هل بدأت الدول الداعمة لـ «الحركات الجهادية» على مدى سنوات، تتذوّق من السمّ الذي أعدّته بنفسها، والذي أذاقته للدول والأنظمة التي تختلف معها؟
بعد ما شهده العالم العربي من فوضى وحروب، سمّيتْ ربيعًا عربيًا، سقطت فيها أنظمة ورؤوس، ودُمّرت دول وجيوش وحضارات، وهدّمت فيها صوامعُ وبِيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ، ثمة أسئلة كثيرة تُطرحُ اليوم: هل بدأت الدول الداعمة لـ «الحركات الجهادية» على مدى سنوات، تتذوّق من السمّ الذي أعدّته بنفسها، والذي أذاقته للدول والأنظمة التي تختلف معها؟ وهل بدأ الارتداد المعاكس يطرق أبوابها، لا سيّما البلد المنشأ للعقيدة الوهابية؟ لا تنفصل العمليات الأخيرة في المملكة السعودية، وبالأخص العملية الانتحارية التي حصلت في محافظة عسير مؤخرًا، عن هذا السياق.
طارق عبود/جريدة السفير
وكيف ستواجه المملكة السعودية (السلطتان السياسية والدينية) انفلات الأمور الأمنية على أراضيها، بعدما أصبح خيار إسقاط النظام في سوريا، ضعيفاً، وتبدّد حلم سيطرة "الحركات الجهادية" ومن يدعمها على الأراضي السورية، مع بداية تراجع حزب «العدالة والتنمية» عن السماح لـ «داعش» باستخدام أراضي تركيا، كما في السنوات الأربع الماضية، فضلاً عن المواجهة القاسية التي تخوضها «الدولة الإسلامية» مع الجيش العراقي و «الحشد الشعبي»؟
علماً أن ما سبق يعني أن أحد الاحتمالات القوية يتمثل في أن تصبح «أرض الجزيرة» هي الملاذ والهدف. وذلك لأسباب عديدة ليس أضعفها، وجود الحرمين الشريفين، وكونها تمثّل أكبر مخزونٍ لثروات المسلمين النفطية، واعتبار «داعش»، و «القاعدة» من قبلها، أنّ هذه الأرض هي أرض الخلافة الموعودة، وهي البيئة الحاضنة والمؤسسة لهذا الفكر.
من الأسباب التي قد تدعم هذا الخيار أيضًا: الحصار الذي سيفرض على «داعش» بعد استنفاد وظيفتها، وهبوب رياح التسويات بعد الاتفاق النووي، وحسبان النظام السعودي، كحليف للإدارة الأميركية، في خانة المتآمرين على إجهاض حلم «الخلافة الإسلامية».
وإذا كان العمل في تلك الدول وجعلها ساحات جهاد، يحتاج إلى قرار دولي وإقليمي ومحلي لتسهيل عبور «الجهاديين» ودعمهم بالمال والسلاح والعتاد، وغضّ النظر عنهم في غير مكان، للإفادة منهم في رسم الخريطة السياسية الجديدة للمنطقة، فإنّ هذا العامل يصبح أكثر مرونةً، أو أقل تأثيرًا، إذا ما أصبحت الأرض الجديدة هي الجزيرة العربية نفسها، لأنها مكان يعدُّ أكثر من مناسبٍ لعملية الحراك "الجهادي"، وتوسيع رقعة «الدولة الإسلامية».
لذا، قد يعود النقاش بين منظري "الجهادية" السلفية، حول شرعية العمل العسكري داخل المملكة من عدمه، إلى الظهور مجددًا، وهو ما كان مساحة اختلاف بين رؤيتين، تنادي الأولى منهما بمساواة المملكة بغيرها من الدول التي تُحسَبُ من وجهة نظر «القاعدة»، ولاحقًا «داعش»، أنظمة «طاغوتية»، ومن الواجب قتالها وسفك الدم فيها، بينما ترفض الأخرى هذا الرأي، أو تعمل على تأجيله.
