هل ستتغير إيران؟ إلى كيف ستتغير إيران؟ فإيران تغيرت بمعنى من المعاني ويوماها الاستراتيجيان سوف لن يتشابها، ثم إن القدرة على المبادرة والتغيير هي مؤشر شبه حصري على أن الثورة لم تهرم وما زالت قادرة على ممارسة فعل القيادة
لا يجب أن تكون مؤرخاً بالضرورة لتثير في مخيلتك مشاهد وصول وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى مطار طهران الدولي شجن العودة التاريخية للإمام الخميني إلى مطار مهراباد في طهران عام 1979 عقب انتصار الثورة في إيران. طائرتان تحطان في طهران، ولو أن أحداً ما شهد آنذاك، طفلاً، عودة الإمام المؤسس إلى طهران، فإنه شهد بالضرورة عودة ظريف هذه المرة رجلاً راشداً.
هل بلغت الثورة سن الرشد إذاً؟ أم أنها فقط طريقة الثورة الإيرانية في البقاء على قيد النضال؟ أعتقد أنه سؤال العام: ما الذي ستكون عليه إيران بعد الاتفاق النووي في فيينا؟ يستعصي هذا السؤال على الوضوح فيما لو تم بتره عن إشكالية أكبر هي طرق استجابة الدول عموماً للتحديات غير التقليدية.
سيحرز الباحث نصف الجواب عندما ينجح في ضبط آلية اتخاذ القرار داخل الدولة موضوع البحث، فبقدر ما يكون نظام الحكم مركزي الطابع ستكون الاستجابة متوقعة بقدر ما. العارفون بطبيعة الثورة الإيرانية يوافقون على أن مندرجات اتفاق فيينا يمكن وصفها من دون تعسف بغير التقليدية، لكنهم يردفون ليس تماماً. فمعلوم أن هذه الثورة اختبرت القبول بوقف إطلاق النار مع بغداد لإنهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية عام 1988 بعدما قال الإمام الخميني إنه يوقع كمن يتجرع السم، واختبرت أيضاً ملابسات الاحتلال الأميركي للعراق مع ما عنى ذلك من إدارة لعلاقة مع محتل لا يمكن أن تكون مسالمة لأن المحتل كان عدوا فوق العادة بحكم أدبيات الثورة ولا يمكن أن تذهب بعيداً في عسكرة رفضها لاحتلاله لأكثر من سبب أهمها ربما حنكة صانع قرار يعرف أن ينهك خصمه من دون المغالاة في ذلك، لئلا يؤول الصراع من متعدد الأقطاب، تعرف إيران فرملة انخراطها فيه، إلى ثنائي ستكون إيران بالضرورة قطباً فيه يسهل الإجماع الإقليمي والدولي عليه.
بمعنى آخر، ما يسمى بالمرونة الثورية أو البراغماتية ليس جديداً بالكامل بالنسبة لصانع القرار في طهران ودونها لم يكن ليقيد لثورة أن تدير بلداً يناهز تعداده السكاني الثمانين مليوناً لما يقرب من أربعين عاماً ومن الإجحاف بالتالي الحكم على الثورة بلحاظ شعاراتها حصراً من دون النظر إلى حيويتها السياسية والثقافية. إنها ثورة نجحت إلى حد بعيد في الحفاظ على طهرانيتها، بدليل إشعاعها الذي لم تنضب قدرته على الاستقطاب في الداخل والإقليم، في سياقات متباينة كانت تغري باتخاذ قرارات مصلحية آنية على حساب مبادئ عليا لطالما استقت منها شرعيتها. لا يمكنك المجادلة إذاً في حقيقة أن الثورة واجهت سابقا أوضاعاً هددت نقاءها بنظر مريديها واجتازتها بنجاح إلى حد كبير، ولكن عدم انفراد عنوان «اتفاق فيينا» باللا تقليدية لا يجب أن يعمي أنظار الباحثين، هذا شيء جديد في إيران، هائل وغير مسبوق بأكثر من مقياس.
