قد لا يعرف كثيرون في العالم العربي والإسلامي المدهوشون من عنف آلة القتل باسم الدين اليوم، خلفية هذا القاتل الدموي وكيف جعلته الصورة المنقولة باحترافية متوحشاً ودموياً وبشكل اقل ما يوصف بأنّه استعراضي.
في كتابه الجديد «نصوص متوحشة... التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية» («مركز أوال للدراسات والتوثيق)، يناقش الناقد والكاتب البحريني علي أحمد الديري نصوصاً «متوحشة» من التراث الإسلامي فُرضت كعقيدة دينية وجهادية أوجبت كفر كل مخالف، في الفترة بين القرنين الخامس والسابع الهجري في مصر والشام والعراق. انطلق الديري من تجربته الخاصة، وقت شاهد صورته الشخصية إلى جانب بحريني آخر هو تركي البنعلي منظّر «داعش» وأحد باعثي نصوص التوحش.
مريم عبد الله/ جريدة الأخبار
كل ما فكر فيه الناقد البحريني، هو محاولة هذا الوحش سرقه وجهه، هذه المرة بأمر من السلطات وتحت سمعها وأنظارها، هو الذي يستخدم الكلمة في وجه جيش «داعش» الذي يقوده الجندي السابق في الجيش البحريني. سنعرف حينها أنّ البنعلي هو عدو المواطن المسقطة جنسيته وعدو الدولة التي لا يعترف البنعلي بسلطتها. حرض ذلك الفعل السياسي في ظاهره، والطائفي في باطنه، صاحب كتاب «خارج الطائفة» على محاولة فهم وتفكيك نصوص التوحش الإسلامية، في حقب معينة من التاريخ.
اتخذ من نصوص البنعلي مدخلاً لشرح نصوص الغزالي في كتابه «فضائح الباطنية» وابن تيمية في كتابه «العقيدة الواسطية»، وابن تومرت فقيه دولة الموحدين في «أعز ما يملك» الذي استخدم دستوراً للقضاء على دولة المرابطين من خلال وصمهم بالكفر. سنرى كيف جيِّرت الفتوى السياسية، وتم إلحاقها بالتكفير والتوحش من خلال موقف الآخر من الحاكم السياسي.
ليست «داعش» أو «النصرة» أو الجماعات الاسلامية التي ظهرت اليوم في المناطق نفسها التي تناولها كتاب الديري، صنيعة الجهل أو التطرف التكفيري كعملية مستجدة أو غريبة عن تراثنا إذا. صاغ والغزالي والسلاجقة وابن تيمية والمماليك وابن تومرت والموحدين، فصولاً وفتاوى متوحشة، أسست للتعاون بين رجل الدين ورجل السياسة. القتل والتكفير كانا دائماً لاسباب سياسة هدفها الترويج لمنهج الخليفة ولازمة لسيطرته من خلال تثبيت «الارثوذكسية السنية» التي أعطت المبررات الدينية الكافية لقتل الآخر المختلف والمخالف.
سنرى الموت الجديد مبعوثاً من نصوص أبي حامد الغزالي الذي صنف مَن ليس من أهل السنة الصحيحة بنظره، بين كافر ومرتد. قصد بذلك الإسماعيليين والفاطميين في عهده الذين اتهموا بالتحالف مع الصليبيين، مما أدى إلى هزيمة المسلمين واحتلال بيت المقدس. أُخفي جزء كبير من تاريخهم، فقط لأنّهم لم يكونوا على مذهب الخليفة العباسي والسلاجقة الحاكمين باسمه.
إذا شرعية الخليفة هي لب الصراع ومدخله في الماضي والحاضر. كفر ابو بكر البغدادي الحكام العرب ونصب نفسه خليفة للمسلمين اليوم، مثلما كفر المستظهر العباسي (488 هجرية)، أعداءه، مستعيناً بابي حامد الغزالي الذي أمطر واليه مجموعة من فتاوى «التوحش» تبيح بقتل مخالفيه ونسائهم وأطفالهم.
قد لا يعرف كثيرون في العالم العربي والإسلامي المدهوشون من عنف آلة القتل باسم الدين اليوم، خلفية هذا القاتل الدموي وكيف جعلته الصورة المنقولة باحترافية متوحشاً ودموياً وبشكل اقل ما يوصف بأنّه استعراضي.
لم يطرح الكاتب الحالة الاسلامية عبر معلومات نمطية مكررة، بل حاول بعث النصوص الميتة وعياً منه بحقيقة المشكلة، ومتغيراتها على الأرض اليوم. الكثير من الكتب التراثية والنصوص الإسلامية التي صنعتها الحالة السياسية، تكونت حولها قدسيات وهالة، أدت إلى التقليد الأعمى من دون وعي مستقل بحقيقتها التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من خراب.
