المجر تقود جبهة الرفض: الأولوية لضبط الحدود
وسيم ابراهيم
يقلب البرلماني الاوروبي ميغيل كريسبو مجموعة صور التقطها بنفسه، لتكون دليله حين يتكلم. يشير الى بضعة أسيجة حديدية نصبت على شكل قفص، في مكان مقفر تنتشر فيه مخلفات أغذية، قبل أن يقول «هذه هي محطة القطار التي صنعوها من أجل اللاجئين». عاد كريسبو لتوّه من جولة على دول طريق البلقان، تنقل فيها بين معابر حدودية ومراكز استقبال واحتشاد في مقدونيا وصربيا والمجر.
أراد السياسي الاسباني، من حزب «بوديموس» اليساري الصاعد، أن يتحقق بنفسه مما تردده سلطات تلك الدول عن فعلها الكثير «لاحتواء الأزمة الإنسانية». يقول خلال حديث الى «السفير»، مواصلا التأمل في الصورة، «لو لم يقولوا لي، كنت لأظن انها زريبة لتجميع الحيوانات ونقلها».
محطة القطار المرتجلة هي في مقدونيا، قرب حدودها مع اليونان. صحيح أن هذه المرافق باتت مجرد محطات توقف مؤقت، لكن الدول التي أنشأتها تتلقى مساعدات مالية أوروبية لكي تجعلها لائقة.
في أحد مراكز تجمع اللاجئين، في صربيا، تنتشر الخيم المختصرة: «شادر» مثلث بطول مترين، معلق على قضبان حديدية، فيصير دوره مظلة يرقد تحتها بضعة منتظرين.
يعرف كريسبو ان «المرافق» التي زارها ستصير تحت ضغط مضاعف. إذا نفذت الحكومة المجرية تهديداتها، فسيكون على «انتفاضة اللاجئين» ان تصعّد شعاراتها الى «إسقاط اوربان»، في إشارة الى رئيس الوزراء المجري فيكتور اوربان. البرلمان هناك يسيطر عليه الحزب اليميني المتشدد الحاكم، بما يجعل فيكتور اوربان يحكم كإمبراطور.
قبل أيام مرر النواب المجريون قوانين جديدة، هي بمثابة حملة لصد موجة اللاجئين، من بينها مضاعفة الرقابة على الحدود مع صربيا، وهي الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي. وثمة قانون آخر، يثير توجس منظمات حقوقية، يعتبر قطع الحدود قطعاً «غير شرعي» جريمة سيُعتقل من يرتكبها ويُعاقب. ويضاف الى ذلك إنشاء «مراكز استقبال» كبيرة، سيجري فيها تسجيل جميع من يعبرون الى المجر. والتأسيس للحملة سيتوّج في الأيام المقبلة بقانون آخر، يجيز مشاركة قطع من الجيش في حراسة الحدود. تكرر الحكومة المجرية موعد التنفيذ في صيغة تهديدات. أوربان يقول ان ما بعد يوم 15 أيلول الحالي لن يكون كما قبله. بعض المقربين منه، في حزبه، يقولون إن «فترة السماح» ستنتهي، في إشارة لغض النظر عن مغادرة اللاجئين.
مراقباً ما يفعله حاكم المجر، يقول البرلماني الاوروبي: «أوربان هو نموذج لحكومات اليمين في أوروبا، لكن إجمالا، كل الحكومات لا تتعامل مع مشكلة اللاجئين على انها أزمة إنسانية، بل تتقاذفها مثل البطاطا المسلوقة»، مضيفاً «يريدون رميها للآخرين بأسرع ما يمكن، هذا كل ما يفعلونه».
المحاولة الجديدة لإيقاف هذا «التقاذف» قادها تفاهم ألماني ـ فرنسي، انضمت لصياغته ايطاليا في ورقة مشتركة، قبل ان تطرحه المفوضية الأوروبية، في استراسبورغ. الخطة الجديدة تطمح الى حل عقدة الخلاف المتكرر: إنشاء آلية دائمة لإعادة توزيع اللاجئين على الدول الأوروبية، في مقابل إقناع الدول الحدودية، خصوصا اليونان وإيطاليا، بتسجيل جميع اللاجئين لديها وعدم تشريع أبوابها لخروجهم.
الخطة تعتزم إقناع دول التكتل الاوروبي باستقبال 120 الف لاجئ، عبر نظام الحصص الإلزامية. بالتوازي مع ذلك، تقترح المفوضية إقامة نقاط ساخنة، للتعامل مع طلبات اللجوء في اليونان وإيطاليا والمجر. هذا ما بدأ العمل عليه، مسبقا، في صقلية الإيطالية، ويجري تحضيره على جزيرة كوس اليونانية التي باتت مرفأ لقوارب المهربين. ويستدعي ذلك إنشاء مراكز تستوعب الأعداد الكبيرة، حيث سيتم هناك فحص طلبات اللجوء لجميع الواصلين.
ولن تقبل طلبات لجوء من سيعتبرون «لاجئين اقتصاديين» من دول «آمنة»، بحسب قائمة تصنيف وعد الأوروبيون بإصدارها، ولذلك تتضمن الخطة آلية ترحيل سريعة للمرفوضين.
إقناع جميع الدول بدعم الخطة لا يبدو سهلا. قبل بضعة أشهر، حاول الأوروبيون تنفيذ سيناريو مشابه، لإعادة توزيع 40 الف لاجئ وفق مبدأ الحصص لكن الطوعية. تعذر حينها الحصول على تعهدات باستقبال كل العدد. الخطة الجديدة تجعل الحصص ملزمة، مع فرض عقوبات مالية على الدول التي لا تنفذ. هكذا تريد ألمانيا، ومعها فرنسا وإيطاليا، فرض مبدأ «تقاسم الأعباء»، فمن لا يستقيل سيضطر للمساهمة بتسديد أموال الغرامة المعتبرة.
ولكن إقرار كل هذا يحتاج الى قرار أوروبي، الامر الذي سينقل السجال الى احتمال قرار بالأكثرية لا بالإجماع. أما المعركة المهمة فستكون في اجتماع وزراء الداخلية الأوروبيين، المرتقب الأسبوع المقبل.
رفض بريطانيا معروف سلفاً. حتى حين أعلنت عزمها استقبال 20 الف لاجئ سوري، بعد سنوات من التجاهل التام، قالت إنها ستأخذهم من دول الجوار السوري، لا من دول أوروبية. وبررت ذلك بأنها لا تريد أن يعتبر قرارها «تشجيعا» لوفود مزيد من اللاجئين.
أما المجر فتقود جبهة الرفض، وهي تتبنى حجة بريطانيا ذاتها، ولكن بعد أن تضعها أمام مضخم صوت. وتحتج بودابست بأن نظام الحصص منطق «خاطئ» لأنه سيكون «بمثابة دعوة للمهاجرين والمهربين»، معلنة ان الأولوية هي لإيجاد آلية صارمة لضبط الحدود الأوروبية.
هذه المرافعة كررها وزير خارجية المجر بيتر سيجارتو قبل أيام. في تذكير لانتقادات وجهتها بلاده الى ألمانيا، قال ردا على «السفير» إن «بعض السياسيين الأوروبيين يرتكبون خطأ كبيرا عبر خلق أحلام غير واقعية لدى الناس، بأنه من السهل جداً القدوم الى أوروبا وفيها ستلاقيهم حياة اقتصادية أفضل»، قبل ان يستدرك «سنستقبل من هو لاجئ سياسي ومن يواجه خطرا على حياته، لكن لا يمكننا قبول المهاجرين الاقتصاديين وتحمل عبئهم». يردد الوزير نغمة الحرص على القوانين وأنها ما تحدد اللاجئ من غيره، مع ذلك لم يفسر سبب حسم حكومته المسبق، قبل أي إطلاق ليد القانون، بأن معظم اللاجئين هم «اقتصاديون».
هكذا صارت الأزمة وخلافاتها هدية لأوربان. لن يتركها قبل استثمارها على أكمل وجه في زيادة شعبيته، مع مواصلته استفزاز العصبية الوطنية. النواة الصلبة لمعسكر الرافضين تضم أيضاً تشيكيا وسلوفاكيا وبولندا. مسؤول في إحداها، لم يستطع تقديم رد مقنع لتبرير موقفها، وقال، في حديث الى «السفير»، انه «حينما تعرضنا لأزمة وحرب كنا نلجأ الى الدول التي بجوارنا، ولم نكن نقطع مسافات مشابهة لنختار جماعيا دولة معينة». في لحظة دفاع منفلتة، قال انهم، كأوروبيين، «ليست لنا علاقة بالحرب السورية، لم نسبب الأزمة ولم نشعل الحرب»، قبل أن يسترك «لكن صحيح، بعض الدول منخرطة، قدمت سلاحا للمعارضة وبعضه صار بيد داعش، لكن دول الخليج متورطة تماماً ولم تتحمل مسؤولية أي لاجئين».
عناد معسكر الرافضين سيجعلهم يصعّدون خطاب التشكيك باللاجئين. التلطيخ والوصم. لولا مزاج التعاطف الشعبي حاليا، لكان زعماء اليمين في ذروة التشويه الآن. المحاججة بالخوف من تسلل عناصر «داعش» وأخواته، أسطوانة ترددها الولايات المتحدة أيضاً أمام منتقدي قلة استقبالها للاجئين. وثمة محاججات أخرى مرشحة للاستثمار، منها ما استبقته المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل سلفا، حين قالت، ردا على معارضيها: «أعتقد أن قيمنا في أوروبا قائمة على أساس الكرامة لكل فرد، من دون البدء في القول: لا نريد مسلمين نحن بلد مسيحي».
لكن هذا لم يمنع وجود أصوات محافظة، بدأت تروّج للتخويف. الحنان المفاجئ، المحسوب بدقة طبعاً، لرئيس وزراء بريطانيا لا يعكس مزاج كل حزبه «المحافظين». أحد ممثليه في البرلمان الأوروبي، جيفري فان أوردن، قال في نقاش انه لا يوافق على أن الأولوية يجب أن تكون حقوق الإنسان، بل «الأولوية لأمننا وتماسك مجتمعاتنا». وفّر على من يسمعه مهمة الترجمة، معلقاً ان «نعرف صعوبات الاندماج، فمعظم القادمين هم مسلمون». ليسوا قلة سياسية من يتساءلون لماذا يأتي «المسلمون» الى عند من يعتبرونهم «كفاراً»، والى بلاد يمقتون طريقتها في الحياة والحرية. لولا الخشية من موجة التعاطف الاخيرة، لكان ركام الخطابات العنصرية قد سد كل منافذ أوروبا لمواجهة طوفان اللجوء.
assafir.com
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه