الإرهابيون في عمق أمنها، وما تزال تترنح تحت أعباء مآزق ديموغرافية واقتصادية وإدارية؟
إنها المرحلة الإيرانية، تخلّف، وراءها، المرحلة السعودية السوداء المستمرة منذ أواسط السبعينيات. بدأت بتخريب مصر ثم العراق ثم سوريا، ودفع الفلسطينيون واللبنانيون، على هامش مشروع التدمير ذاك، أثماناً باهظة، هي، مع كل ما فيها من عذابات، تبدو اعتيادية مقارنة بالكوارث التي حلّت بالعراقيين والسوريين والليبيين واليمنيين.
المرحلة الإيرانية... نعم. وهي خلاصة التنامي الاستثنائي في القدرات القومية للجمهورية الاسلامية، وتلاشي مرحلة القطب الواحد وصعود روسيا والبريكس، وصمود سوريا في مواجهة تحالف عدواني شرس شمل القوى الامبريالية والرجعية العربية والعثمانية.
ليس أمام العرب، على اختلاف توجهاتهم السياسية، إلا المبادرة إلى اكتشاف صيغ التعايش معها، والإفادة منها؛ أولاً، لجهة ضرب الإرهاب، وثانياً، لجهة إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، وثالثاً، لجهة إعادة الإعمار والبناء التنموي، ورابعاً، لجهة إقامة نظام إقليمي أكثر عقلانية ودينامية.
ولكن، لتعظيم إيجابيات المرحلة الإيرانية وتخفيض سلبياتها، بالنسبة إلى العالم العربي، هناك شروط أساسية، هي الآتية:
أولاً، الوقف الفوري للعدوان، المتعدد الأشكال، على سوريا، والتفاهم مع حكومتها الشرعية لدعم جهودها في مكافحة الإرهاب وإعادة البناء.
ثانياً، سحب ما يسمى المشروع السنّي، القائم على التحريض المذهبي والتقرّب من إسرائيل على حساب إيران، لمصلحة إعادة بناء النظام العربي بالتفاهم بين ركائزه التقليدية، سوريا ومصر والسعودية. وهو ما سيخلق مظلة للتفاعل الإيجابي التعاوني مع صعود القوة الإيرانية، والإفادة منها لإعادة تعريف إسرائيل باعتبارها العدوّ المشترك، وللتوصل إلى حلول سياسية وطنية في العراق واليمن ولبنان وليبيا والبحرين.
هذا هو البديل العقلاني الوحيد للحفاظ على المصالح الجماعية للقوى العربية المتصارعة؛ هل ترى السعودية ــ تحديداً ــ المشهد، أم أنها تصرّ على الانتحار؟
www.al-akhbar.com
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه