لم يكن هنالك من تفسير للمذبحة السعودية المقترفة في حق حجاج بيت الله الحرام(1987) سوى العجز الفاضح لمسؤولي ذلك البلد في تحمل مسؤولياتهم بدءاً من تقديرهم الأحمق للموقف، وصولاً إلى الإجرام في إصدار الأوامر بالقتل للناس العُزّل
أدرك السعوديون أنهم حلّوا في ورطة كبيرة، وأنهم قد ارتكبوا خطأ فادحاً في تقدير حساباتهم. ذلك أنّ مسيرة «البراءة من المشركين والمستكبرين» التي درج الإيرانيون منذ أعوام على تنظيمها في مكة والمدينة، كلّ موسم حج، قد انقلبت عصر ذلك اليوم إلى تظاهرة مفزعة الحجم، تنادي بـ«الموت لأميركا، والموت لإسرائيل»، وتطلب من المسلمين أن يتحدوا، وتهتف بحياة الخميني وترفع صوره في قلب مكة... وكان كل هذا الوضع كريهاً وبغيضاً وخطيراً ولا طاقة للسعوديين على بلعه أو التغاضي عنه! ولم يلبث الأمر طويلاً حتى صدرت أوامر حازمة لمسؤولي الأمن السعودي كي يفضّوا تظاهرة الحجاج الإيرانيين حالاً، وبشتى الوسائل حتى لو تطلبت المسألة إطلاق الرصاص عليهم.
فأصدر قائد «الحرس الوطني» أوامره إلى جنوده المصطفين وراء حواجزهم بأن يتجهَّزوا فوراً، ويلقموا أسلحتهم، وينتظروا إشارته. وبعد بضع دقائق ألقِيَ الأمر، فأطلق الجنود السعوديون نيران رشاشاتهم على مسيرة سلمية اشترك فيها أكثر من مئة ألف حاج أعزل، كانوا يسعون نحو بيت الله الحَرام في مكة المكرّمة، عصرَ يوم الجمعة السادس من ذي الحجة 1407 هـ (31 تموز 1987)... أحد أيام الأشهر الحُرُم!
في اليوم التالي، السبت 1 آب 1987، صدر بيان رسمي من وزارة الداخلية السعودية كشف أنّ عدد الوفيات، نتيجة «الأحداث الغوغائية» التي قام بها الحجاج الإيرانيون في مكة المكرّمة، قد بلغ 402 من الأشخاص، كانوا على النحو التالي: 85 حاجاً سعودياً (ادعى البيان أنّ بينهم أشخاص من رجال الأمن، لكنه لم يحدّد أبداً عددَ أولئك الأخيرين ولا أسماءهم)، و42 حاجاً من جنسيات مختلفة، و275 حاجاً إيرانياً. بينما بلغ عدد المصابين نحو 649 جريحاً، من بينهم: 145 من السعوديين، و201 من حجاج بيت الله، و303 من الإيرانيين.
وأضاف البيان السعودي أنّ الخسائر المادية تمثلت في إحراق ثلاث سيارات، وثلاث دراجات تابعة لرجال الأمن. وشدّد البيان على أنّ حكومة "خادم الحرمين" رفضت رفضاً باتاً استقبال وفد تحقيق إيراني في أحداث الشغب التي حصلت في مكة المكرمة لأنّ في ذلك «مساساً بأمن المملكة وسيادتها».
وأمّا مذيع الأخبار في التلفزيون السعودي الرسمي فقد زعم أنّ الحجاج الإيرانيين هم الذين بادروا بمهاجمة رجال الأمن بالعصي والمدى والحجارة. ثمّ عرض التلفزيون السعودي مجموعة فيديوات قصيرة (مدتها الإجمالية أقل من 15 دقيقة، وغلب عليها المونتاج الواضح).
وقد كرّر الفيديو السعودي لقطة قصيرة واحدة لأكثر من عشر مرات، وكان محتوى تلك اللقطة أنّ بعض الحجاج الإيرانيين أشعلوا النار في دراجة نارية ووضعوها تحت إحدى السيارات لتشتعل هي الأخرى، بعد أن ساد مسيرتهم هرج ومرج إثر إطلاق الرصاص عليهم. لقد كانت المذبحة التي ارتكبتها حكومة آل سعود شنيعة وغير مُبرّرة ولا معقولة.
والمفارقة أنها حصلت في يوم من أيام الحج الذي لا يحلّ فيه للمسلمين سفك دم الحيوانات والطيور! وأغرب من ذلك كله، هو أنّ المسؤولين السعوديين كانوا قد قبلوا بالفعل أن ينظم الإيرانيون تلك المسيرة المزمعة، كما في كل عام سبق.
ولقد اتفق المضيفون وضيوفهم على تفاصيل المسيرة كافة: موعدها بُعيد صلاة عصر الجمعة قبل يومين اثنين من يوم التروية... ومكان انطلاقها من مساكن بعثة الحج الإيرانية في حي العزيزية في مكة، ومسارها في شارع صدقي، مروراً إلى شارع الحَرم... ومكان تفرُّقها في إحدى الساحات التي تبعد عن المسجد الحرام قرابة نصف كيلومتر. وشعاراتها المنادية بوحدة المسلمين والبراءة من المشركين... ثمّ إنّ الطرفين التزما بكل ما اتفقا عليه أمام شاهد عدل رضيا معاً به، هو السيد شهيد شهيدي وزير الأوقاف الباكستاني (وكان يشغل في ذلك الموسم من الحج منصب المنسق بين بعثات الحج المختلفة والسلطات السعودية)... فما الذي - حينئذ- عَدَا ممّا بَدَا؟!
لم يكن هنالك من تفسير للمذبحة السعودية المقترفة في حق حجاج بيت الله الحرام سوى العجز الفاضح لمسؤولي ذلك البلد في تحمل مسؤولياتهم التي أناطوها لأنفسهم. بدءاً من تقديرهم الأحمق للموقف، مروراً بارتباكهم الفادح في التعامل مع الحدث، وصولاً إلى الإجرام في إصدار الأوامر بالقتل العمد لحشود من الناس العُزّل، وانتهاءً بالتخبط في تبرير ما حصل حتى وصل الحال بوزير الداخلية السعودي الأمير نايف كي يقول، في ندوة صحفية، إنّ المقتولين قتلوا أنفسهم بأنفسهم دهسا تحت سيقان بعضهم البعض! ثمّ زاد الأمير نايف إلى سرديته معلومات جديدة، فذكر أنّ الإيرانيين كانوا دوماً يخططون لإفساد موسم الحج، وأنهم في العام السابق (1986) جلبوا في حقائبهم متفجرات إلى مكة.
لكنّ السلطات السعودية التي اكتشفت يومها أمر هذه الواقعة، أبت أن تكشفها للعلن، حرصاً على الستر! ولقد كان عجيباً حقاً، تذكر السعوديين لـ«مؤامرة إيرانية خطيرة» تمس أمن المملكة، بعد عام كامل من «حدوثها».
وأعجب من ذلك «ستر» السعوديين على تلك «الفضيحة الإيرانية»، وعدم تبليغ أحد عنها! ثمّ إنّ تداعيات مذبحة الحج في مكة سريعاً ما بلغت مرحلة الثأر والانتقام.
فلقد ردّ متظاهرون إيرانيون في طهران، بعد يوم واحد من مقتلة حجاجهم، فأحرقوا السفارة السعودية في إيران. وشيئاً فشيئاً تصاعدت حملات عنيفة من الحرب الإعلامية بين البلدين اشترك فيها صحافيون وساسة ورجال دين... وكان موقف السعوديين ومن ناصرهم أنّ وزر ما حصل في مكة يقع على الإيرانيين؛ ذلك لأنهم حوّلوا موسم عبادة «لا رفث ولا فسوق ولا جدال» فيه، إلى موسم تظاهرات ومشاحنات ودعاية سياسية وإرباك للأمن والسلام في البلد الحرام.
وأمّا الإيرانيون فكان موقفهم أنّ الغاية الإلهية من الحج لم تكن قطّ مجرد سعي وطواف ورمي حصى وتقبيل حجر... لا، بل إنّ غاية الحج أبعد من كل ذلك، فهو المؤتمر الأكبر الذي يتلاقى فيه المسلمون كي يبحثوا قضاياهم، وليتعاونوا في ما بينهم ضد المستكبرين والظالمين. وبهذا المعنى يكون الحج موسماً سياسياً بامتياز.
ولا يصح أبداً أن تغيَّب السياسة عنه، ففي ذلك إفراغ لروحه، وإبطال لمضمونه، وتدليس لغاياته الكبرى. ولم تخمد الحوادث بعد مذبحة مكة، بل إنها تشنجت إلى حدّ دفع بالإمام الخميني لكي يصدر فتوى يعلّق بها رحلات الحج إلى البقاع المقدسة «المحتلة» من طرف آل سعود حتى يفرّج الله. ولقد دام ذلك التعليق ثلاث سنوات لم يطأ فيها الإيرانيون أرض مكة والمدينة.
وفي المقابل قطع السعوديون علاقاتهم الدبلوماسية مع طهران، وقرروا تقليص عدد من يسمحون لهم بالحج من الإيرانيين إلى الثلثين. لكنّ كل تلك الإجراءات لم تشفِ غيظ السعوديين، فظلوا ينتظرون فرصة لينالوا من خصومهم. حجاج كويتيون في قبضة قطاع الرؤوس في 10 تموز 1989، وقع انفجاران منفصلان في مكة، إبّان موسم حج سنة 1410هـ، ونتج عنهما وفاة شخص باكستاني، وإصابة 15 آخرين بجروح طفيفة.
وفي اليوم نفسه، ألقت الشرطة السعودية القبض على 29 حاجاً كويتياً (شيعياً). وبقي أولئك الحجاج محتجزين في سجون وزارة الداخلية السعودية مدّة سبعين يوماً، فلم يعلم أحد بمصيرهم. ثمّ حدث أن ظهر 14 واحداً منهم، مساء يوم الأربعاء 20 أيلول 1989، «ضيوفاً رئيسيين» في نشرة أخبار التاسعة في التلفزيون الرسمي السعودي. وكان واضحاً من الكدمات على وجوه «ضيوف» التلفزيون السعودي أنهم قد «أكرِمَت وفادتهم» جيداً لدى الأمير نايف.
ولقد ظهر الكويتيون على الشاشة مذعورين، وكانت عباراتهم مرتبكة، ونظراتهم ذاهلة... لكنهم جميعا أقرّوا للمشاهدين أنهم ينتمون إلى «الديانة الشيعية» (كذا)، وأنهم تلقوا تعليمات لتدبير تفجيرات في الحرم المكي، من قبل الكويتي محمد باقر المهري، ودبلوماسييْن إيرانييِِْن يعملان في السفارة الإيرانية بالكويت، وأنهم قاموا بتسلّم متفجرات من نوع «تي. ان. تي» من الباب الخلفي للسفارة الإيرانية في الكويت، وأنهم نقلوها إلى داخل السعودية، وزرعوها في مكة، وفجروها في موعد الحج، لكي يظهروا للعالم عجزَ السعودية الأمني والتنظيمي، وأنها لا تستطيع إدارة الشعائر وحماية الحجاج.
لكنّ رواية المتهمين المذعورين في التلفزيون السعودي أوحت لكثير من المشاهدين، وكأنّ يَداً مَا غليظة قد لقنهم ما قالوه. وزادت الشكوكَ طريقةُ الإخراج الرديئة التي كثر فيها التقطيع (ما دلّ على حجم التركيب في الشريط).
وأمّا العارفون بدقائق الأمور، فقد أيقنوا أنّ هذه «الاعترافات الخطيرة» المعروضة للملأ لم تكن دقيقة، ولا منطقية، ولا مقنعة... ومثلاً، فقد كانت قصة «الباب الخلفي للسفارة الإيرانية» التي ردّد ثلاثة متهمين أنهم تسلموا منه المتفجرات، قصة مفبركة بالكامل.. فلم يكن هنالك أي باب خلفي للسفارة الإيرانية الكائنة في منطقة بنيد القار بشارع الاستقلال في مدينة الكويت، وهي لا تزال موجودة إلى اليوم! كما أنّ اسم أحد الدبلوماسييْن الإيرانيين الذيْن يُزعم أنه قام بتزويد الكويتيين بالمتفجرات، جاء متضارباً في أقوال المتهمين، فهو مرّة يدعى محمد رضا غلام، وفي مرة أخرى يقولون إنه محمد رضا غنيم، وفي رواية ثالثة قيل إنه محمد علي غنيم!
في صباح الخميس 21 أيلول 1989، اليوم التالي لـ«اعترافات» الحجاج الكويتيين في التلفزيون السعودي، عُرضَ المتهمون على محكمة الشريعة الوهابية التي نظر قضاتها بطريقة سرية، في أمر أولئك الشيعة. وبعد جلسة واحدة، لا غير، صدر الحكم بقطع رؤوس ستة عشر حاجاً كويتياً، وسجن أربعة منهم عشرين سنة مع جلد كل واحد فيهم 1500 جلدة، وتبرئة تسعة آخرين لم يثبت لقضاة الشرع ما قد يدينهم. ومن الغريب أنه لم يحضر في تلك الجلسة ممثلون من السفارة الكويتية (كما هي العادة مع المتهمين الغربيين حين تقاضِي بعضَهم المحاكمُ السعودية).
ولم يسمح القضاة للمتهمين بتعيين محامين عنهم، ولم يسمحوا بحضور شهود من ذويهم (أصلاً، لم يُسمح لذويهم بمعرفة مصير أبنائهم: لا بعد القبض عليهم، ولا أثناء التحقيق معهم، ولا عند محاكمتهم، ولم يشهد أحد من الأقارب كيفية إعدامهم، ولم يسترجع أحد جثة ابنه إلى اليوم، ولم يتسلم حتى أغراضه الخاصة!).
لكنّ التلفزيون السعودي الرسمي بشّر متابعيه في نشرة أخبار التاسعة، يوم الخميس 21 أيلول 1989، أنه «قد تمّ تنفيذ القصاص بالفئة الباغية الخارجة على الدين الإسلامي التي عاثت الفساد في مكة المكرمة، في الساعة الحادية عشر من ظهر ذلك اليوم». وبعد شهر من إعدام السعودية للحجاج الكويتيين، قررت السلطات الكويتية اعتقال أربعة أشخاص ورد ذكرهم في قضية أحداث مكة 1989. وكان أحد أولئك المعتقلين هو محمد باقر المهري (الذي زعمت السعودية أنه الرأس المدبر لمؤامرة الكويتيين على أمن المملكة).
ولقد وُجهت للمتهم المهري تهم متنوعة، أهمها: محاولة قلب نظام الحكم في الكويت، والضلوع بتفجيرات مكة المكرمة. ولكنّ محكمة أمن الدولة الكويتية أصدرت حكمها البات في أيار 1990، وقررت أنّ محمد باقر المهري بري، من جميع التهم المنسوبة إليه، حجاج مصريون (مشركون) يحملون هُبَل إلى الكعبة الحقيقة أنّ معاناة الحجاج، منذ أن استحوذ الوهابيون السعوديون على الحرمين الشريفين، في أواسط العشرينيات من القرن الماضي، لم تقتصر على المسلمين الشيعة فقط.
فكلما تأزمت علاقة آل سعود مع إحدى الدول في العالم الإسلامي إلاّ وأشهروا بوجه تلك الدولة "المارقة" وشعبها سلاحَ الحرمان من الحج والعمرة. ولعلّ أكثر من عانى من «فَرَمان الحِرْمان» من زيارة بيت الله الحرام، هو الشعب اليمني، فلقد فرض عليه آل سعود المنع من الحج والعمرة مرّتين. وكان المنع الأول لليمنيين من الحج، في الستينيات (إبان الأزمة السعودية مع الرئيس السلال)، ثمّ تكرر المنع هذه السنة (إبان الأزمة مع الحوثيين «أنصار الله»). وأمّا الشعب السوري فقد حظي بحصته من الحرمان من بيت الله، بعد نشوب الأزمة الحادثة في البلد منذ عام 2011.
ومنذ ذلك الوقت، يغلق السعوديون سفارتهم في دمشق، مانعين الحجاج والمعتمرين الراغبين في إكمال فرائض دينهم، من الحصول على تأشيرات السفر. وأمّا الليبيون فقد جاء دورهم في التسعينيات، وذلك حين منعت المملكة السعودية على الطائرات الليبية الناقلة للحجاج الدخولَ إلى أجوائها، تنفيذاً للحظر الذي أقامه مجلس الأمن على الجماهيرية الليبية، في أعقاب أزمة لوكربي.
وأمّا العراقيون، بعد حرب الخليج الثانية، فقد كانوا أسعد حظاً من الليبيين، لأنّ المنافذ البرية السعودية مع العراق تسامحت مع بعض حافلات الحج.
ولم يبخل آل سعود على المصريين أبداً، ففي أعقاب الجفاء الذي حصل بين الملك فيصل والرئيس عبد الناصر، فرض العاهل السعودي على المصريين أن يسددوا ثمن تأشيرات الحج والعمرة بالعملة الصعبة، وليس بالعملة المصرية المحلية، كما جرت العادة.
وفي التسعين سنة الماضية، أغلق آل سعود أبواب بيت الله الحرام لفترات من الزمن في وجوه المصريين واليمنيين والسوريين والليبيين والعراقيين والإيرانيين... لكأنّ الكعبة المشرّفة صارت «بتاعة أمهم»، كما كتب محتجون مصريون على جدار السفارة السعودية في القاهرة، في 28 نيسان 2012، احتجاجاً على الكيد في استهداف المحامي والناشط المصري أحمد الجيزاوي، أثناء وصوله مع زوجته إلى البقاع المقدسة لأداء العمرة، فاعتقل في مطار جدة، بتهمة جهزت له سلفاً، وهي «العيب في الذات الملكية السعودية»، وعقوبتها السجن مع الجلد أمام الملأ! على أنّ مشاكل المصريين في الحج إلى السعودية، لم تطرأ مع الجيزاوي، وإنما بدأت قبله بكثير.
ففي مساء 22 حزيران 1926، وكان يوم عيد الأضحى، تعرضت بعثة الحج المصرية إلى كمين دبره مسلحون وهابيون يتبعون لعبد العزيز آل سعود (عُرفوا في ذلك العصر باسم «إخوان من طاع الله»). وحصل ذلك الكمين المسلح في منى، بعد وقفة عرفة، حيث هاجم الوهابيون المَحْمَلَ الذي يحتوي الكسوة التي ترسلها مصر بسلام هديةً إلى الكعبة، منذ سبعة قرون متواصلة. لكنّ الوهابيين لم يعجبهم شكل المحمل، وقد كان على هيئة هيكل خشبي توضع فوقه كسوة الكعبة، فحاولوا حرقه، والاعتداء بالحجارة على حراسه.
وأخذ الوهابيون يصرخون غاضبين، وهم يرجمون كسوة الكعبة الحريرية المطرزة بالذهب والفضة: «هُبَل... هُبَل... جاء الكفار بهُبل!» (هُبَل هو اسم كبير الآلهة في الجاهلية). وتسبب الهجوم الوهابي في جرح ضابط وثلاثة جنود مصريين، ما دفع بأمير الحج المصري اللواء محمود عزمي باشا لإصدار أوامره إلى جنوده بالتصدي لأولئك المسلحين المهاجمين، فقتلوا وجرحوا منهم أفراداً كثيرين، حتى تفرّق شملهم.
وبدا أنّ أمن الحجاج المصريين صار في خطر بعد أن سُفكت الدماء بينهم وبين الوهابيين المتعصبين الذين باتوا يزمعون الثأر من «المشركين». وهكذا قرّر أمير الحج أن يقفل راجعاً إلى وطنه، قاطعاً شعائر الحج، خوفاً من مذبحة قد تلحق بالحجاج المصريين. وفعلاً فقد تعقب الوهابيون بعثة الحجيج المصرية، وتربصوا بهم في مضيق جبلي قرب جدّة، حيث دارت اشتباكات جديدة بين جنود الحراسة المصريين وبين البدو النجديين، فكانت الغلبة للمدافع المصرية.
وكان من نتائج هذه الانتهاكات الوهابية ضد الحجاج أن قطعت الحكومة المصرية علاقاتها بعبد العزيز آل سعود، وسحبت اعترافها بشرعية مُلكه على الحجاز. وأغلقت قنصليتها في جدة، وكذلك الوكالة السعودية (القنصلية) التي أنشأت حديثاً في القاهرة في كانون الثاني 1926. وامتنعت السلطات المصرية عن إرسال الحجاج إلى البقاع المقدسة مدّة عشر سنوات كاملة، مع تحذير من يذهب منهم بمفرده بأنها لن تتحمّل مسؤولية سلامته الشخصية، في بلاد يحتلها الوهابيون.
الهوامش:
(1) قدّم وزير الأوقاف الباكستاني شهيد شهيدي، لصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية (عدد 2 آب 1987)، شهادته عن الأحداث الدموية التي حصلت في مكة، في موسم حج عام 1407 هـ. ولقد نقضت شهادة المسؤول الباكستاني الرواية الرسمية للحكومة السعودية التي ادعت أنّ الإيرانيين لم ينسقوا مسيرتهم معها. وقال شهيدي إنه بنفسه حمل مطلب بعثة الحج الإيرانية للسلطات السعودية. وأن السعوديين لم يجدوا مانعاً في قيام المسيرة التي دأب الحجاج الإيرانيون على إقامتها بسلام في مواسم الحج منذ 1981. وكشف شهيدي أنّ اتفاقاً جرى بين الإيرانيين والسعوديين لكي تنفض المسيرة قبل مسافة 500 متر من الحرم المكي. لكنّ السعوديين لم يلتزموا بذلك الاتفاق، لمّا رأوا ضخامة التظاهرة، والعدد الهائل من الحجاج المسلمين الذين انضموا لها. وحاولت حواجز رجال الأمن السعودي فض المسيرة في شارع صدقي الذي يبعد عن الحرم زهاء خمسة كيلومترات. فرفض قائد المسيرة محمد موسوي خوئيني هه أن ينفض الناس قبل الوصول إلى المكان المتفق عليه سابقاً، وطلب منهم أن يكملوا طريقهم، عند ذلك أقدم السعوديون على رمي الحجاج بالرصاص.
(2) زعم وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز أنّ جنوده لم يطلقوا الرصاص أبداً على الحجاج الإيرانيين، وأنّ أولئك قضوا على أنفسهم بأنفسهم دهساً تحت سيقان بعضهم بعضاً. ولكنّ السلطات الإيرانية عرضت أمام وسائل الإعلام العالمية جثث الحجاج بعد وصول نعوشهم من السعودية. كما أنها سمحت للمراسلين الأجانب في طهران بإجراء لقاءات مع الحجاج المصابين، والاطلاع المباشر على نوعية جروحهم. وكان ذلك تكذيباً للرواية السعودية.
(3) لم يكن تعليق الإمام الخميني لرحلات الحج إلى مكة والمدينة سابقة في العلاقات بين البلدين، فلقد أفتى علماء الدين في إيران عام 1927، بعدم السفر للحج في البقاع المقدسة وذلك احتجاجاً على التدمير الوهابي لمراقد الأئمة في البقيع. وأمّا الحكومة الإيرانية وقتها فقد رفضت الاعتراف بشرعية مُلك ابن سعود، لمدّة أعوام.
(4) أعجَبُ ما في قصة الحجاج الكويتيين الذين اتهمتهم السلطات السعودية بأنهم دبروا تفجير الحرم المكي، هو أن بعض أولئك الحجاج (وفيهما اثنان أدينا وأعدِما) قد قدموا إلى البقاع المقدسة مع زوجاتهم وأطفالهم! وأمّا الأربعة الذين حكمت عليهم محكمة الشرع بالسجن عشرين سنة عقاباً على «جرمهم الخطير»، فقد عادت السلطات السعودية وأفرجت عنهم، في أيار 1991، بعد أقل من عامين من سجنهم، وبعد تبدل الظروف، وانفراج العلاقات مع إيران إثر حرب الخليج الثانية. وكان ضمن المفرج عنهم في تلك القضية واحد صار نائباً في مجلس الأمة الكويتي (عدنان سيد عبد الصمد)، وآخر انتخب عضواً في المجلس البلدي للكويت (حبيب السلمان).
(5) دفع الحرمان السعودي لليبيين من الحج إلى بيت الله الحرام، العقيد معمر القذافي إلى اتخاذ قرار أخرق، فبعث في يوم 30 أيار 1993 بعض حجاجه الممنوعين من زيارة مكة والمدينة، إلى القدس للحج إلى المسجد الأقصى، كبديل من المسجد النبوي والمسجد الحرام. ولقد سُرّت «إسرائيل» بالحجاج الليبيين الوافدين إليها، واستقبلتهم ببالغ الارتياح.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه