مطلع حزيران الماضي بدأ الجيش السوري وحلفاؤه الاستعداد لمرحلة الهجوم المعاكس. بدأ بعضه، والقرار، الآن، بالتصعيد، تدريجياً، من الزبداني إلى تطهير محيط العاصمة، إلى الحدود الجنوبية مع الأردن
ناهض حتر
مطلع حزيران الماضي بدأ الجيش السوري وحلفاؤه الاستعداد لمرحلة الهجوم المعاكس. بدأ بعضه، والقرار، الآن، بالتصعيد، تدريجياً، من الزبداني إلى تطهير محيط العاصمة، إلى الحدود الجنوبية مع الأردن، من دون أن تتأثر المعارك شمالاً.
على مسار آخر، وفي 19 حزيران الماضي، استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزير الدفاع، وليّ ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان. لم يرشح الكثير عن اللقاء الذي تناول ملفات عدة: اليمن وسوريا والارهاب والسلاح والمفاعلات النووية وأسعار النفط. وقد نجم عن هذا اللقاء إطار تفاهم حول خطوط عريضة.
في الأسبوع التالي، تفاعلت الاتصالات الثنائية، وجهّزت موسكو عناصر المبادرة. استقبل بوتين وزير الخارجية السوري وليد المعلم. هذه المرة، جرى الاعلان عن فحوى اللقاء، صراحة: بوتين، أكد التزامه نحو سوريا «شعباً وقيادة»، ودعا دمشق الى حلف اقليمي ضد الارهاب، جوهره المصالحة السورية ــــ السعودية، أو، على حد تعبير المعلم، ما يشبه «حدوث معجزة».
عاد المعلم الى دمشق وفي جعبته عرض سعودي مضمون روسياً. العرض مختوم، لكنه حدا بالرئيس بشار الأسد الى اتخاذ القرار ببدء المفاوضات سريعاً... ليس مع الأدوات في «المعارضة»، بل مع المشغّل الرئيسي للحرب على بلاده. وفي 5 تموز الجاري، حدث ما لم يكن متوقعاً منذ العام 2011: لقاء تفاوضي بين شخصية سورية رفيعة المستوى، من الصف الأول في الدولة، مع محمد بن سلمان!
يبدو اننا امام تغييرات كبيرة. الاقتراح الروسي لتحالف سوري ــــ سعودي ــــ تركي ــــ أردني، لمواجهة الارهاب، لم يشمل العراق. واذا اضفنا على ذلك اللقاءات بين السعوديين والروس والسوريين، يمكن الحديث عن مسارين للحل في المنطقة: 1ــــ تفاهم أميركي ــــ ايراني، في العراق، برضا سعودي؛ 2ــــ تفاهم روسي ــــ سعودي، في سوريا، برضا ايراني.
ما نريده نحن، بالطبع، هو تفاهم عراقي ــــ سوري، وصيغة وحدوية تجمع شتات المشرق في قوة اقليمية كبرى. لكن واقع موازين القوى يتجلى في معادلة، ستنتقل من الممكن إلى الدبلوماسية والاجراءات. كيف ومتى؟ سؤال ستتشكّل الإجابة عليه، على الأرجح، في ما بقي من هذا العام.
حيّرت الشام دارسي السياسة الكبار؛ تذهب في التحدي حتى كسر العظم.. الا قليلاً، ثم تذهب نحو فرص التلاقي مع الخصوم، من دون ان تغادر معسكرها ومكانها ومكانتها ودورها. لا يدرك الكثيرون، الاستراتيجية المعقدة التي يديرها الرئيس بشار الأسد، ليس للحسم فقط، وانما للخروج من الحرب، والشامُ اقوى، واكثر قدرة على التأثير، موحدة ومستقلة إزاء الأعداء والأصدقاء معاً.
أسقطت الشام، خلال أربع سنوات ونصف كل الاقنعة التي تزيّا بها المعتدون، من القناع الليبرالي... الى القناع الطائفي، وما بينهما. أصبح واضحاً أنها، منذ اللحظة الاولى، لم تكن «ثورة»، وانما حرب عالمية لاسقاط الدولة السورية، لمصلحة الرجعية العربية ضد آخر قلاع حركة التحرر الوطني في بلادنا، ولمصلحة الولايات المتحدة ضد ايران وروسيا الصاعدتين نحو عالم متعدد الأقطاب، ولمصلحة اسرائيل ضد المقاومة، ولمصلحة الاحتلال ضد فلسطين والجولان ومزارع شبعا.
