لم يكن لدى جرار في هذه الرحلة سوى الكاميرا، والهاتف، وهو ما جعله يتعرّض للكثير من المواقف الصعبة والمطاردة.
في عمله الوثائقيّ الجديد، الذي يعكف عليه حالياً في ألمانيا التي وصلها في رحلة تقصٍّ ومعايشة ومتابعة لمجموعة من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين من جزيرة ميتيليني اليونانية، لمدة قاربت الشهر، صوّر خلالها المخرج الفلسطيني خالد جرار أكثر من 45 ساعة.
اللجوء الثاني
«رغبت في توثيق رحلة اللجوء الثانية للفلسطينية الحاجة نادرة الهواري وعائلتها. كانت نكبتها الأولى العام 1948 حين هُجّرت من مدينة الناصرة إلى سوريا - كان عمرها تسع سنوات ـ وسكنت مخيم اليرموك هناك، وعندما تركت المخيم قبل عام، لجأت إلى تركيا»، يقول جرار الذي استغرق تخطيطه للرحلة والوصول إلى العائلة أكثر من ثلاثة أسابيع.
يشرح أنه وصل بالطائرة إلى جزيرة ميتيليني اليونانية في السابع من أيلول الماضي، و «هناك التقيت بعائلة نادرة الهواري، التي كانت قد لجأت إلى اسطنبول، حيث عاشت عاماً كاملاً باحثة عن وسيلة لتهريبها إلى أوروبا».
وفي مطلع أيلول، انطلقت العائلة من إسطنبول في باص صغير، «قسمهم المُهَرِّب إلى مجموعات ليتمّ إعادة تجميعهم في نقطة مجهولة، ليُبحر بهم أحد اللاجئين الذي أُجبر على قيادة القارب المحمل بثلاثة أضعاف حمولته بعدما تعلّم القيادة في عشر دقائق فقط».
وبعد تسع ساعات قضاها خالد في الجزيرة اليونانية، تلقّى اتصالاً من منى، ابنة الحاجة الهواري، أخبرته بوصولهم الجزيرة التي كان عليهم قطع مسافة تزيد على عشرة كيلومترات للوصول إلى أوَّل منطقة مأهولة.
صعد جرار، مخرج الفيلم الوثائقي الطويل «المتسللون» (2012)، برفقة المهاجرين في باخرة يونانية في السابع من الشهر الماضي، بعد يومين من الانتظار في الشارع.
مطاردة الكاميرا
لم يكن لدى جرار في هذه الرحلة سوى الكاميرا، والهاتف، وهو ما جعله يتعرّض للكثير من المواقف الصعبة والمطاردة. وعن هذه المواقف يقول: «ذات مرّة كنت أصوّر المعاملة القاسية والوحشية في اليونان، فحاول أفراد من الشرطة مصادرة كاميرتي الخاصة، لكني نجحت في الهروب والاختباء مع عائلة سورية، ومن ثم صعدت الباخرة مستغلاً الفوضى العارمة، والتحقت بعائلة الهواري في رحلة طويلة في الباخرة مع أكثر من 2500 لاجئ».
يواصل المخرج الفلسطيني سرد جانب من المعاناة الإنسانية بعدما وصلوا أثينا، قائلاً: «بعد ساعة انتظار جاءت حافلة حديثة أقلّتنا لسبع ساعات، إلى أن وصلنا الحدود مع مقدونيا، وهناك كانت في استقبالنا شرطة الحدود اليونانية التي كانت تنظم الباصات؛ ومن ثم سرنا مسافة سبعة كيلومترات، نزولاً وصعوداً».
وصل الجميع إلى سكة القطار المتهالك «ذي الرائحة الكريهة، لمسافة طويلة جداً». وفور نزول اللاجئين من القطار، وجدوا متطوعين مقدونيين من أهل القرى المجاورة، زوّدوهم بالأكل والماء، ومن ثمّ مشوا بلا توقّف مسافة أربعة كيلومترات في طريق شاقةٍ ووعرة، وكانوا يتناوبون في دفع الحاجة نادرة على الكرسي المتحرك إلى أن عبروا الحدود الصربية.
و«بعد أيام في مخيمات أشبه بالمعتقلات، تحرّكت القافلة مرة أخرى، وما إن وصلنا بلغراد حتى تسابق علينا السائقون والمهرّبون.. كان من الصعب علينا تمييز الصالح من المحتال، فكلّهم في نهاية الأمر يريدون نقودنا أو ما تبقّى منها».
في صربيا سجّل خالد قصصاً مرعبة عن سائقي التاكسي الذين قال إنّهم «يأخذون اللاجئين إلى منطقة معزولة، لتأتي عصابة بالاتفاق مع السائق وتنهب ما تبقى من مال وعتاد وأمتعة، تحت تهديد السكاكين».
واستطاع جرار تصوير أكثر من 45 ساعة «في ظروف غاية الصعوبة»، وكانت مسألة نفاد شحن بطاريات الكاميرا الخاصة به مشكلة حقيقة استعان بها بجهازه الحديث الـ «آيفون». ويؤكد جرار أن التعامل مع اللاجئين في هنغاريا، على سبيل المثال، كان يتصف بازدواجية، «فأمام عدسات المصورين ووسائل الإعلام كان التعامل إنسانياً، لكن بعد أن يركب اللاجئون حافلات الشرطة يظهر الوجه القبيح لرجال الأمن هناك».
الكاميرا مرة أخرى!
وصل جرار مع اللاجئين إلى الحدود النمساوية، وتحديداً مدينة هيجي شالوم، حيث استقبلهم بعض المتطوعين الذين ودعوهم في آخر نقطة في هنغاريا، وزعوا عليهم الملابس والماء وبعض السندويشات، وفي هذه الأثناء هجم شرطي هنغاري عليه، وسحب منه الكاميرا، وطلب منه مسح المواد المصورة، فما كان منه إلّا أن حاول التمويه، وبعد إصرار الشرطي رفض جرار حذف المواد المصورة، فأخذ يصرخ طالباً الصليب الأحمر.
أكمل جرار المشوار ومن معه، ومشوا مسافة أربعة كيلومترات لعبور الحدود النمساوية، وصلوا إلى محطة القطار في مدينة جور، ثم إلى فيينا، محاولين اعتلاء آخر قطار إلى ميونخ، غير أنّهم فشلوا في ذلك لاكتظاظه، وعدم توفّر أماكن شاغرة، فذهبوا إلى مقر خاص بالمتطوعين، ليجدوا هناك أكثر من 700 مهاجر.
وبعد نوم استمر أربع ساعات، استقلّوا الحافلة الأخيرة التي تتبع الجيش السويسري، ليتم نقلهم إلى محطة القطار المتجه إلى سالسبورغ، برفقة الشرطة الألمانية، ثم ميونخ، ومن ثم إلى دورتموند.
وما إن استكملوا الإجراءات، ونال المخرج جرار قسطاً من الراحة، استيقظ ليجد نفسه إلى جانب الحاجة نادرة، وابنتها منى التي أصبحت تفكر بلمّ شمل ابنها وزوجها.