يطرح الكاتب فؤاد ابراهيم آراء الفريقين في كتابه «داعش، من النجدي إلى البغدادي، نوستالجيا الخلافة» الصادر حديثًا عن «مركز أوال للدراسات والتوثيق»، مقاربًا تينك النظريتين من خلال آراء مجموعة من منظّري السلفية "الجهادية"، مركّزًا على رأي الشيخ يوسف العييري الذي قُتِل في الطائف على أيدي القوى الأمنية السعودية في العام 2003، والذي يمثّل بدوره رأي إحدى الفرقتين، وهو يعلّق على الأحداث التي شهدتها تلك المرحلة، ويحاجج العلماء المعترضين على العمل داخل المملكة، بقوله: «عندما أصبح البعض أمام الأمر الواقع، وعايش ما عايشه الأفغان والشيشان وغيرهم، بدأ يفكّر بما لم يكن يفكّر به من قبل، كتبرير العلماء المعترضين بموضوع الأمن، وكأنّ الأمن مطلبٌ منفرد عن الشريعة، فما كان مصلحةً مطلقةً في بلاد المسلمين، أصبح مفسدةً محضة في بلادهم، من دون مستند شرعي لهذا الفريق».
ووجّه العييري سؤالًا للعلماء والمشايخ في المملكة قائلًا: «لماذا تقولون بدعم الشيشانيين والأفغان والعراقيين، ولا تقولون بصحة عمل هؤلاء الشباب؟ أي شباب المملكة؟ ويضيف، إنّ حجج العلماء بوجود مسلمين في المملكة يحول دون تنفيذ عمليات عسكرية فيها، ينسحب على الشيشان والعراق والأفغان، ويرى أن تطبيق الشريعة مشروط «بالدماء والأشلاء»، ولو لبرهة من الزمن».
ويعلّق فؤاد إبراهيم على ذلك قائلًا: «وتستمر ثنائية (فإن قلتم قلنا) حيث تدور رحى الجدل داخل الدار، أي داخل الإطار العقدي الوهابي، لنصبح أمام فصلٍ من التجاذب داخل النطاق العقدي الواحد، حيث تنجب الجماعة مولودًا يحمل سماتها الوراثية، ويعتنق المبادئ المؤسسة لخطابها وهويتها ورؤيتها».
وبعد تظهير موقف الفريقين، يحسم الكاتب، أن «كلمة البغدادي في 13 تشرين الثاني من العام 2014 حسمت خيارات «داعش» وباتت السعودية في مركز عمل التنظيم، من خلال المصطلحات العدائية التي استخدمها البغدادي، بوصفه السعودية بـ «رأس الأفعى»، وهو وصف استعمله بن لادن في حربه ضد الولايات المتحدة»، مضيفًا: و «في ضوء كلمة البغدادي هذه، نكون أمام معطى جديد، يؤكّد على أن «داعش» أعلنت الحرب على السعودية، وأنه يُخبرها بوصول جنوده إليها، الأمر الذي يعني موجة عنف جديدة محتملة».
على ضوء ما تقدّم، أي من النظريتين ستنتصر في الأشهر المقبلة؟ وكيف سيُسيَّل هذا التباين على أرض الحجاز ونجد؟ وهل سيتخلى المتحفظّون عن مخاوفهم من انفلات الأمور في المملكة؟ وهل سيمتلكون الجرأة والقناعة للإفتاء باستنساخ المشهد الدموي العراقي والسوري والليبي والمصري واليمني وغيره ونقله إلى أراضيها؟ وإذا ما رجحت كفة رأي الفريق المعترض على العمل داخل المملكة، كيف سيُطمَرُ الخطاب التحريضي المتراكم منذ عقود، وما يؤسَّس عليه الشباب من خلال المناهج الدراسية، وما لُقّنوا من أفكارٍ ترفض الآخر وتكفّره وتهدر دمه، وتحلّ نساءه وأمواله، وتجعلُ الموتَ السبيلَ الأقصرَ للوصول إلى الجنة الموعودة؟
وإذا ما اتخذت السلطة السياسية، وإلى جانبها السلطة الدينية، قرارًا واضحًا وحاسمًا بمحاربة هذا الفكر الذي أفادت منه طويلًا، كيف سيكون التجاوب من تلك الشريحة المعبّأة الحالمة بدولة الخلافة الموعودة؟ ولا سيّما إذا ما علمنا أنّ قيادة «داعش» ليست سعودية الجنسية والهوية. وأن تبوُّء «أبو بكر البغدادي» سدّة الخلافة، سيجعل التحفّظ والحذر من العمل داخل المملكة أمرًا غير مقبول من العناصر والقيادات في مختلف الأقطار والأمصار والبؤر، التي جعلت الأمن والاستقرار في بلادها هباءً منثوراً.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه