تمكّن الايرانيون من طيّ مسيرة الاثني عشر عاماً النووية الوطنية بامتياز ودون اعتماد إلا على الله وعليه، وبه سيتمكنون من الاستمرار في مقارعة الاستكبار وإلحاق الهزيمة تلو الهزيمة بالشيطان الاكبر
في رحلة الانكفاء الأميركي من غرب آسيا والوطن العربي والعالم الاسلامي الى المحيط الهادئ حيث الماردان الصيني والروسي بانتظاره من جهة، وحيث انخفاض الحاجة الى نفط العرب والشعور المتنامي بالصدمة تجاه تهافت سياساتهم في كل رواق كما في كل ميدان، كان لا بد من «ناظم» لعبور هذه المرحلة الانتقالية ولا بد من «محطة»، فلم يكن بالإمكان للأميركيين إلا التفاهم مع إيران !..
محمد صادق الحسيني/ جريدة الأخبار
هي إذاً سياسة إعادة تموضع القوات والاتصالات والتحالفات والائتلافات التي باتت تحكم إدارة واشنطن منذ أن تولى أوباما ولايته الثانية في ظل معادلة انتقال مركز ثقل العالم من الغرب الى الشرق، من الاطلسي والمتوسط الى المحيط الهادئ. إنه الطريق الذي لا يمكن عبوره بأقل الخسائر الممكنة إلا عبر المحطة الايرانية.
هذه هي دوافع إدارة أوباما التي أجبرتها وجعلتها تذعن لاتفاق نووي مع الادارة الايرانية، إذ تعتقد أنها قادرة بحد ذاتها على تحجيم أو تأجيل الطموحات الايرانية النووية الى الحد الادنى، فيما تضمن، حسب تقديرها في المقابل، إمكانية الحد من نفوذ ايران وتجميده عند سواحل البحر المتوسط وعدم امتداده الى البحر الاحمر مع تسارع التحولات وشدتها.
إن الدين في إيران ليس إطاراً إيديولوجياً نمطياً جامداً، بل هو منهج حياة كامل
لا أدري إن كان أوباما هذه المرة سيشرب كأساً واحدة من السم كما فعل على بوابات الشام في ليلة الثالث من أيلول من عام ٢٠١٣، أو أنه سيتجرع مرارة كأسين، الاولى بتفلت إيران من سياسة حصار عمرها ثلاثة عقود ونيف، وأخرى أنه سيشهد سقوط آخر «حليف» معتمد له في العالم العربي والاسلامي، أي المملكة السعودية بعد هزيمتها الصادمة المتوقعة قريباً جداً، وتكرار «سايغون» عربية على سواحل خليج عدن وباب المندب.
إنها معركة الأسد الايراني الطويلة الأمد التي تكللت بالنجاح مع الشيطان الاكبر تحت عنوان: الكفاح من أجل انتزاع الاعتراف... وهو ما حصل، أياً كانت مخرجات الاتفاق النووي خلال الشهور القادمة. أدري أن الحرب سجال، وأن ما جرى ليس آخر الكلام ولا آخر الأفعال، وأن ما تخبّئه الايام فيه الكثير الكثير من المفاجآت. لكن طهران الأمة والإمام اعتمدت ولا تزال على ما هو أبعد من مجرد رِواق حوار ومفاوضات أو أوراق عروض تهدئة وتوافقات. إنه عقلها الضارب في جذور عقيدتها وهويتها الدينية والثقافية.
إنه المؤثرالأقوى برأي المتابعين للشأن الايراني الذي استطاع أن يظهر أقوى من طموحات بعض أهل الداخل الايراني المحدودة، وأبعد ممّا هي أهداف القوى الكبرى الغربية.وهو المؤثر الذي طبع مسيرة الوصول الى الاتفاق النووي بين طهران وعواصم صنع القرار العالمي بين ثنايا التاريخ وتضاريس الجغرافيا السياسية.
به تمكّن الايرانيون من طيّ مسيرة الاثني عشر عاماً النووية الوطنية بامتياز ودون اعتماد إلا على الله وعليه، وبه سيتمكنون من الاستمرار في مقارعة الاستكبار وإلحاق الهزيمة تلو الهزيمة بالشيطان الاكبر في أي ساحة جديدة تكون القرعة القادمة فيها للنزال.
إنها منظومة روح الله الموسوي الخميني، الرجل المؤسّس لهذه التجربة، والتي يقود سفينتها اليوم ربانها الجديد الامام السيد علي خامنئي بكل دقة وحنكة وفطنة وحزم وعزم واقتدار. ومن سمعه يوم العيد وهو متّكئ على بندقية «البرنو»... يستطيع التيقّن ممّا أقول.
الراسخون في علم ما جرى ويجري وسيجري على هذه التجربة من مخاض واحتمال ولادة فجر «مشرق» جديد مواكب للمرحلة الانتقالية التي يعيشها عالم ما بعد معادلة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية يلخصون ملامح السيرة الايرانية العقلانية الحديثة بما يأتي:
١ــ إن العقل الايراني هو جزء من منظومة عيون أربع يعتمدها الحاكم الايراني، العقل واحد منها، إضافة الى العلم والعزيمة والعقيدة.
٢ــ إن فصول التحول والتغيير في إيران أربعة بالتمام والكمال، وبكل مزايا الطبيعة المعروفة عن الفصول، وإن الالوان في إيران ليست أسود وأبيض فقط، بل هي ألوان قوس قزح السباعية كلها.
٣ ــ إن السياسة في إيران ليست فن الممكن كما هو شائع ومعروف في العالم، بل هي فن تحويل غير الممكن الى ممكن.
٤ــ إن الدين في إيران ليس إطاراً إيديولوجياً نمطياً جامداً، بل هو منهج حياة كامل متكامل يلبّي كل متطلبات تنافر الاضداد وائتلافها، والذي يعرف تماماً الثابت من المتغير من الامور. ثابت لا تهزه المنعطفات أياً كان الزمان والمكان، ومتغيّر هو أقرب ما يكون الى مقولة كل يوم هو في شأن.
إنها دبلوماسية حياكة السجاد الايرانية مرة أخرى.
بعقلها البارد المتوّج بفن التهديف في الدقيقة التسعين وسياسة الذبح بالقطنة، وهذه المرة بإنجاح تجربة نووية من دون تفجير قنبلة، تثبت إيران اليوم من جديد للعالم المثل العربي الشهير: «أكبر منك بيوم أعقل منك بسنة». ما عليكم إلا أن تحسبوا الفارق بين عمر دولة ضاربة في جذورها في الارض وفرعها في السماء ودولة عمرها لا يتجاوز أربعمئة عام، وكل سماتها، من النشأة حتى الآن، تؤكد أنها معلقة بين الارض والسماء!