تمرّ هيئة الإذاعة البريطانية بأزمة كبيرة هي الأعتى، ربما، في تاريخها الطويل الممتد منذ تأسيسها في 1922. جزء من هذه الأزمة داخلي، ويتعلّق بتسيير شؤون الهيئة الإداريّة،
تمرّ هيئة الإذاعة البريطانية بأزمة كبيرة هي الأعتى، ربما، في تاريخها الطويل الممتد منذ تأسيسها في 1922. جزء من هذه الأزمة داخلي، ويتعلّق بتسيير شؤون الهيئة الإداريّة، تحديد القيم التي تعمل على أساسها، سياسات التحرير، العلاقة الإعلامية مع المجتمع البريطاني وتمثيله بشرائحه المتنوعة، لا سيما مع ما تملكه من تأثير كبير على هذا المجتمع وصناعة الرأي العام فيه. فيما يتعلق الجزء الآخر من الأزمة بدور الهيئة في الفضاء الإعلامي الدولي، ومكانها فيه، ودورها الذي عليها أن تحافظ عليه عبر منافسة قاسية مع وسائط جديدة، تتمثَّل، في أهمّ وأوضح صورها، بالثقافة التلفزيونيَّة الجديدة التي يطرحها منافسون مثل «نتفليكس» و «أمازون».
منذ تمّوز الماضي، والجدل مستمرّ حول «الورقة الخضراء» التي أصدرتها الحكومة البريطانيَّة وتبناها وزير الثقافة البريطاني جون ويتينغديل الذي يرى ضرورة ملحّة لإعادة النظر في مسألة تمويل «بي بي سي». يطرح الوزير أيضاً تقييم عمل الهئية بعد ما مرت به من فضائح ومشاكل وإخفاقات تحريرية، من شأنها أن تزعزع الثقة الموجودة بين الهيئة ومتابعيها.
فادي الطويل/جريدة السفير
طرحت الورقة عدة أسئلة سيتم النظر فيها، منها: هل خذلت «بي بي سي» جمهورها؟ كيف ستتمّ معالجة السياسة المالية للهيئة؟ ماذا حول مشاركة رسوم رخصة البث، وماذا عن مجموعة القيم الأساسية التي يجب أن تحكم عمل «بي بي سي» كالاستقلاليّة والاكتفاء المالي والنوعيّة والشفافيّة وغيرها؟ الأمر برمّته، كان في نظر مجلس أمناء «بي بي سي ترست» الذي ترأسه رونا فيرهيد، تدخلاً سياسيَّاً يستهدف استقلاليَّة الهيئة، وتقليص مساحة عملها، وهو ما لن يرضي، بحسب كلام فيرهيد، الجمهور البريطاني الذي يريد رقابة وتنظيماً مستقلين «بي بي سي» تتم فيه مناقشة التمويل بعيداً عن سلطة السياسيين.
ينطلق هذا الموقف من المكانة التي تحظى بها الهيئة، ما دفع أكثر من ثلاثين شخصيّة بريطانيّة من نجوم الفنّ والمجتمع لإرسال رسالة لرئيس الحكومة البريطاني جون كاميرون لدعم «بي بي سي» لكونها «قلب الحياة البريطانية».
هذا الأخذ والردّ بين ويتينغديل الذي يرى ضرورة إعادة تقييم عمل الهيئة وتقليص تمويلها دافعاً لـ «ازدهارها»، والهيئة ذاتها التي ترى في الإجراء محاولة لتقليص خدماتها وتراجع شعبيتها، أثار الجدل حول ما تواجهه الهيئات الإعلامية الكبرى والعريقة من أزمات مشابهة، ضمن منافستها لوسائل إعلامية جديدة.
بحسب «فايننشال تايمز»، في مقالتها «بي بي سي» وماذا بعد؟، فإنَّ الهيئة ليست وحدها في هذه الأزمة، إذ تمرّ شــبكات وهيئات أميركيّة وأوروبيّة بمشــاكل مشابهة، لكن ما يميّز حالة الهيــئة البريطانيّة هو تاريخها والدور الذي لعبته في صنع العلاقة بين الجمهور والإعلام. فجزء كبير من مشاهدي التلفزيون في بريطانيا، اعتمد طويلاً مبدأ يقول: «وحدها «بي بي سي» تستطيع تقديم، أو فعل، هذا الأمر أو ذاك».
اليوم، على «بي بي سي» أن تواجه خيارات صعبة؛ عليها أن تختار أيّ جمهور ستضحّي به، أيّ برامج وخدمات ستوقفها. كيف ستتعامل مع «نتفليكس» التي أصبحت تحظى باشتراك 27 مليون عائلة بريطانية فيها.
ماذا ستغيّر من أجل الحفاظ على موقعها، خصوصاً أن غياب «بي بي سي» لمصلحة «نتفليكس» أو غيرها يعني تقليص المحتوى الإعلامي البريطاني الأصلي. يبقى ذلك ضمن الخيارات المطروحة، لأنه ومع تراجع التمويل، فإن جودة البرامج ستتراجع بدورها إذا استمر الإنتاج بالكمّ ذاته. لذلك، يبدو أنّه على مجلس أمناء «بي بي سي» التفكير ملياً، واتخاذ قرارات لن ترضي الجميع، لكن سيكون من شأنها الحفاظ على تماسك الهيئة ودفعها إلى الأمام وخوض تحديات المصداقية والمنافسة عبر مفاهيم وطرق وأبعاد جديدة تفرضها متغيرات سوق إعلامية صارمة.