اليوم يرزح الحراك الثقافي تحت مراوحة مذهبية تعجزه عن النهوض وتطوير سؤال الهوية، بل صنعت له هوية دوغمائية غير قادرة على انتزاع الحقيقة، فصنعت حقيقتها من وهم العصبيات
يشهد الحراك الثقافي في الخليج العربي تغيرات في مساراته غير مستقرة ، متأثرا بالحراك السياسي في المنطقة في أجلى مشهد لتداخل السياسي مع المعرفي، وتداخل وظيفة المثقف بعلاقته بالسلطة والمجتمع . والمتابع لهذا المشهد يمكنه أن يشهد جليا تلك التغيرات سواء الإيجابي منها أو السلبي.
إيمان شمس الدين
وأبرز ما يمكن قراءته في الحركة الثقافية في بعدها الإيجابي عدة أمور أهمها:
- كثرة عدد مراكز البحث العلمي المتعلق بالقلق الثقافي وسؤال الهوية .
- زيادة الحركة العلمية والاهتمام بالمقارنات الثقافية الغربية الاسلامية والميل نحو السؤال الفلسفي على السؤال التراثي.
إلا أننا في ذات الوقت ورغم أن ما ذكرناه يعد من الإيجابيات الظاهرية ، لكننا لا يمكن لنا الغفلة عن الحفر في ماورائيات هذه الإيجابيات .
عمدت كثير من أنظمة الخليج إلًى الإلتفاف على الحراك الثقافي والفلسفي الذي بدأ يظهر في الوسط الخليجي عند النخب ، والتي بدأت تطرح تساؤلات كبرى تتعلق بطبيعة الحكم ودور الشعوب وتوزيع الثروات والتنمية وكل ما يتعلق بسؤال النهضة ومكوناته .
كثير من هذه الأنظمة تعاطت مع الحراك الثقافي تعاط تكتيكي احتوائي ، لتقلل من تأثير هذا الحراك على الشعوب ولتدمج هذه النخب بالسلطة وتدجنها وتضمن ولاءها وعدم مواجهتها، لتبقى تحلق في فلك ثقافي يتناسب وتطلعات الأنظمة .
فكثير من المراكز الثقافية التي يشغلها نخب تمويلها إما من السلطة مباشرة أو من التجارالمتحالفين مع السلطة الذين قدموا دعمهم بإيعاز منها، ليدمج المال مع مجموعة إملاءات تحجم العمل الثقافي وتضع له حدوده الآمنة ، أو هي بدعم من أبناء السلطة الحاكمة إما نتيجة إيعاز منها أو نتيجة صراع على النفوذ تستخدم به الوجاهات الثقافية لضرب استقرار السلطة والمجتمع وعمل اختراقات تمكنه من الحصول على موقع متقدم في ذلك ، وقد انخرطت كثير من النخب في هذه المراكز وتم تدجينها أوتحويلها لأبواق صوتية تكتفي فقط بالتنظبر والوجاهة الاجتماعية .
إن طبيعة الأنظمة الرعوية في الخليج تفرض فضاءا محدودا من الثقافة التي تتناسب وتطلعاتها وسيرها في الحكم .
وقد أثبت الوضع الإقليمي الغير مستقر حقيقة كثير من النخب الذين رفعوا شعارات الدولة المدنية ونظام الحكم الديموقراطي ، وكتبوا حول المواطنة والحقوق والواجبات والتعايش والتعدد إلا أنهم تطبيقيا مارسوا كل أنواع الإقصاء والتهميش والتمييز بحق مكون شريك لهم في الوطن أو مكون شريك لهم في المنطقة ، وكانت الأسباب عديدة منها :
١. القبائلية التي مازالت تحرك نظام الدولة وثقافة المجتمعات والتي تبني جدارا عازلا بينها وبين المختلف مذهبيا أوالمختلف عرقيا وجهويا .
٢. شراء ولاء كثير من النخب المثقفة من قبل السلطة ليتحول من مثقف حر إلى مثقف سلطة ينشد الشهرة والوجاهة الاجتماعية وكثرة عدد المتابعين في وسائل التواصل الاجتماعي والتي لا يمكنها أن تزيد إلا حينما يتحول إلى طبال للجمهور بدل أن يكون العقل المرشد لهم للحقيقة .
٣. طبيعة النظام الرعوي القائم على ثقافة الشرهة القبلية في العلاقة بين السلطة والشعب من جهة والسلطة والنخب من جهة أخرى ، وهو حدد مسارات الثقافة التي يجب على النخبة الولوج فيها وبنى جدرا عازلا بينها وبين ثقافات أخرى خوفا من إحداث اختراقات في وعي الجمهور تحول السؤال من سؤال نخبة إلى سؤال الشعب وهو ما يهدد استمرارها وبقاءها .
فكان الحل بخنق نماذج حكم محيطة قبل ولادتها وكان خنقها يتم بحبل المذهبية والقومية والذي كان يجد له صدى شعبيا نتيجة تغلغل الفهم القبلي للحياة وسيادة كثير من أعراف وتقاليد القبيلة على مستوى الحكم وعلاقته بالشعب ، وعلى مستوى الشعب وطبيعته الاجتماعية التي لم تتحرر إلى الآن من العقل القبائلي رغم حصول نسبة كبيرة على شهادات عليا إلا أن ذلك لم يحدث إنزياحات في فهم العقل الجمعي إلا عند قلة ليس لها صدى صوت في محيط ملتهب مذهبيا وقوميا .
٤. دور وسائل الاعلام التي تدعمها حكومات وتنفذ بذلك أجنداتها في رسم وعي الجمهور ، ودور وسائل التواصل الاجتماعي الذي استطاعت تلك الأنظمة اختراقها بجيش مجند من عملائها لخلق أجواء تبقي الجو العام في فضاءات إرادتها وتوجه الوعي بالاتجاهات التي تريدها تلك الأنظمة .
٥. عدم وجود مراكز بحثية مستقلة خارج دائرة نفوذ السلطة مع وجود قوانين مقيدة لتلك المراكز من خلال عمليات الرقابة والمنع ومن خلال الدخل المالي الكبير الذي تفرضه السلطة كشرط لترخيص المركز، وهو مبلغ لا يملكه إلا تجار أو سياسيون أو حكوميون، وهو ما يرجعنا لمربع تداخل السياسي والاقتصادي بالمعرفي ويقيد المثقفين ضمن أجندة الممول .
٦. الاختراقات الثقافية السلبية للغرب التي ركزت على تدجين المثقفين والجمهور تدجينا استهلاكيا كون الميل العام للخليج تاريخيا هو ميل تجاري ، فصنعت بذلك عقولا استهلاكية بدل أن تصنع عقولا ثقافية اي كرست لثقافة الاستهلاك مع تغييب وتمييع واضح للهوية وثقافة الغاية والهدف والاكتفاء الذاتي .
فالحركة الثقافية في الخليج مازالت تخضع إما للسلطة أو للتجار أوللتيارات الموجودة في المجتمع سواء الإسلامية منها أو العلمانية وهو ما يؤثر على موضوعية الحراك الثقافي ويؤدلجه ، بل يبني حواجزا بينه وبين ثقافات مجاورة في المنطقة أو شريكة في الوطن تمنعه من التلاقح الثقافي والنهوض الحضاري وصناعة وعي الشعب ليحقق بذلك نهضة على مستوى الوطن، رغم انبهاره الواضح بالثقافية الغربية بغثها وثمينها ومحاولاته الترقيعية لتلك الثقافة في مجتمعات لا قابلية لها لذلك ، لكنه استطاع أن يخترق وعي الجمهور بالثقافة الاستهلاكية التي تركز على جمال الظاهر والجسد ماديا ودمار العقل والروح معنويا وثقافيا وفكريا.
هذا فضلا عن أن أغلب المثقفين في الخليج يعيش ازدواجية تشبه ازدواجية العصر العباسي ، فبينما في العصر العباسي كان النظام الحاكم على مستوى التنظير يؤمن بالله ويتأثر بكلام الوعاظ لكنه عملانيا كان يعربد بمقدرات الأمة ويسرقها ويحكمها بالسوط والحديد والنار لتعبده هو لا لتعبد الله.
فكثير من مثقفوا الخليج هم إما أدوات بيد السلطة أو أدوات لأجندات خاصة أو أسرى الوجاهة الاجتماعية التي تتطلب نزول المثقف لرغبات الجمهور وتحوله إلى مثقف شعبوي بدل أن يتحول الجمهور بوعي المثقف إلى جمهور مثقف نخبوي.
ولا يمكننا إغفال القلة المثقفة التي مازالت تسعى وتكدح نظريا وعمليا لأجل تغيير مسارات الوعي لتحويلها من فهم قبائلي إلى فهم علمي موضوعي منفتح على كل الآراء لأجل الحقيقة كما هي ، وليس كما يقوم كثيرون ببيع الوهم للشعوب على أنه الحقيقة.
لكن هؤلاء هم الكادحون حقا لسيرهم عكس التيار العام ، ولأنهم معرضون لمواجهة السلطة بشكل غير مباشر ، أي مواجهة تكون أدوات السلطة مثقفوها وأدواتها الإعلامية وجيشها المجند في وسائل التواصل الاجتماعي وأحد أهم أدوات القتل في الخليج هو التشهير والاسقاط الاجتماعي لكل من يمشي عكس التيار ، كون هذه المجتمعات مازالت مجتمعات محافظة تراعي جدا الجو العام وتظهر التزاما خلاف ما تبطنه من تفلتات من العادات والتقاليد هي تفلتات مبطنة خوفا من تشهير المجتمع وهو ما يخلق حالة الازدواجية في الشخصية الخليجية والتي يغلب عليها التعقيد والتركيب نتيجة المناخ العام الاجتماعي الذي تعيشه.
