الداعية الصحوي سلمان العودة كتب تعليقاً لافتاً فور الاعلان عن توقيع الاتفاق بما نصّه: «إيران تسير وفق رؤية واضحة مدروسة وتستوعب حتى خصومها..فأين حكوماتنا العربية؟ وأين مشروعها البديل لمواجهة التحدي؟»
في ماراثون المواقف السياسية عقب الإعلان عن الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى، كان الرئيس الأميركي باراك أوباما الأسرع في إطلاق موقف ـ رسالة طمأنة الى حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. كرّرها مراراً بأن الاتفاق بين ايران والقوى الكبرى هو «لمنع طهران من الحصول على سلاح نووي»، وربط الاتفاق بضمان «استقرار دول الخليج واسرائيل».
فؤاد ابراهيم / جريدة السفير
اختار أوباما الملك سلمان ورئيس الحكومة الاسرائيلية نتنياهو للاتصال من أجل الطمأنة حيال الاتفاق النووي. بدا لافتاً أن ما رشح من اتصال أوباما بالملك سلمان لم يكن مجرد طمأنة حول الاتفاق النووي فحسب بل شمل أيضاً مطلباً بضرورة وقف المعارك على اليمن. قد يومئ ذلك الى أمر ما غير إيجابي في الاتصال. كان أوباما يعي سلفاً إلى من يجب أن يوجّه رسالته. هناك في منطقة الشرق الأوسط مذعورون من الإتفاق، ولكن الأهم منهم هم المذعورون الخاسرون.
دول «مجلس التعاون الخليجي»، باستثناء السعودية، رحّبت بالاتفاق النووي. ثلاثة من قياداتها وصفته بـ «الاتفاق التاريخي»، وهم رئيس دولة الامارات خليفة بن زايد آل نهيان، الذي اعتبر الاتفاق فرصة لفتح صفحة جديدة في المنطقة، وسلطنة عمان ممثلة بوزير خارجيتها يوسف بن علوي الذي عدّ الاتفاق النووي بأنه يؤسس لثقافة السلام في المنطقة وليس هناك مهزوم، فيما بعث أمير الكويت صباح الأحمد برقيتين الى رئيس الجمهورية الإسلامية حسن روحاني والمرشد الأعلى السيد علي الخامنئي وهنأهما بـ «الاتفاق التاريخي»، وتمنى أن يسهم الاتفاق في تحقيق المزيد من التقدّم والرقي والازدهار للشعب الايراني وأشاد بالعلاقات التاريخية بين البلدين الصديقين.
ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة أبرق للرئيس حسن روحاني مهنّئاً بالاتفاق، معرباً عن أمله في أن يسهم هذا «الاتفاق المهم» في ترسيخ دعائم الأمن وتثبيت ركائز الاستقرار في المنطقة، فيما وصفت الخارجية القطرية الاتفاق بـ «الخطوة المهمة»، وأعربت عن أملها في أن يسهم «في السلام والاستقرار في المنطقة».
إجمالاً، حزمة المواقف السياسية التي أطلقت في الخليج كانت إيجابية، باستثناء السعودية التي حاولت أن ترسم خطاً سياسياً عاماً لشقيقاتها في «مجلس التعاون»، ولكن ليس من بينها من استطاع مقاومة التيار الذي فرض نفسه عالمياً..
من بين دول المنطقة والعالم، انفردت السعودية واسرائيل بمواقف سلبية وحادّة، وللأسباب نفسها لدى كل منهما. ثمة شعور لدى قادة الدولتين بأن الاتفاق النووي ينطوي على مقامرة بمصيرهما. لإسرائيل مبرراتها في القلق، فمصير الكيان يبقى دائماً عقدة حاضرة في كل تحدٍ تكون فيه إيران طرفاً.
بالنسبة للسعودية ثمة مبررات متّصلة بـالتالي:
ـ الرهان على حرب من أجل «قطع رأس الأفعى»، أي ايران، بحسب وثائق «ويكيليكس» نقلاً عن الملك عبد الله. وعليه، فإن فشل الرهان يعني ضياع فرصة تاريخية لطالما عملت السعودية على استغلالها على مدى أكثر من عشر سنوات، ووفّرت كل مبررات نجاحها، ولكن الاتفاق مع ايران أسقط الرهان، وعلى الرياض تحمّل تبعات فشله، على مستوى الداخل (داخل العائلة المالكة نفسها، وقاعدتها الشعبية)، وعلى المستوى الشعبي العام، وعلى مستوى علاقاتها الاقليمية، وعلى مستوى العلاقات الدولية إذ أن ثمة رهانات جديدة سوف يولّدها الاتفاق النووي، ولن تكون في نهاية المطاف لصالح السعودية. أبدى جون كيري في جلسة خاصة مع جواد ظريف استغرابه الشديد لاصرار السعودية واستبسالها لناحية إفشال الاتفاق. رسالة كيري الى ظريف: نحن نواجه ضغوطا هائلة من حلفائنا، وعليكم تفهّم ذلك، وتالياً التنازل قدر طاقتكم.
