تتداول وسائل الإعلام الأميركية منذ أيام مسألة التحوُّل الإستراتيجي في سياسات اميركا الشرق اوسطية لصالح روسيا.
أمين أبوراشد
تتداول وسائل الإعلام الأميركية منذ أيام مسألة التحوُّل الإستراتيجي في سياسات اميركا الشرق اوسطية لصالح روسيا، والواقع أن وزير خارجية أميركا جون كيري أقرَّ في العام 2013 لنظيره الروسي سيرغي لافروف، أن أميركا قرَّرت تعديل سياستها في الشرق لكن المسألة تتطلب وقتاً وقال ما حرفيته: "إن أميركا ليست سيارة صغيرة لتستدير بسرعة بل هي شاحنة كبيرة ويلزمها بعض الوقت للإستدارة".
وكانت إطلالة لجون كيري من لندن مع نظيره البريطاني منذ أيام، وأعلن أن رحيل الأسد ليس المطلوب أن يكون فورياً - في تراجع ملفت عن تصريحات سابقة لأوباما - وطالب روسيا وإيران بالتدخُّل مع الأسد لإستئناف المفاوضات السياسية، فيما كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد سبقت كيري قبل أيام بخطاب عقلاني، ودَعَت للتعاون مع روسيا في سوريا لمكافحة الإرهاب، خاصة أنه مضى على أميركا أكثر من سنة على تحالفها مع 60 دولة لمحاربة الإرهاب في سوريا ولم تظهر أية نتائج على الأرض حتى الآن، وفق تساؤل الباحثة الروسية "إيرينا سابونينا" عن مدى جدية أميركا الفعلية لمحاربة هذا الإرهاب.
وبعد آخر محادثة هاتفية منذ أيام بين وزيري الدفاع الروسي والأميركي، تجلّى الموقف الروسي النهائي بمضاعفة الدعم العسكري لسوريا، مع استعدادٍ مُعلن لإرسال قوات برِّية روسية الى سوريا في حال طلبت سوريا ذلك، وإعلان الأخيرة على لسان وزير الخارجية وليد المعلم أن سوريا ستطلب دعماً عملانياً من الجيش الروسي لقواتها على الأرض إذا دعت الحاجة مستقبلاً، علماً بأن تأهيل المدارج في منطقة اللاذقية قد بُوشِر به، وطائرات "سوخوي" بدأت بالوصول، وطائرات الإستطلاع بدون طيار باشرت طلعاتها.
البعض من خبثاء الغرب حاولوا الإيقاع بين روسيا وإيران بعد الإعلان عن التدخُّل الروسي في سوريا، واعتباره ضربة إستباقية من روسيا كي لا تتفرَّد إيران بسوريا بعد النصر الذي حقَّقته في الملف النووي، لكن واقع الأمر مُغاير تماماً ويبرِّر التدخل الروسي المباشر، إذا صحَّت المعلومات أن أميركا كانت تسعى لتوجيه ضربة للنظام السوري في قلب دمشق من البوابة الجنوبية، لكن حجم الخسائر التي مُنيت بها قوات ما تسمَّى "عاصفة الجنوب" التابعة لغرفة عمَّان دعت قيادتها الى الإعلان عن انتهاء تلك العاصفة، في ما يُعتبر إقراراً نهائياً باستحالة الوصول الى دمشق، وبالتالي انحسار نهائي لدور غرفة العمليات المشتركة في محاولات إسقاط النظام عبر تهديد دمشق، وسارع الملك الأردني الى الترحيب بالتدخُّل الروسي، وعندما سُئل نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد منذ ثلاثة أيام عبر "الميادين" عن رأيه بتبدُّل سياسة الأردن تجاه النظام السوري، إبتسم وقال: اعتدنا على تقلُّبات النظام في الأردن ونُحَيي الجيش الأردني والعشائر الأردنية.
ما تريده إيران من سوريا مُغايرٌ لما ترمي إليه روسيا، لأن إيران تدعم دولة تُعتبر رأس حربةٍ في المواجهة مع الكيان الإسرائيلي، وإيران تدعم أيضاً من يواجه الإرهاب التكفيري، الذي إذا لم يتمّ تقليم مخالبه سواء في سوريا أوفي العراق فهو سوف يتمدَّد في كافة أنحاء الإقليم ويشكِّل خطراً عليها وهذا من حقِّها الذي لا جدال فيه، وتلتقي هنا مع روسيا في المصلحة المشتركة لمكافحة الإرهاب خاصة أن الآلاف من الإرهابيين في سوريا هم من الشيشان وجبال القوقاز، ويشكِّلون مع سائر الفصائل الإرهابية إضراراً بمصالح روسيا الإستراتيجية في سوريا خاصة إطلالتها على البحر المتوسط في حال سقوط النظام، وفي حال عودتهم سيتسبَّبون بمشاكل مصيرية على الإستقرار في الجمهوريات التابعة لروسيا الإتحادية وهنا بيت القصيد في الإنتفاضة الكبيرة للقيصر الروسي.
ومع هرولة كلٍّ من نتانياهو وأردوغان لزيارة موسكو بعد الإعلان عن الدخول الروسي المباشر على خط مكافحة الإرهاب، ومدى تأثير هذا الدخول على الدور المُخزي الذي يؤديه كلّ من الكيان الصهيوني والنظام التركي في إذكاء الإرهاب وإسقاط الأنظمة ورسم الدويلات المتناحرة، فإن ما يرمي إليه بوتين أبعد وأكبر من كل الحسابات الشرق أوسطية، ويدخل ضمن الإستراتيجية الجيو- سياسية التي يعتمدها في المواجهة مع أميركا وسياساتها، وقراره باستعادة ما خسره الإتحاد السوفياتي السابق.
منذ تولِّيه الحكم في روسيا بَدَت سياسة بوتين واضحة بمسألتين أساسيتين: الأولى داخلية ومفادها تحويل التأييد الشعبي الذي كان ملتفَّاً حول هالة الإتحاد السوفياتي الى الإيمان بروسيا الإتحادية، ومنع التأثير الخارجي على السياسة الداخلية، وحشد الشعب الروسي وراء الفكرة الوطنية، ومن جهة ثانية استعادة الوزن على المسرح الدولي بما يسمح لروسيا الحفاظ على مصالحها عبر البحار، وكسر الأحادية القطبية الأميركية والإستعاضة عن خسارة حلف وارسو الذي انهار بانهيار الإتحاد السوفياتي، وسعى الى حلفٍ جديد مع دول مجموعة "البريكيس" لمنع تفرُّد أميركا وحلف الناتو بالميدان الأوروبي والمتوسطي، مع ما تمتلكه بعض دول البريكس كالصين والهند والبرازيل من قدرات بشرية واقتصادية وعسكرية هائلة، وألحق ذلك بالحلف الأوراسي لتعزيز الدور الروسي في الجوار الإقليمي.
وإذا كانت لعبة "ليّ الذراع" التي مارستها أميركا مع روسيا في أوكرانيا، لم تمنع بوتين من ضمّ شبه جزيرة القُرم لأنها كانت بالأصل روسية، فإن العالم لم ينسَ الرسالة القوية التي وجَّهها بوتين الى أوروبا عندما التُقطت له صورة وهو يكتُب على أحد أنابيب الغاز الروسية المتَّجهة الى أوروبا: "إبدأوا بجمع الحطب للتدفئة"، في إشارة الى وقف ضخّ الغاز الى أوروبا عبر أوكرانيا إذا تمادى الأوروبيون في التدخُّل بمصالح روسيا في تلك المنطقة، خاصة أن ضمّ قاعدة "سيفاستوبول" ضرورة حيوية لروسيا لأنها المنفذ الوحيد لروسيا على البحر الأسود والمياه الدافئة.
لذلك، فإن الوجود الروسي في سوريا يأتي ضمن السياق نفسه مع وجود مصالح مشتركة، وحجم ونوعية العتاد الروسي في اللاذقية وقابليته للتوسع كمّاً ونوعاً تتجاوز بكثير مهمة محاربة الإرهاب، ومن شأن التحصُّن في اللاذقية وطرطوس على الساحل السوري أن يؤمن لروسيا إطلالة ممتازة على شرق البحر الأبيض المتوسط، وموقعاً لا يُضاهى في التأثير على موازين القوى بالمشرق العربي والمنطقة، مهما كان الحَرَد الأميركي ومحاولة فرض عقوبات مماثلة لتلك التي فرضتها أميركا خلال الأزمة الأوكرانية، وثمن المغامرة الروسية غير مكلفٍ قياساً للمكاسب، وموسكو من خلال تجربتها مع واشنطن خلال السنوات الماضية، تُدرك أن السياسة الأميركية ضعيفة في الشرق، وأن إدارة أوباما ليست في وارد التصعيد الآن، وتدل السوابق التاريخية في جورجيا والقرم وأوكرانيا على أن روسيا فرضت إرادتها العسكرية في ساحات المواجهة مع أميركا، والعقوبات الإقتصادية ليست بذات شأن وتأثير أمام المكاسب الجيو ـ سياسية التي تحققها روسيا بوتين العائدة الى الميدان الدولي بلهجة: الأمر لي ...