"العملية الروسية قد تبدو مفاجئة للبعض، لكن التحضير لها بدأ منذ عدة أشهر، حيث تم تبادل المعلومات فيما بيننا عن أماكن إنتشار الإرهابيين"، هذا ما صرَّح به وزير الخارجية السوري وليد المعلم
أمين أبوراشد
"العملية الروسية قد تبدو مفاجئة للبعض، لكن التحضير لها بدأ منذ عدة أشهر، حيث تم تبادل المعلومات فيما بيننا عن أماكن إنتشار الإرهابيين"، هذا ما صرَّح به وزير الخارجية السوري وليد المعلم."طلبنا من أميركا تزويدنا بمعلومات عن مواقع تواجد ما تسمِّيها معارضة معتدلة، لنعرف ما هو دورها ولا مانع لدينا من التواصل معها إذا كانت موجودة"، هذا ما صرح به وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف يوم أمس.
وقد يكون الردّ الأكثر واقعية الذي عرَّى أميركا والغرب والأدوات الإقليمية بعد الدخول الروسي في الأجواء السورية، ما قاله رئيس قسم الشؤون الدولية في جريدة الأهرام المصرية أسامة الدليل، في ردِّه على اعتراضات وتحفظات بعض دول التحالف نتيجة قصف الطائرات الروسية بعض المواقع غير التابعة لداعش: طالما أنكم تعرفون المواقع التي تتواجد فيها داعش وتلك التي يتواجد فيها الآخرون، ماذا فعلتم خلال أكثر من سنة في مكافحة الإرهاب المتمثِّل بالنسبة إليكم بتنظيم داعش، وها هم الروس أنجزوا خلال أربعة أيام ما لم تنجزه ستون دولة تحت ستار التحالف على مدى ثلاثة عشر شهراً؟
وما يعزَّز هذا الرأي علناً، أن رئيس الوزراء البريطاني دايفد كاميرون حدَّد بالأرقام، أن من بين كل عشرين طلعة للطائرات الروسية فإن طلعة واحدة تستهدف داعش، بمعنى أن لدى "التحالف المزعوم لمكافحة الإرهاب" باعتراف أحد أركانه، تفاصيل بالنقاط المحدَّدة لتوزيع القوى على الأرض السورية، لدرجة أن طائرة بريطانية قتلت إثنين من الإرهابيين البريطانيين العاملين ضمن صفوف داعش عندما قررت بريطانيا تصفيتهما، وأن ليس هناك من نوايا لضرب التجمعات الإرهابية بل الضرب بها، وفق ما تقتضيه لعبة إسقاط النظام السوري.
وليست روسيا بحاجة الى تبرير تدخُّلها في سوريا ضمن تحالفٍ جدِّي لمكافحة الإرهاب يضمُّها الى جانب سوريا مع إيران والعراق، طالما أن الرئيس بوتين أعلن أن تدخُّله يأتي تحت سقف القانون الدولي، وبناء لطلب الدولة صاحبة الشأن التي يعتبر أن سقوطها ممنوع، وأنه ينوي القضاء على الإرهاب حتى ولو وصلت الحرب الى شوارع موسكو، إضافة الى أن رئيس وزرائه ديمتري مدفيديف كان بمنتهى الصراحة عندما أكَّد بقوله: نُحارب الإرهاب في الخارج كي لا نحاربه على أرضنا"، في إشارة خاصة الى الإرهابيين القادمين الى سوريا من الشيشان وطاجيكستان ومناطق القوقاز، إضافة الى جماعات من الإيغور والصينيين، ونالت روسيا بذلك صكَّ براءة في حقها بالدفاع عن نفسها حيث يتواجد الإرهاب سواء في سوريا أو العراق وبدعمٍ صيني، وليس من حق أميركا والغرب والأدوات الإقليمية مساءلة روسيا عن مواقع ضرباتها، طالما أن الرئيس بوتين يعتبر كل من يحمل السلاح بوجه الجيش السوري هو هدف، وكما قال المستشار الروسي "ديمتري فسكيف": ليس من شأن روسيا التمييز من الجو بين من هو معارضة إرهابية أو معارضة "معتدلة" بالنسبة للأميركيين، طالما أن الكلّ مسلَّح في مواجهة الدولة السورية، ويهدِّد المصالح الروسية على شواطىء المتوسط.
دخلت روسيا في الوقت الذي بات فيه الكلّ مرهقاً: أميركا لعِبت منذ أسابيع ورقة أخيرة من خلال أخطر هجوم من الجنوب كان يستهدف دمشق برعاية "غرفة عمَّان" لإسقاط الأسد من بوابة العاصمة، وعندما فشِل الهجوم وترك الإرهابيون مئات القتلى في أرض المعركة أُعلِن عن انتهاء مهام "عاصفة الجنوب" وفشل تحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها تلك الغرفة، وقد كانت السعودية ومعها قطر من أكثر دافعي أثمان انهيار تلك الغرفة التي جمعت طليعة الحاقدين على سوريا ومحور المقاومة، وأن انكفاء عاصفة الجنوب عن دمشق، عزز من معنويات الجيش السوري في مواجهة إرهابيي "الغوطتين" وإبعاد الخطر عن دمشق نهائياً.
تركيا لعبت آخر ورقتين، أولهما التركيز على استحداث منطقة عازلة في الشمال السوري عبر أشرس المعارك التي دعمتها في أدلب ومؤخراً في الفوعة وكفريا، وكان الإعتماد فيها على التركمان بشكلٍ خاص، لأن هناك وعداً تركيا صريحاً بإقامة دولة تركمانية تُلغي تواجد الأكراد بالشمال السوري وتمتد من إدلب وصولاً لمنبج ، بحيث تكون موطناً للتركمان ومعهم المعارضون اللاجئون في تركيا، وعندما خسرت تركيا الورقة الأولى لجأت الى إفلات اللاجئين لديها نحو أوروبا عبر اليونان في محاولة انتقامية من التلكؤ الأوروبي والأميركي بالإستجابة لمطالبها في إقامة منطقة عازلة تحميها من الأكراد وتعزلها عن دولة تحت سلطة الأسد.
وإذا كان أردوغان قد استخدم ورقة اللاجئين لخنق أوروبا لأنها عجِزَت أو أحجمت عن المساهمة في إقامة منطقة عازلة، وسافر الى بروكسل صباح اليوم بناء لطلب الإتحاد الأوروبي لقبض مساعدات إيواء النازحين السوريين ووقف تدفُّقهم الى الدول الأوروبية، فإن بوتين كان الأسرع والأقدر، لأن موسكو كانت تنظر في الآونة الاخيرة بجدّية إلى احتمال أن تُنشئ تركيا بالتواطؤ مع واشنطن والأوروبيين منطقة عازلة في شمال سوريا، وذلك تحت ذريعة تجميع النازحين السوريين في هذه المنطقة مما يؤمّن حلّاً لقضيتهم داخل سوريا، ويمنع هجرتهم الى أوروبا، وباتت المسألة هاجساً روسياً له الأولوية في المعالجة، لأن قيام المنطقة العازلة والآمنة المحظورة جواً وبراً في وجه أيّ عمل عسكري، ستستغلّه "داعش" والمنظمات الارهابية للتسلل اليها والاحتماء بها، وحينها سيصبح من الصعب على موسكو التدخّل عسكرياً لاجتثاث هذه الجماعات المتطرفة ومن بينها الجماعات القادمة من الشيشان والقوقاز والجوار الروسي، لأنّ تدخل روسيا حينها سيعني اصطدامها بمنطقة محمية دولياً في سوريا، خاصة أن احتمالات خرق الأجواء التركية من الطائرات الروسية الذي تكرر أمس مرَّتين، قد يتكرَّر مستقبلاً، سواء نتيجة خطأ ملاحي أو "تلميح روسي طائر" بأن استمرار التدخُّل التركي في دعم الإرهاب قد يجرّ الى حرب معها أو على الأقل يوقف العمل باتفاقيات الغاز بين البلدين.
أسباب كثيرة أملت على روسيا نزولها المفاجىء والسريع إلى الميدان السوري، ونذكر تصريح نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الأخير، أن أميركا هي من صنعت داعش وموَّلتها الدول الخليجية وفي طليعتها قطر والسعودية، وتُديرها تركيا بحُكم الجوار مع سوريا للقضاء على الأسد، وروسيا لم تهادن في مسألة دعم دمشق والأسد، وإذا لم تأتِ لتجتث الإرهاب في سوريا ، فإنه واصل إلى داخلها لا محالة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنها بعد خديعة الغرب لها في ليبيا، لم يعد من الجائز المجاذفة بآخر موطىء قدم في المياه الدافئة المتوسطية الذي هو الساحل السوري، ولو خسرت قواعدها في سوريا لاختنقت وانحصرت في سيبيريا والقوقاز، وتُكمل أميركا الطوق عليها خاصة بعد الأزمة الأوكرانية.
بقيت مسألة بالغة الأهمية، أن البعض يرغب التشبيه بين وضع روسيا في سوريا وبين نكستها في أفغانستان، لكن لا مجال للمقارنة نتيجة الإختلاف في الظروف وطبيعة الشعب والمعاناة الإنسانية وحقد الشعب السوري على إرهابٍ ارتكب كل الفظائع، بدليل أنه عند هروب "داعش" من بعض مناطق شرق سوريا الى العراق خوفا من الضربات الروسية، هلل المواطنون السوريون فرحاً على وقع ترداد اللعنات لتنظيم "داعش"، وبدا المشهد كمن يخرج من معاناة الموت اليومي الى الحياة، وهذا ما شجَّع المواطنين من الخلايا النائمة الداعمة للدولة الى مضاعفة أنشطتهم وتقديم معلومات عن تواجد المسلحين واعدادهم ونوعية أسلحتهم، عبر "مراسيل" أو إخبارات سريعة في مختلف مناطق سوريا، إضافة الى تسريع بعض المصالحات التي كانت ما زالت عالقة.
وكائناً ما كان سير الأمور فهي حُكماً لصالح الدولة السورية والرئيس الأسد، وصفعة مدوِّية من روسيا ومعها محور المقاومة، الى أميركا بالدرجة الأولى، والى الغرب الذي سيعاني من مئات الإرهابيين المتسللين إليه مع اللاجئين، وصفعة لتركيا ولأحلام السلطنة لدى أردوغان، وهي صفعة لإسرائيل لأنها وضعت حداً لغطرسة تدخلاتها في الجنوب السوري، والصفعة الكبرى للسعودية التي لن تتمكن من ردّ الصفعات المتتالية سواء من الصراعات الداخلية للعائلة المالكة، أو من العراق واليمن أو من الجنوب مع اليمن، أو من إيران والدول الإسلامية التي ستعمل على نزع الصفة عن آل سعود وولايتهم على أرض الحرمين الشريفين بعد فضيحة التقصير في حماية حجاج بيت الله الحرام، والأمور تتسارع بحماوة نحو صياغة شرق أوسط جديد يعيد خلط الأوراق بعد الفيلم الأميركي الطويل، والبطولة في الشرق لم تعُد لأميركا...