ـ الدور: نجحت السعودية على مدى ما يربو عن ثلاثة عقود في لعب دور الدولة المحورّية، أو القطب الإقليمي الأوحد، ونجحت في إزاحة الخصوم المنافسين عن المشهد في مصر بعد رحيل الزعيم عبد الناصر، كذلك في العراق وسوريا. وحتى وقت قريب، بدأت تتصرف على أساس «ناظر» أو «شرطي» الخليج يقلع شوكه بيده، عبر تدخّله العسكري المباشر في اليمن، والاستعداد للذهاب نحو خيارات راديكالية، بما في ذلك إعلان حرب منفردة على إيران إذا تطلب الأمر. بعد الإتفاق النووي، بات على السعودّية تحسّس مواقع نفوذها، لأن المرحلة المقبلة سوف تعمل كل الأطراف المشاركة في الاتفاق على توفير بيئة مستقرة للاستثمار والتعاون الاقتصادي والتنسيق الأمني لمواجهة خطر الارهاب المتمثّل حالياً في «داعش».
السعودية ليست في وارد المراجعة ولا التراجع عن خط سير رسمته في الربع الأخير من 2013، حين أحجم الرئيس الأميركي باراك أوباما عن الذهاب نحو خيار الحرب على سوريا. حينذاك، بدأت السعودية تتصرف على قاعدة «ماحك جلدك مثل ظفرك»، فراحت تبحث عن شركاء جدّد (فرنسا، الصين، روسيا..الخ)، وتخوض حروبها الخاصة سواء عبر جماعات مرتبطة بها أيديولوجياً أو سياسياً، أو خوضها مباشرة.
ما يدفع السعودية اليوم لا صلة له بالسياسة، بكل ممكناتها العملية والذهنية، ولا حتى تسوياتها المحتملة. فهذا أمر لم يعد قائماً في مطبخ القرار السعودي. الرغبة المتعاظمة بالانتقام لا يوازيها سوى الإحساس بانسداد الأفق على المصير، وأن ما يحول دون وقوع خسارة شاملة هو الدخول في لعبة الموت أو الحياة.
بالعودة الى سلسلة المواقف السعودية التي صدرت عقب الاعلان عن الاتفاق النووي، يظهر أنها تتجاوز الإتفاق، وتطاول مجمل ملف ايران في المنطقة. جاءت المواقف صافية، صادقة، لا لبس فيها، وبكلمة: إنها السعودية كما هي في الحقيقة.
في الاتفاق المبدئي في مطلع العام الجاري كان الموقف السعودي مختلفاً، ترحيبياً الى حد ما في مقابل الاسرائيلي الذي تمسّك بوصف «خطأ تاريخي». الترحيب الحذر في عهد الملك عبد الله انقلب الى تحذير من العواقب في عهد سلمان، وإن لم يغيّر شيئاً في الوجهة العامة.. وتبقى إيران الخصم والعدو رقم واحد لدى السعودية.
ما يقلق الرياض من الاتفاق هو أن الاتفاق النووي سوف يفتح أبواب المنطقة للنفوذ الإيراني، أو بتعبير «المصدر المسؤول» بأن الاتفاق سيسمح لطهران «بأن تعيث في المنطقة فساداً». وشرح ذلك بوضوح: «إن ايران زعزعت استقرار المنطقة كلها بأنشطتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن..»، وعليه فإن الاتفاق النووي سيمنح ايران فرصة للتغلغل أكثر في شؤون المنطقة.
في الخليج، رسالة إيرانية واضحة إلى سلطنة عمان، التي لمّح ظريف الى احتمال أن تكون المكان الذي سوف يتم فيه التوقيع النهائي على الاتفاق النووي، وذلك تعبيرا عن الامتنان لدورها في استضافة الحوار الأميركي ـ الايراني على مدى سنوات.
الرياض ليست معنيّة بالجانب التقني من النووي، فلربما هي على قناعة تامة بأن إيران لا تسعى للحصول على السلاح النووي، ولكن ما يعنيها هو التفاهمات السياسية الكبرى التي تعقب الاتفاق، وهذا ما عبّرت عنه بوضوح تام. حين يصف المصدر السعودي لشبكة «سي إن إن» بالأمس بأن: «إدارة أوباما ارتكبت خطأً تاريخياً» في الاتفاق النووي، وهو التوصيف الاسرائيلي نفسه كما جاء على لسان نتنياهو، فهو يشي بالمخاوف الكامنة لدى الرياض من مرحلة تعود فيها إيران لاعباً فاعلاً على الساحة الدولية إقتصادياً وسياسياً وأمنياً وعسكرياً، في وقت يشهد التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والسعودية أكبر اختبار في تاريخ العلاقة بين البلدين.
ما يزيد في قلق القيادة السعودية أن الاتفاق النووي يأتي في ظل تحوّلات سياسية في المنطقة والعالم، خصوصاً بعد قرار الولايات المتحدة نقل جزء حيوي من ثقلها الاستراتيجي نحو الشرق الأقصى، وتراجع مستوى اهتمامها بالمنطقة. رسالة واشنطن الى الحلفاء الخليجيين كانت واضحة في قمة كامب ديفيد في منتصف أيار الماضي بضمان أمنهم فحسب في حال تعرّضهم لهجمات من الخارج، ولكن هذه الضمانة لا تشمل الحماية إزاء ثورات شعبية، أو صراعا داخل النظام نفسه، كما لا تشمل لائحة التمنيّات التي تحملها بعض دول الخليج، من قبيل المشاركة في حرب ضد هذه الدولة أو تلك.
«الترضية» التي عبّر عنها سفير الرياض في لندن الأمير محمد بن نوّاف في وصفه للمفاوضات بين ايران وواشنطن بدرجة أساسية قد تحقّقت، وعلى السعودية أن تضبط إيقاعها على وقع متواليات الاتفاق، لأن التمرّد المفتعل والمسرحي أحياناً، كما حصل عقب إلغاء أوباما قرار الحرب على سوريا، قد لا يحقق أدنى أهدافه، وهو لفت الانتباه، لأن العالم يتغير بوتيرة سريعة.
في الاتفاق النووي أيضاً، كانت مواقف السعودية بالأمس متشنّجة وموتورة، وحتى حين أرادت «عقلنة» مواقفها جاءت عكس ذلك. في مساء الثلاثاء الماضي كان تصريح «المصدر المسؤول» الذي بقي مجهولاً طيلة اليوم الحافل بنوبات تشنّج بمثابة «صدقة تتبعها أذى»، فقد استحضر كلّ ماهو قيد، وعقوبة، وإجراء جزائي كشرط للترحيب، بل بدا ولسان حاله أن إلغاء الاتفاق هو الأفضل. طالب المصدر المسؤول بـ «آلية تفتيش محدّدة وصارمة ودائمة لكل المواقع، بما فيها المواقع العسكرية»،
و «آلية لإعادة فرض العقوبات على نحو سريع وفعال في حالة انتهاك إيران للاتفاق»، وأن المملكة تشارك الدول الكبرى والمجتمع الدولي «باستمرار العقوبات المفروضة على إيران بسبب دعمها للإرهاب وانتهاكها للاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بالتسليح». وعقب ذلك توجيه بأن على ايران عدم استغلال مواردها «في إثارة الاضطرابات والقلاقل في المنطقة»، ثم تحذير بأنها إن فعلت غير ذلك ستواجه «بردود فعل حازمة من دول المنطقة».
لم يرد في كلام المصدر السعودي المسؤول أي عبارة ترحيب بالاتفاق، فكل ما فيه رفض تام، ويعكس «خطاب الحرب»، وأن ما قدّمه طيلة يوم الثلاثاء كان عبارة عن مطالعة سياسية موتورة، تعكس خلفية المواقف السعودية. ردود الفعل بعد الإعلان عن الاتفاق لم تحدث أدنى تغيير في استراتيجية المواجهة التي اعتنقتها الرياض على مدى عامين.
على المستوى الشعبي، تراوحت مواقف الخليجيين بين: الإضاءة على جانب «الهزيمة» في الاتفاق عبر الإلزامات والقيود المفروضة على برنامج إيران النووي، وبين الإعجاب بنكهة الحسد وإثارة أسئلة حول أسرار نجاح ايران المحاصرة وفشل دول تملك الثروة والانفتاح الاقتصادي والعلاقات الاستراتيجية مع الغرب.. وبحسب سؤال أحدهم: كيف استطاعت دولة محاصرة من الغرب طيلة عقود أن تلوي ذراع خمس دول نووية لتتفاوض معها؟.
الداعية الصحوي سلمان العودة كتب تعليقاً لافتاً فور الاعلان عن توقيع الاتفاق بما نصّه: «إيران تسير وفق رؤية واضحة مدروسة وتستوعب حتى خصومها..فأين حكوماتنا العربية؟ وأين مشروعها البديل لمواجهة التحدي؟». ولأن «التعميم» في «مملكة الصمت» نجاة من الغرق، فإن العودة لا يقصد بـ «حكوماتنا العربية» شيئاً آخر غير السعودية أولاً، ثم يأتي بعدها عاشر.