إشكاليات الخطاب الدعوي والجهادي انطلقت من مدارس الوزير نظام الملك (459 هـ- 1067 م)، الذي شكل عبرها منظومة الوعي الإسلامي لما يقارب ثلاثة عقود، وكانت مهمتها الرئيسية هي ترويج «الأرثوذكسية السنية» على يد الغزالي والجويني والباقلاني.
يومها، بدأ الظهور الأول لمفردة التوحش، أو التكفير السياسي، وهي قائمة اتهام جاهزة ضد من يخالف الشرعية والطاعة لولي الأمر، مع ضمان استمراريتها من خلالها تثبيتها كشعيرة دينية عنوانها الرئيس «اقتل ولك الجنة».
طرح هذه الدراسة قبل ظهور «داعش»، ليس كما بعدها. الاستغراب الذي لاحق المرحلة الأولى من ترويح الدولة البغدادية لوحشيتها، كان لعدم المعرفة، في الوقت الذي لازم المرحلة التالية لظهور التنظيم المتشدد وقوعه تحت مشرط الباحثين والإعلام الذي حاول ايجاد الرابط بين أفعال الوحشية الداعشية ونصوص التكفير التراثية وابرز منظريها وحتى زمن محمد عبدالوهاب راسم «توحش» الدولة السعودية الحديثة.
مقدمة كتاب «نصوص متوحشة»
كما لا توجد جريمة من غير مجرم ولا فساد من غير مفسد، فإنه لا يوجد توحش من غير وحش، والوحش هو هذه النصوص ومدارسها التي تبيح القتل وتأمر بالقتل من دون رادع نقدي، أو قراءة تاريخية أو قطيعة معرفية.
في هذا الكتاب أحاول قراءة نصوص التكفير قراءة تاريخية في ثلاث بيئات سياسية استخدمت التكفير ضد أعدائها، بيئة السلطة السلجوقية (القرن الخامس الهجري) من خلال نصوص الغزالي، وبيئة سلطة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وبيئة سلطة المماليك (القرن الثامن الهجري) من خلال نصوص ابن تيمية.
لماذا نفتح نصوص التوحش في تراثنا الآن؟
لأن هناك «وحشاً حقيراً» يسرق وجوهنا، باسم الدين والخلافة الإسلامية والمدارس الإسلامية، والأئمة الإسلاميين.يعتبرنا هذا الوحش أعداء يجب قتلهم وسبيهم، وينظر إلى ممارساته هذه كعبادة كما سائر العبادات، من حيث كون التكفير شعيرة دينية. لقد أجاب الفيلسوف المسلم (عبد النور بيدار) إجابة دقيقة عن هذا السؤال في خطابه الصادم الذي وجهه للعالم الإسلامي: «رسالة مفتوحة إلى العالم الإسلامي».
يقول في ختامها «وإذا كنت تريد أن تعرف كيف لا تنجب مستقبلاً مثل هذه الوحوش، فسأقول لك إنّ الأمر بسيط وصعب في الوقت نفسه. لا بدّ أن تبدأ بإصلاح التعليم الذي تعطيه أطفالك برمّته، أن تصلح كلّ مدرسة من مدارسك، وجميع أمكنة المعرفة والسلطة.. هذه وسيلتك الوحيدة كي لا تُنجب مثل هذه الوحوش، ... وحين انتهائك من هذه المهمّة الضخمة … فإنّه لا يمكن لأيّ وحش حقير أن يأتي لسرقة وجهك».
مع الأسف، حاضرنا ينتج مثل هذه الوحوش ومستقبلنا يعد بها، وماضينا مازال هو نفسه حاضرنا ومستقبلنا، مازال ابن تيمية يُدرّس نصوصه في أمكنة المعرفة (المدارس والجامعات) في عالمنا الإسلامي، وفي أمكنة السلطة يعقد ابن تيمية تحالفاته، حتى صارت كتب فتاويه دستوراً يحكم وفقها ملوك السلطة وولاة الأمر، والجماعات القاتلة.
وجوهنا مسروقة ومشوهة وقاسية وقبيحة بسبب هذا الوحش، لن تجدي معنا عمليات التجميل والترقيع، ولن تتمكن شركات العلاقات العامة مهما ملكت من أساطين الإعلام وأساطيره، من تحسين صورة وجوهنا الكالحة، لا بدّ من قتل الوحش وتفكيك أدواته الفتّاكة بنا.ذهبت إلى نصوص التوحش لأفكك متفجرات هذا الوحش العابرة للزمان والمكان، في هذه الرحلة سمعت أصوات فتاويه في جبال كسروان (1303م)، كما سمعتها وهي تدوي في القديح (2015) في مسجد الإمام علي بن أبي طالب، وسمعتها (2015) في مسجد العنود بالدمام، والبقية تنتظر.
* يوقّع علي أحمد الديري كتابه «نصوص متوحشة... التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية» اليوم (8:30 مساء) في «مقهى جلسة» (تقاطع الرويس، حي الأبيض)