بقدر ما يكون نظام الحكم مركزي الطابع تكون الاستجابة متوقعة بقدر ما
أعتقد أنه في محاولة الإجابة على السؤال السالف من الخطأ القفز إلى النموذج الكوبي، أو أنه من المبكر على أقل تقدير، لأن الأخير كان صفقة سياسية متكاملة أدت إلى التطبيع السياسي مع الولايات المتحدة الأميركية وما حصل في فيينا هو ذو طابع اقتصادي وقانوني بحت، للآن. يأخذ السؤال طابعاً سجالياً في ما لو تم الافتراض أن هناك بنوداً سياسية غير معلنة في اتفاق فيينا سيتم تفعيلها في مرحلة لاحقة، لكن هذه الأخيرة لا تخرج عن كونها أسئلة افتراضية أشبه ما تكون بالرياضة الفكرية التي تصلح للدراسة فقط داخل غرف الباحثين الأكاديمين الذين يرفدون مؤسسات صنع القرار بشتى الأشكال التي من الممكن أن يتخذها المستقبل في المديات الزمنية المختلفة.
في المقابل، يرجح آخرون أن تتموضع الثورة الإيرانية على الطريقة الصينية أي أنها ستحرر الاقتصاد بالكامل من هويتها الثورية (وهي لطالما فعلت ذلك نظرياً بالمناسبة) من جهة، ومن ثم ستمارس ثوريتها بالمفرق عوضاً عن ممارستها بالجملة في الإقليم الذي قلما خلى وجه تربة ميادينه القتالية من آثار حذاء «الحاج قاسم» الأسطوري من جهة أخرى. هذه هي أوليات النموذج الصيني الاستراتيجي الذي يبدو أن الطريق مشرعة أمام تحقق شقه الاقتصادي ولكن الشق السياسي دونه غموض ومن المبكر الجزم في مدى نجاعة تبنيه.
من السذاجة الذهاب إلى افتراض أن إيران ستتخلى عن حلفائها لأنهم ببساطة يقعون في صلب معادلة صلابتها وحضورها الإقليميين، والسؤال الذي طفا على السطح أخيراً حول قدرة الجمهورية «الجديدة» على تحمل صلابة حزب الله مثلاً في الالتزام بمبادئه النضالية من ساحات الجنوب اللبناني إلى تلك المستجدة في سوريا وما بعد سوريا يبدو معكوساً.
فعندما تتغير إيران سيتغير الجميع والابن المدلل للولي الفقيه أولى بالامتثال. تالياً، من الجيد أن تتناسل الأسئلة فيؤول سؤال هل ستتغير إيران؟ إلى كيف ستتغير إيران؟ فإيران تغيرت بمعنى من المعاني ويوماها الاستراتيجيان سوف لن يتشابها، ثم إن القدرة على المبادرة والتغيير هي مؤشر شبه حصري على أن الثورة لم تهرم وما زالت قادرة على ممارسة فعل القيادة على المفاهيم والسياسات على السواء. من المرجح أن تكون أروقة القرار في إيران مشغولة هذه الأيام في البحث عن ابتكار صيغة لمسار ثوري ما يجعل ايران الثورة تتغير إنما دائما تتصل مع تاريخها وتراثها الخميني. من الجيد أن الاتفاق لم حصل في زمن السيد الخامنئي لأنه لا يمكن تصور حجم الصعوبات التي كان سيواجهها غيره في تسويق الاتفاق النووي ومفاعيله المفترضة في شرايين الثورة ومفاصل النظام الأساسية.
تلك مهمة لا تبدو بديهية لأن تعقيدات اللعبة السياسية الداخلية في إيران تحتم على الأفرقاء كافة المسارعة إلى البحث عن طرق تجيير إيجابيات الاتفاق باعتباره ثمرة لسياساته، ويقع هذا الاستحقاق بين طيات رسائل المرشد الأخيرة إلى الداخل الإيراني.