وعند التشهير بالشخصيات المصلحة حقا فأنت هنا تسقط الشخص وتسقط به أفكاره وثقافته، وتبني بينه وبين عقل المجتمع حاجزا كبيرا يمنعه من قبول ما اعتاد عليه أولا وقبول ما يعتبره المجتمع ساقطا في أعرافه.
وهذا ينعكس على كثير من مثقفيها إلا القليل الذين استطاعوا التفلت من هذه الازدواجية وحملوا على عاتقهم قول الحقيقة حتى لو كلفهم ذلك حياتهم وهم قلة إلى الآن مشتتة الوجود والقدرات لا تملك نفوذا لا في السلطة ولا في وسط الجمهور.
إن جدار العزل العنصري الذي بناه مثقفوا الخليج أثر في الحراك الثقافي تأثيرا كرس الحالة القبائلية وهمش الفهم المدني ، هذا فضلا عن تداخل الفهم القبلي بفهم الدين وبروز مثقفين متطرفين استطاعوا التأثير في الجو العام وتكريس الفهم السلفي النصي للحياة من جهة وللعلاقة بالسلطة من جهة أخرى .
وفي ظل صراع الاسلامي و العلماني لم يقدم أي طرف منهما مشروعا ناهضا لانغماسهما في الصراع وفي كيل التهم وفي التسابق على السلطة والنفوذ، خاصة أن كلاهما تم تدجينهما إما بانتخابات عددية وليست برامجية ، أو من خلال تحويلهم كأوراق بيد السلطة تبقي فيها حالة الخلاف قائمة لإشغالهم عما يجب أن ينشغلوا به.
اليوم يرزح الحراك الثقافي تحت مراوحة مذهبية تعجزه عن النهوض وتطوير سؤال الهوية، بل صنعت له هوية دوغمائية غير قادرة على انتزاع الحقيقة، فصنعت حقيقتها من وهم العصبيات لتغرق في وحلها وتغرق الجمهور معها.
ولم تستطع أغلب التيارات الاسلامية والعلمانية أن تقدم نموذجا ثقافيا صادقا على مستوى التنظير والتطبيق ، كون الثقافة عابرة للهويات ومنفتحة على كل العقول والمكونات إلا أن أغلب النشاطات الثقافية العلمانية والاسلامية منغلقة على ذاتها وتدور في حلقتها المغلقة وبين جمهورها المنتمي لها فقط ، حيث تجعل عقل محيطها في صندوق إيديولوجي محدد يعجز من رؤية الواقع الخارجي الرحب.
اذا هناك عدة جهات تتحكم في مسارات الحراك الثقافي في الخليج وبالتالي بغالبية مثقفيه :
١. السلطة ومنهجية تعاطيها مع الثقافة والمثقفين.
٢. التجار المرتبطين بمصالح مع السلطة أو لهم تطلعاتهم في الحكم.
٣. التيارات والأحزاب الاسلامية منها والعلمانية وصراعاتها الاثنية.
٤. الاعلام وأدواته وتداخلاته مع السلطة والتجار والتيارات والأحزاب.
٥. المثقف ذاته وطموحه للوجاهة والشهرة ومصالحه المرجحة على مصلحة الشعوب والتي تفرض عليه ارتباطات ينزع خلالها كثير من نظرياته الناهضة ليتحول إما إلى بوق للقوى النافذة أو طبال للجمهور.
٦. النظام الرعوي الذي مازال يدجن الجمهور ويرضخه لفهم قبائلي على مستوى علاقته بالسلطة وينساق على فهمه للدين والمجتمع والمحيط فهما عصبويا ديموغائي.
٧. الاختراق الثقافي الغربي ونفوذه الناعم في المجتمعات بشكل عام والخليجية بشكل خاص لفقدانها المناعة الذاتية.
٨. الوضع الإقليمي ومحاوره والتي ينسب الخليج لأحدها وانعكاس ذلك على تداخل السياسي بالمعرفي وتوجيه السياسي للمعرفي وفق إرادات الأنظمة الحاكمة وتحالفاتها.
ما يحتاجه الحراك الثقافي هو ابتعاد نخبه عن السياسة وتخلصهم من جنوحهم نحو الوجاهة وطلب السلطة والنفوذ ، وعدم انتمائهم لتيارات أو أحزاب ، فصاحب الفكر الحر لا يمكنه أن يخلق سؤال الهوية ويبدع ثقافيا بالانتماءات المذهبية والحزبية والتيارية، إضافة لاستقلالهم المادي الذي يمكنهم من رسم مشروع ثقافي خاص قادر على أن يحدث انزياحات حقيقية في وعي المجتمعات الخليجية خارج الفهم القبائلي والديني المتطرف ، ليحطم جدار العزل العنصري ويخرج عابرا لكل المراوحات المذهبية إلى الفضاء الإنساني الرحب الذي يرجح مصلحة الأمة على مصلحة السلطة ويحدد أولوياتها على ضوء القيم والمبادئ الإنسانية الحقيقية ، والتي غايتها تحقيق العدالة دون النظر للثقافة الشعبوية ولا لنفوذ السلطة ومقوماتها.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه