الكبار بين ناسهم منارات يستهدون بها ويسترشدون بأفكارها وسيرها وتجاربها، وأفضل ما نستحضر في كبارنا يوم يغيبون عنا أو يغيبّون، هو أن تتحول ذكرى الغياب أو التغييب إلى منبر أو منتدى نتطارح عبره الأفكار.
كتب معن بشور
مداخلة في ملتقى الإمام الصدر السابع
الكبار بين ناسهم منارات يستهدون بها ويسترشدون بأفكارها وسيرها وتجاربها، وأفضل ما نستحضر في كبارنا يوم يغيبون عنا أو يغيبّون، هو أن تتحول ذكرى الغياب أو التغييب إلى منبر أو منتدى نتطارح عبره الأفكار، ونواكب المستجدات، فيكون حضور الكبار فيها ملهماً وهادياً لا مجرد ذكرى ترددها الألسن، أو يثار حولها الصخب.
وهنا يجدر التنويه بمنبر الإمام الصدر وحرصه على تنظيم ملتقى الإمام السابع في ذكرى تغيبه مع رفيقيه، فيختار لكل ملتقى عنواناً، وثيق الصلة بهموم الإمام السيّد واهتماماته، مدركاً إن على رأس تلك الهموم والاهتمامات كيف يخرج لبنان من محنته، والأمة من عثارها، والإنسانية من أوجاعها الممتدة من مكان إلى آخر، ومن زمان، إلى زمان ثاني.
موضوع مداخلتي اليوم "اللبناني بين فضاء طموحه وأسوار الطائفية" هو دون شك من الموضوعات الأثيرة على قلب الإمام السيد، وعلى عقله وفكره، فحركة المحرومين التي أطلقها ، كان يريدها حركة لا طائفية تضم لبنانيين، من كل الطوائف، إدراكا من سماحته إن تجاوز الطائفية لا يتم إلا بحركات عابرة للطوائف والمذاهب بل إن مفهوم الحركات لدى سماحته لا ينحصر بالحرمان الاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل أيضاً بالحرمان المعنوي والسياسي للمواطن أي من حرمانه من تكافؤ الفرص مع المواطن الآخر بغض النظر عن الدين والعرق والطائفة والمذهب واللون والجنس.
والإمام السيد موسى الصدر كان يدرك ككل رجالاتنا الكبار إن التنوّع الطائفي في لبنان نعمة لهذا الوطن ومصدر لتعددية هي أصل الديمقراطية، بل هو واقع ينطوي على رسالة ، إذا نجحت في لبنان، قد تنجح في محيطه وفي العالم بأسره، أما إذا تعثرت وارتبكت وتحول فيها التنوع إلى اصطراع واحتراب، والتعدد فيها إلى إقصاء وحروب مستمرة فإنها تتحول إلى مصدر بلاء عظيم.
ولقد كنا نظن أيام شبابنا إن الطائفية مرض لبناني مزمن، ولم نقرأ مدى توغلها في تاريخنا، بل مدى انتشارها في محيطنا والعالم بأسره، فكنا في تعاملنا معها سذجاً إلى حد كبير نعتقد إننا إذا أنكرناها باتت غير موجودة، أو إذا طالبنا بإلغائها حصلنا على ذلك بسهولة.
ولعل من المفارقات المؤلمة أن الكثير من أحزابنا وشخصياتنا الفكرية والثقافية التي عقدنا الآمال عليها لتجاوز التعصب الطائفي وبناء مجتمع المواطنة قد بات أسير هذا التعصب، بالوعي أو اللاوعي، بل بات يقدم صورة واهنة مترهلة عن أداء بديل للنظام الطائفي .
والمواطن الذي تشكل الطائفية سوراً لفضاء طموحه، والذي سعي إلى النضال من اجل إزالة هذا السور، بات قابعاً راضياً بما هو فيه مقتنعاً بأنه " لا مارد ولا عصفور" ليتجاوز "السور وراء السور" كما كتب يوما الشاعر المصري احمد فؤاد نجم وانشد توأمه الفني الشيخ إمام رحمهما الله:
فالتعصب الطائفي لم يعد سوراً بوجه طموحات اللبناني فقط بل بات سوراً بوجه طموحات لبنان بأسره، الذي يرى معظم عيوبه كامنة في توسع هذا التعصب افقياً وعمودياً، في الدولة ومؤسساتها، كما في المجتمع ومنظماته، في الوظائف كما في العلاقات الإنسانية، حتى كاد يلتهم معظم الانجازات التي حققها المسار الوطني، فالميثاقية تراجعت أمام المحاصصة، والمقاومة تجري محاصرتها بالتحريض المذهبي والطائفي البغيض، والتحركات الشعبية المشروعة يجري إجهاضها بإشهار السلاح الطائفي والمذهبي بوجهها.
أما الفساد الذي يشكو منه أغلبية اللبنانيين، والذي شكل مادة لانتفاضة شبابية مباركة في 22 آب الجاري، وبغض النظر عن أي شوائب لحقت بها، وجد دائما في التعصب الطائفي ملاذا، فإذا دعى الداعي لمحاكمة ابطاله أو محاسبتهم هب أهل التعصب الطائفي يشهرون سيوفهم دفاعاً عن الطائفة التي تصبح ملخصة برجل فاسد.
والفساد، وبيئته الحاضنة التي تكمن في التعصب الطائفي، آفة لا ينحصر تأثيرها بين فاسد ومفسد ومواطن متضرر بل يصبح آلية لتفكيك الأوطان والمجتمعات برمتها لأنه يستنزف القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية ويسقط الحصون التي تحتمي بها الأوطان والمجتمعات فمع الفساد المحمي بالعصبية الطائفية، تسهل كل أنواع الاختراقات الأمنية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية.
لكن ارتباط الفساد بالتعصّب الطائفي لا يعني غيابه عن مجتمعات لا تشكو بحكم تكوينها من هذه الظاهرة بالذات، لكنها تشكو من عصبيات من نوع آخر.
فإذا كان التمايز الديني والعرقي ٍغنىً لدى العديد من الشعوب والأمم، فان تحوله إلى عصبية أو تعصب بات مصدر ارتباك للمجتمعات واضطهاد للأفراد، ومن هنا ليس التعصب الطائفي هو المسألة المشكو منها فقط، بل انه كذلك التعصب القبلي والحزبي والقطري والعنصري وكل ما يشكل مصادر للعنف الأهلي المصحوب بثقافة إقصاء الآخر وتجريده من أبسط حقوقه.
من هنا فتعاملنا مع الطائفية يحتاج إلى تعامل من منظور أوسع لأنه تعامل مع كل العصبيات التي تمزق مجتمعاتنا حين تتحول إلى حال اقصائية للآخر، وبالتالي يصبح رفض الطائفية دون رفض العصبيات الأخرى جزءاً من المشكلة بدلاً من إن يكون جزءاً من الحل.
فالحرب على الطائفية غير المحصنة برؤى وحدوية جامعة وديمقراطية عصرية، تصب الزيت على نار الطائفية خصوصاً حين تبدو وكأنها حرب طائفة بعينها أو حزب بمفرده أو فئة دون أخرى، وكلنا نذكر كيف إن لبنان كان منقسماً بين فئتين أحداهما تشكو من الغبن والأخرى من الخوف، فأوصلتنا أنواع معينة من "الحروب" على الطائفية إلى أن الجميع بات يشكو اليوم من الغبن والخوف معاً...
فالخروج من الطائفية بهذا المعنى يحتاج إلى خطة متكاملة فيها الثقافي كما السياسي، الاجتماعي كما الاقتصادي، النفسي كما الديني، وكل مقاربة ناقصة لهذا الملف تؤدي إلى تغذية هذا المرض، وإعلاء الأسوار بين اللبناني وأخيه اللبناني.
فالخروج من الطائفية يحتاج أول ما يحتاج إلى تنمية الانتماء الوطني، والهوية الجامعة، وتكريس مبدأ المواطنة بكل معانيه، كما انه يحتاج إلى حركات ومؤسسات ورموز وبرامج عابرة للطوائف والمذاهب، لأن حصرها بطائفة أو مذهب، مهما كانت غاية هذه الحركات نبيلة وأهدافها طاهرة، سيؤدي حتماً إلى إعادة إنتاج التعصب الطائفي أو المذهبي.
والخروج من الطائفية يستدعي أيضاً خوض معارك نضالية ووطنية تعبّر عن مصالح الجماعة اللبنانية، أو أي جماعة، بكل مكوناتها، فما من شيء يوحد الناس كحرارة النضال وكوعي الهموم المشتركة.
وإنني من الذين يعتقدون أن الانخراط اليوم في تحركات شبابية ونقابية وطنية كما هو الحال في وسط بيروت كما في تحركات هيئة التنسيق النقابية قبلها، رغم محاولات إجهاضها، كما إن السعي لبناء الحركات والتجمعات، والهيئات والبرامج الشعبية الوحدوية الجامعة، وتشكيل شبكة وطنية وقومية واسعة لدرء المخاطر عن المقاومة التي تمثل شرف الوطن والأمة وعنفوانها، يبقى الوسيلة لتحقيق الخطوات المطلوبة بالاتجاه الصحيح لاجاه الخروج من التعصب الطائفي وكل أشكال البعض.