بالاضافة الى عدد محدود من الشباب المتحمس لـ «الربيع العربي» الأسود، لم يغرق في الوحل من السوريين سوى مَن كانوا يعيشون في الوحل اصلاً من المهربين والمجرمين والفاسدين والحثالات، وفي مقدمتهم «مثقفون مرتدّون» باعوا انفسهم للشيطان. والآن، بات المشهد مكشوفاً: ليس في الميدان سوى الجيش العربي السوري وحلفائه من جهة، والتنظيمات الارهابية المدانة اممياً من جهة اخرى. وهكذا بات على العالم ان يحدد اختياره: إما الدولة والنظام وقواعد الاشتباك المضبوطة، وإما الارهاب المنفلت من كل عقال. وهذا هو الخيط الاول.
بعد كل هذه الاشهر المريرة من القتال، والخسائر والمكتسبات، لا يزال جيش سوريا، ليس قوياً فحسب، بل قادراً على شن هجوم متزامن على الارهابيين على كل الجبهات؛ هجوم شهدنا بعض انجازاته في رمضان الفائت، لكن انجازاته الاساسية ستبدأ قريباً. وهذا هو الخيط الثاني.
صمدت الشام، حتى اضطرت الولايات المتحدة الى انهاء الملف النووي الايراني، في تفاهم تاريخي، سيسمح للجمهورية الاسلامية بالحصول على موارد ضخمة، ودور اقليمي اضخم، وسيزيد الايرانيون الدعم لسوريا، على الملأ، وبالايقاع الذي تحدده ضرورات الصراع، وبغطاء سياسي دولي. وهذا هو الخيط الثالث. بذلك، سقط الغزو التركي ــــ العثماني. فلم تعد طهران مضطرة للصمت على جرائم اردوغان وتهديداته، وهي تحذر من «مقبرة للجنود الاتراك» في سوريا.
وفي الاساس، لم يعد الوضع السياسي الداخلي يسمح للعثمانيين الجدد ــــ الصهاينة بالمغامرات. فمن كان يتصوّر، في العام 2011، أن يدور الزمن، ليغدو الرئيس الأسد في صدارة المشهد، يمثّل الحل لأزمة سوريا والمنطقة، بينما يسقط اردوغان في الوحل، ويغدو عنواناً لأزمة تركيا. وهذا هو الخيط الرابع.
روسيا، التي دفعت ثمن وقوفها الى جانب سوريا، باهظاً، في الحرب الاوكرانية والعقوبات، تجاوزت هذين الملفين. قضية اوكرنيا ماتت، والاقتصاد الروسي تعافى، وأدرك الغرب انه لم يعد ممكناً محاصرة موسكو، وتهميشها. تصاعدت المكانة العالمية للروس، وتعاظمت قوتهم العسكرية، وتوسعت وتعمقت تحالفاتهم الدولية في منظومتي البريكس وشانغهاي وخارجهما.
روسيا القوية والصين الغنية ادركتا ان مصالحهما الاستراتيجية تكمن في تحالفهما الوطيد. ولا توجد، في انحاء المعمورة، دولة اقرب الى هذا التحالف من سوريا، وهي، بدماء شهدائها، ستحصد نتائج التغييرات في موازين القوى العالمية، مكانةً ودوراً وسلاحاً وإعادة بناء. وهذا هو الخيط الخامس.
من موقع القوة الصاعدة، لمحت موسكو الأزمةَ العميقة التي تمر بها السعودية، سواء لجهة توتّر علاقاتها بالولايات المتحدة، او لجهة هشاشة وضعها السياسي او لجهة تورطها مع الارهاب الذي خرج عن السيطرة، وفي الحرب الفاشلة على اليمن، او لجهة التحدي (المشترك) في مواجهة نمو اقتصاد الصخر الزيتي الذي يثقل على الفريقين.
يخشى الروس من انفراط السعودية. ففي تقديرهم انه ستنشأ، عن تفككها، خلافة للتنظيمات الارهابية في معظم نجد والحجاز، من شأنها ان تقود المنطقة الى سنوات طويلة من الحرب والدمار، تصل إلى الحدود الروسية.
على هذه الخلفيات، وفي سياق إحداث توازن إقليمي مع إيران، بدأت الرياض، منذ وصل الملك سلمان وفريقه الى السلطة، بتطوير العلاقات مع روسيا. وبينما كان وزير الخارجية السعودي الراحل، سعود الفيصل، يهاجم روسيا، في القمة العربية الكسيحة، كان المعنيون في الدولتين يناقشون صفقات السلاح والسوق النفطي والملفات الثنائية. تحفظت موسكو عن قرار مجلس الامن الدولي الصادر لصالح السعودية في اليمن، ولكنها لم تستخدم الفيتو ضده. كانت تلك رسالة شديدة الوضوح لاستعداد الروس للعب دور الوسيط لاحقاً.
الرياض تتطلع الى الكرملين لاخراجها من مآزقها وإعادة تعويمها، خصوصاً أن تنظيم «داعش» اصبح، باستقلاله شبه الكامل عن صانعيه ومموليه، خطراً داهماً عليها. من جهتها، أدركت روسيا انها تحتاج الى السعودية في ثلاثة مجالات اساسية: وقف التغلغل الوهابي ــــ الارهابي في الجمهوريات الروسية الاسلامية، وضبط ايقاع سوق النفط، وحل الازمة السورية. وهذا هو الخيط السادس بين يدي الرئيس السوري!
سوريا تخرج من هذه الحرب الموجعة الى فضاء رحب: (1) مفوضةً من المجتمع الدولي والاقليمي بمحاربة الارهاب. وهو دور اساسي كبير في هذه اللحظة من تطورات المنطقة والعالم؛ (2) وحليفةً للمنتصرين الصاعدين، من الصين الى روسيا الى ايران؛ (3) ومركزاً لاستثمارات البريكس في إعادة البناء والتنمية؛ (4) ومسوّرة بجيش قوي مجرب، سيعاد تسليحه بأحدث التقنيات؛ (5) والعمود الرئيسي في تجديد النظام العربي، مع السعودية التي تعترف بانتصار الاسد، ومصر التي توصلت، الآن، إلى انها تحتاج الى تجديد ذلك النظام، وبالتالي الى سوريا، حاجتها الى البقاء.
من يبقى بعد؟
ــــ اسرائيل معزولة، وباتت بين خيارين: مقاومة في الجولان مغطاة دولياً ــــ كما كانت الحال في جنوب لبنان ــــ او الانسحاب من دون اتفاق ولا معاهدة ولا سفارة، كما حدث في لبنان أيضاً.
ــــ الاطراف الفلسطينية، المشتتة بين التنسيق الامني مع اسرائيل في فلسطين، والتنسيق الامني والعسكري مع السعودية في اليمن، كل هذه الأطراف عفا عليها الزمن، مثلما عفا على حكاية «القرار الوطني المستقل»، و»المقاومة» الاخوانية. فالقرار في بلاد الشام، هو للعاصمة المركزية، دمشق.. وهي اصبحت اليوم الاقدر، مع حزب الله، على اعادة بناء المقاومة الفلسطينية في خط سياسي وطني تحرري خارج المحاور والمصالح والارتباطات المشبوهة، وبعيداً عن الإخوان.
ــــ الاردن الذي يعالج الرئيس الاسد وضعه بابتسامة سمحاء وكلمتين؛ فهو الحريص على الدولة الاردنية وشعبها وجيشها واستقرارها؛ لا يرى، في النظام الاردني، طرفاً، بل اداة، سيتم خزنها، حالما يتم التفاهم مع واشنطن والرياض. واذا كان الاسد ينظر الى المملكة الاردنية الهاشمية، بهذه النظرة، يمكن، بالطبع، تصور كيف يقيّم جماعة 14 اذار في لبنان!
اللهم أعنْ السفير علي عبد الكريم علي على تحمّل زوّاره التائبين في الخريف وما بعده!
www.al-akhbar.com
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه