إن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو الآتي: هل تستحق هذه الجماعات مزيداً من البحث، وهي التي كشفت عن نفسها أيما انكشاف في السنوات الأخيرة، وسال في تحليلها حبر غزير، بلغات عدة ومن قبل باحثين كثر؟ الإجابة هي نعم.
لم يحدث أن اهتم العالم العربي والإسلامي بقضية تشغل كل حركاته ومؤسساته في مختلف الميادين، مثلما تشغله أزمة الفكر التكفيري في السنوات الأخيرة إذ على ما يبدو بدأت تطغى حتى على الاهتمام بالقضية الفلسطينية. يخصص لها الأبحاث والدراسات والمؤتمرات لتدرس طبيعة هذه الظاهرة وتفشيها وما تثيره من حروب ودمار في البلاد العربية. وقيل الكثير فيها حتى اليوم.
ولكن يأتي مؤتمر "جماعات العنف التكفيري : الجذور، البنى والعوامل المؤثرة"، وهو من تنظيم من المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق ومركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي وبالتعاون مع المركز الاردني للدراسات، ليشكل مفصلا في هذه الدراسات في محاولة لتحديد مقولة قول علمي وبحثي دقيق حول الظاهرة، تبدأ من العنوان نفسه الذي استبعد الصفة الإسلامية عن جماعات التكفير.
على مدى يومين متواصلين، في اوتيل رامادا (بيروت)، ناقش في خمس جلسات متعاقبة كل ما يتعلق بظاهرة التكفير بدءا من جذورها التاريخية، ودلائل انعباثها من جديد والظروف الراهنة التي تساهم في تغذيتها، وعن طرائقها في التمظهر والتمدد، ولم تهمل إلى جانب ذلك سبل المواجهة والتحدي لمكافحتها، والجهات التي تقف خلفها وكيفية التعامل معها، وتميزت النقاشات بالعمق والصراحة بعيدا عن المواقف السياسية والايديولوجية المسبقة.
حضر المؤتمر حشد كبير من الشخصيات السياسية والفكرية والدبلوماسية والاعلامية وعدد من الباحثين المختصين بالحركات الاسلامية من لبنان والدول العربية وايران، بعد تقديم من محمد خليل من المركز الاستشاري، تحدث رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق الدكتور عبد الحليم فضل الله فقال: "إن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو الآتي: هل تستحق هذه الجماعات مزيداً من البحث، وهي التي كشفت عن نفسها أيما انكشاف في السنوات الأخيرة، وسال في تحليلها حبر غزير، بلغات عدة ومن قبل باحثين كثر؟ الإجابة هي نعم. فهناك حاجة ماسة لرصد التحولات المتسارعة التي مرت بها هذه الجماعات وترقب طفراتها الآتية، فهذا يزودنا من جهة بالمعرفة الضرورية لاحتوائها وإخماد نيرانها واستدراك مخاطرها، ويساعد من جهة أخرى على الاتفاق بشأن طبيعة ما ترتكبه من عنف وما تتسبب به من أزمات".
وكانت كلمة لرئيس مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي الشيخ محمد تقي سبحاني كلمة رأى فيها ان مشكلة التكفير الارهابي من أخطر ما تواجهه الأمة والعالم. ولفت الى عدد من المؤشرات الامنية جعلت من هؤلاء الارهابيين محوراً لاهتمامها، ومثلها اهتمام وسائل الاعلام العالمية، وايضاً في الاحاديث السياسية.
جلسات اليوم الأول : الخطاب والجذور
الجلسة الاولى كانت بعنوان ظاهرة العنف التكفيري: الخطاب والجذور برئاسة رئيس المركز الدولي للتواصل الاستاذ معن بشور فسأل عن إصرارنا على استعمال وصف التكفير لهذه الجماعات وهل هو الاستعمال السليم الذي سمح بتعبئة الطاقات لاخراج المعركة مع هؤلاء الى مسارها الصحيح؟ مشيرا الى تجذر ثقافة التكفير في حياتنا. وتحدث الباحث السعودي الدكتور بدر الابراهيم فأورد عدد من النقاط حول جذور هذه الجماعات وخطابها، ومنها العامل السياسي كسبب في ايجاد هذه الجماعات بالرغم من اقتصار التركيز على فهمهم على العامل الديني، لان ما تمارسه هو عنف سياسي ولاغراض سياسية. ورأى ان هذه الجماعات تاخذ من الديني ما يخدم استراتيجيتها السياسية.
قدم بعد ذلك الدكتور عبد الكريم زاهد مدير مركز دراسات جامعة الكوفة في العراق بحثه فتساءل من تكاثر ظواهر التكفير ولماذا تخلص العالم من ظاهرة الراديكالية الدينية وبقيت عندنا وقال: المشكلة في النص الديني، وفي التراث الديني وفي التراجع الحضاري الذي يسود العالمين العربي والاسلامي. وخلص الى دعوة المراكز الدينية الكبرى باعادة الفكر بالتراث الديني لخلق انسان معتدل متسامح.
وكانت الكلمة الختامية في هذه الجلسة للدكتور عبد الغني عماد (من لبنان) عن العوامل الاجتماعية والسياسية في نشوء ظاهرة التطرف الديني والتكفيري، واصفاً الموضوع بانه شديد التعقيد. وعرض لقضية الارهاب لدى المفكرين في الغرب وفي اظهارهم انها صناعة في الغرب وجزء من ترسانة انظمتهم التسلطية في التدخل في بلادنا. ولفت الى العنف التخويني عند السلطات وبذور العنف التكفيري لدى القوى غير الرسمية، والى تبادل اتهام الشيطنة في توصيف كل طرف للاخر. ولفت الى العلاقة بين ثالوث التخلف والتبعية والاستبداد بما يمنع اي اصلاح ولو تدريجي.
الجلسة الثانية كانت بعنوان "المؤثرات الاقليمية والدولية وعلاقتها ببروز العنف التكفيري" وترأسها رئيس المركز الاردني للدراسات والمعلومات بلال التل مقدماً بحثه عن العوامل الاقليمية عرض فيها لعوامل اغراق منطقتنا العربية بالعنف لصالح اسرائيل، محملاً اصحاب المخططات في العمل على رسم خرائط المنطقة واضعاف الدولة الوطنية، وفي تشويه صورة الاسلام على ايدي الجماعات التكفيرية. ثم تحدث الباحث الايراني الدكتور محمد مرندي فاشار الى ان ما حدث في تونس ومصر ايام الربيع العربي اثار الامال في المنطقة العربية لكنه تسبب في خوف كبير في الانظمة الغربية ولدى بعض انظمة عربية. وذكر ان الولايات المتحدة الاميركية دعمت عقيدة التطرف في افغانستان لقتال الشيوعية. ولاحقاً دعمت التيارات المتطرفة مثل داعش والقاعدة.
اما الدكتور جورج قرم فقد تناول في بحثه قضية "الجماعات التكفيرية والقوى الدولية: الرعاية تقاطع المصالح" برهن فيها ان القضية الاقليمية انما هي تماهي في اهداف اميركا والجماعات التكفيرية والقاضية في نشر الفوضى لضمان استمرار الهيمنة الاستعمارية والصهيونية، محملاً العرب مسوؤلية ما وصفه بديناميكية الفشل.
وتحدث الدكتور حازم عتلم (من مصر) فنفى وجود تمييز بين الجماعات التكفيرية وجماعات الارهاب التكفيري، فالاولى تتحول سريعاً الى جماعات للعنف التكفيري معتبراً ان البحث عن التعريف القانوني لهذه الجماعات يجب تجاوزها قانونا،ً واصفا الجماعات التكفيرية الاسلامية بانها تحمل نظريات قائمة على علو ما ينظرون له سواء في المجتمعات المحلية او الدولية، وأضاف: هذا العلو كان من شأنه ان انكروا كل شيء وكل ما يقال.
الجلسة الثالثة كانت تحت عنوان: البنى التنظيمية والمالية وانماط العمل العسكري والاجتماعي واليات الاستقطاب وتراسها الشيخ محمد زراقط. وتحدث فيها الباحث المصري الاستاذ مصطفى زهران حول النى والهياكل التنظيمية والمالية واليات الاستقطاب والباحث في الشؤون العسكرية سمير حسن عن البنى العسكرية واساليب القتال لجماعات العنف واما الباحث التونسي نزفل صديق فعرض لانخراط الفئات الشابة في جماعات العنف التكفيري من خلال دراسة حالتي تونس وليبيا وكانت المداخلة الاخيرة للزميل عبد الله سليمان علي تحت عنوان : العلاقات بين جماعات العنف بين التحالفات والنزاعات.
جلسات اليوم الثاني : الخطاب الإعلامي وتأثيره
في اليوم الثاني عقد المؤتمر المحور الرابع تحت عنوان : الإعلام وجماعات العنف التكفيري وترأس الجلسة ما قبل الاخيرة رئيس "مركز عصام فارس للدراسات" سفير لبنان الأسبق في واشنطن الدكتور عبد الله بو حبيب، فأشار الى "اهمية الاعلام في العصر الحالي وخطورته في آن لدى الجماعات الاسلامية التكفيرية". تحدث الدكتور محمد محسن عن مضمون الخطاب الاعلامي، فلفت الى أنه "عمل على البحث في استراتيجية داعش الاعلامية، والوسائل المستخدمة في أدوات التنظير لها"، موضحا أن داعش يعتمد سياسة مرحلتي النكاية والتمكين وما يجري بينهما هو إدارة التوحش". وأطلق على "مرحلة النكاية المرحلة الاعلامية لادارة التوحش، او العمليات النفسية كجزء من الدعاية السوداء والمتضمنة التضليل الاعلامي". وتطرق الى "ما يطلق عليه بالجيل الرابع من الحروب وهي مرحلة تقويض المجتمعات من الداخل، بعد أن عجزت الجيوش بطرق مباشرة أن تلحق الهزيمة بمجموعات صغيرة"، مشيرا الى أن "هذه المرحلة الرابعة من الحروب هي التي تخاض في العراق وسوريا بواسطة داعش". ووصف الحرب النفسية في مجال الاعلام ب"المعركة الاعلامية والهادفة الى خدمة صاحب الدعاية"، مشددا على ان "داعش إعتمد الفبركة والكذب والتضليل وغسل الادمغة وكي الوعي وهو أسلوب العدو الاسرائيلي وكل ذلك في اطار شل الخصم".
وتحدث الدكتور محمد علوش عن وسائل الاعلام العربية والغربية ومواقفها من التيارات التكفيرية، متسائلا عن "دور الاعلام ومسؤوليته في تمدد دور هذه التيارات، وهل يمكن إستخلاص استراتيجية اعلامية لدى هذه التيارات". ولفت الى "مشكلة تكمن في عدم وجود دراسات مسحية عن هذه التيارات تعتمد المسح السوسيولوجي، وذلك بسبب سرية هذه التيارات"، معتبرا ان "الاعلام في العالم ليس مستقلا عن اصحاب المصالح، لا بل انه ينحرف احيانا ليلعب دور البوق". وتخوف من "القدرات الاعلامية لهذه التيارات التكفيرية"، معلنا نقلا عن مراكز دراسات بحثية غربية ان "عمليات التجنيد لصالح هذه التيارات تتم عبر تطبيقات الهاتف المحمول". وخلص الى ان "الارهاب على خطورته قد يصبح محفزا لنا في إعتماد النقد العلمي للموروث الديني".
ترأس الشيخ ماهر حمود الجلسة الختامية، فاقترح على "القائمين على المركز اقامة مؤتمر خاص حول ظاهرة الخوارج في التاريخ"، متمنيا "عدم تحميل الاخوان المسلمين وخاصة مؤسسها الامام حسن البنا وسيد قطب القول بأنهم هم من قالوا بتكفير الآخر". وشدد على "ضرورة استمرار الحوار بين المذاهب والمختلفين فكريا لمواجهة داعش وإنهائه"، متسائلا عن "العمل الجاري في هذا السياق، وعن المشروع الاسلامي"، لافتا الى "محاصرة مشروع الجمهورية الاسلامية الايرانية كمشروع مقاوم من قبل الغرب والمذهبية معا مما يعيق قيامها بخطوات متقدمة". وسأل: "أين هو المشروع السني لمحاربة داعش وأمثاله؟".
وتحدث العميد المتقاعد الياس فرحات عن القلق في شخصية المسلم العربي، معتبرا أنه "ناجم عن عدد من الاسباب منها دور رجال الدين المتراوح بين السلبي والايجابي، لا سيما لجهة فوضى الفتاوى". وإذ سأل عن "أي دولة اسلامية نريد بناؤها؟ وأين الحالة الاسلامية والصحوة الاسلامية مما يجري من تطورات"، قال: "هذا الوضع سمح للتيارات التكفيرية بالظهور". وعزا جذور الارهاب الى: "تراجع الهوية الوطنية ثم المناهج الدراسية التعليمية، المواقف السياسية الملتبسة وخاصة في العراق في ظل الاحتلال الاميركي، الفساد وسوء الادارة مما أتاح لداعش السيطرة عل اجزاء من بغداد، اضافة الى سوء استخدام الشعارات وتفسيرها تاريخيا".
بدوره، تحدث الدكتور يحيى قاسم فرحات عن جذور التكفير، عارضا عددا من النقاط الاساسية والتي أدت الى تكفير الآخر، في حين ان "تكفير المجتمع هي فكرة حديثة انطلقت مع بعض التيارات". وركز الباحث محمد خواجه على تنظيم القاعدة ورؤيته العسكرية، مشيرا الى ان "القاعدة تكفر الآخر المختلف وتحض على إلغاء وجوده". وعرض مراحل نشوئها عسكريا وسياسيا من افغانستان الى العراق الى اليمن، مع تمييزه لاجيال طبعت مسيرة تنظيم القاعدة ومنها الجيل الثالث الحالي وطابعه عسكري والذي تجلى في ظهور داعش. ولفت الى ان "داعش تملك كفاءة قتالية عالية وليست مجرد ميليشيا"، داعيا الى "مواجهة داعش بوحدة الجبهات والتنسيق الميداني وتوسيع النخب المدربة في الجيوش النظامية لخوض حروب الشوارع، واعتماد المناورة والمشاغلة في ضرب هؤلاء، والتركيز على الجهد الاستخباري لخرق هذه التيارات التكفيرية".
من جهته، طالب الدكتور أحمد موصللي ب"إعادة صياغة المفهوم السني على أسس حديثة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا واجراء حركة اصلاحية على صعيد الفكر الاسلامي"، مشددا على "ضرورة ايجاد فكر اسلامي متنور لمواجهة التيارات التكفيرية الحالية". ورأى ان "داعش بوضعه الحالي سيستمر، وسيكون مفتاحا لتقسيم المنطقة الى دويلات مذهبية وطائفية"، مطالبا دول المنطقة ب"العمل على إيجاد تعايش اسلامي - اسلامي، وصيغة اقليمية للتعاون وخاصة مع ايران وإلا فإننا ذاهبون الى تشظي العالم الاسلامي، ونشوء جماعات متشددة اكثر من داعش".
وكانت مداخلات للدكتورة هلا رشيد أمون والدكتور طراد حمادة والدكتور نبيل سرور والاستاذ محمد وليد والدكتور نصر خلفي والدكتورة احلام بيضون والاستاذ خالد غزال والشيخ حسين غبريس. واختتم المؤتمر بكلمتين للشيخ محمد زراقط عن مركز الحضارة والدكتور عبد الحليم فضل الله، فكان تأكيد على "أاهمية المؤتمر وضرورة متابعة البحث والدراسة حول ظاهرة العنف التكفيري".