21-11-2024 05:01 PM بتوقيت القدس المحتلة

تركيا، من سلطنة "الرجُل المريض" الى دولةِ رجُلٍ مريض!

تركيا، من سلطنة

اقل ما يُقال عن تركيا في عهده أنها ستحتفل عام 2016 بمئوية قيام كيانها الحالي على أنقاض أمبراطورية الرجل المريض، ولن يكون وضعها في المستقبل أفضل حالاً تحت سلطة رجلٍ مريض.



أمين أبوراشد

على هامش الإجتماعات التركية – الإسرائيلية التي أفضت عام 2010 الى التوقيع على 60 إتفاقية دفاعية بين البلدين، أجمع بعض الباحثين الأتراك والصهاينة على أن مشاورات ثنائية عُقِدت بين مسؤولي البلدين، قاربت حدود الهواجس المصيرية والمخاطر الدائمة التي تواجهها تركيا من مختلف التنظيمات والأحزاب الكردية سواء في الداخل أو على حدودها الجنوبية نتيجة الحلم الكردي بإقامة كيانٍ مستقلّ، والهواجس المصيرية الأقسى التي تُعانيها إسرائيل من حدودها الشمالية مع لبنان، بعد عامي 2000 و 2006 في مواجهة حزب الله.

وإذا كانت إسرائيل قد لامست حدود التوبة في المغامرات مع لبنان، نتيجة توازن الرعب، فليس لها من منظور القانون الدولي مع لبنان أي حقّ، لا بل أن للبنان عليها حقوق في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ومسألة استعادة هذه الحقوق ترتبط بالتوقيت والظروف التي تراها المقاومة مناسبة، لكن وضع تركيا معقَّد ومتشعِّب منذ انهارت الأمبراطورية العثمانية التي لُقّبت في  أيامها الأخيرة، بـ"الرجل المريض" وجاءت إتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 قاضيةً، وفرضت عليها قيوداً ترتبط بحظر إستخراج الطاقة ومنح الأقليات العرقية حقوقها، وتلتها معاهدة "سيفر"عام 1920 التي أكَّدت على حقوق الأكراد، الى أن جاءت معاهدة لوزان عام 1923 وألغت مفاعيل "سيفر" بضغطٍ من بريطانيا التي اعتبرت أن إقامة دولة كردية في الجنوب التركي يمنح القوة للإتحاد السوفياتي آنذاك، وهذا ما يُشكِّل خطراً على المصالح البريطانية.

ومع قرب استحقاق مرور مئة سنة على إتفاقية سايكس –  بيكو عام 2016، أطلَّ نائب رئيس الوزراء التركي نعمان قورطلموش في مايو/ أيار الماضي، للتبشير بأن المنطقة قادمة على سايكس – بيكو ثانية تُقسِّم المقسَّم وتجعل الدول العربية أكثؤ تَفَتُّتاً، بحيث تُقسَّم كلٌّ من مصر وليبيا الى دولتين، والعراق ثلاث دول، وسوريا الى عشرات الدويلات، ولم يُفصح عن مصدر معلوماته، وعمَّا إذا كانت نتيجة استقراء للامر الواقع على الأرض، ام أن اقواله ونبوءاته جاءت استنادا الى معلومات مؤكدة استقاها من الدوائر الغربية وحلف الناتو، وأيَّاً كان المصدر فإن ما أدلى به قورطلموش ينطوي على الكثير من الاهمية والخطورة معاً، لجهة النوايا التركية بعد مرور مئة عام على سايكس –  بيكوالأولى، والدور التركي المعروف في لعبة إعادة رسم الخرائط وتفتيت الكيانات العربية وإنشاء الإسرائيليات.
تصريحات قورطلموش إستمدَّت  بعض مصداقيتها من تقارير إقليمية جرى تداولها، وتُحذِّر من مخطط تركي سعودي قطري يرمي الى اقامة دولة في شمال غرب سورية تكون مدينة حلب عاصمة لها، في خطوة تمهيدية لحصر النظام السوري في منطقة الساحل الشمالي، حيث مخزون التأييد الرئيسي له بعد ان فشلت محاولات اسقاطه عسكريا، خاصة أن تكثيف دعم المثلث السعودي التركي القطري لما تُسمَّى المعارضة السورية المسلحة بالمال والسلاح هو الذي أدى الى استيلائها على مدينتي إدلب وجسر الشغور والاستعداد لخوض معركة الاستيلاء على مدينة حلب من جهة، وسيطرة داعش على تدمر تحت أعين الأميركيين من جهة أخرى.

وبما أن التدخُّل الروسي جاء حازماً وقد يكون حاسماً في تجميد لعبة رسم الخرائط سواء في سوريا أو العراق، ولو أن  بعض الكيانات العربية ما زالت تقف في طابور التقسيم والتفتيت، فإن تركيا التي نجت من التقسيم في سايكس- بيكو الأولى لن تنجو من الثانية، أو على الأقل لن تنجو من أجواء "ربيعية" قادمة إليها حتماً نتيجة الحقائق الديمغرافية والجغرافية والمذهبية التي باتت مشابهة لسورية والعراق.

مشكلة تركيا بدأت يوم تخلَّت عن إرث مصطفى كمال أتاتورك، وتحديداً على يدِ رجب طيب أردوغان الذي يتهيأ لجعل تركيا دولة قوية تستحق أن تحتفل في العام 2023 بقيامها كدولة مستقلة قوية ومتماسكة كما أرادها أتاتورك، لكن حنين أردوغان الى الزمن العثماني لا يبدو أنه سيسمح بوصول تركيا الى إحتفالية مئويتها وهي بخير، بعد أن ضرب أردوغان بعرض الحائط كل المبادىء التي بنى عليها المؤسس أتاتورك تركيا الحديثة، خاصة بعد أن وضع يده على الجيش ويطمح لتطبيق النظام الرئاسي والتفرُّد بالسلطة، مع استمرار أحلام السلطنة لديه والجموح لإقامة منطقة عازلة في شمال سوريا تبقى مرتعاً له وعلى قياسه مخططاته.

وأمام إستحقاق الإنتخابات المقررة في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، والتي يؤكد رئيس حكومة الإنتخابات  أحمد داود أوغلو أنها لن تؤجَّل على خلفية تفجيرات أنقرة الأخيرة، فإن التطورات الأخيرة في الداخل التركي تؤشِّر الى جملة معطيات سوف تؤثر مباشرة على نتائج الإنتخابات، خاصة بعد بروز معطى جديد يتمثَّل بنتائج التدخُّل الروسي على الوضع في تركيا.

حزب العدالة والتنمية الحاكم يرغب بتصوير الوضع للناخب التركي وكأنه هو الحزب الوحيد الضامن لإعادة الأمن الى تركيا في حال فوزه بالأغلبية البرلمانية، وحزب الشعب الجمهوري يعتبر أن التفجيرات الأمنية هي نتيجة السياسات الخارجية الخاطئة لأردوغان ويُطالب بإستقالة وزيري العدل والداخلية على خلفية التفجيرات الأخيرة، وحزب الشعوب الديموقراطي الكردي يُعلن عن وقف العمليات في الداخل التركي من جانبٍ واحد كي يسهِّل مسألة الإنتخابات ويدرأ عنه إتهامات أردوغان، وحزب الحركة القومية ليس مستعداً للقبول بمبدأ دخول الأكراد الى البرلمان ولا هو راضٍ عن مغامرات أردوغان الخارجية.   
وكائناً ما كانت نتيجة الإنتخابات فإن لدى أردوغان في الداخل التركي وعلى الحدود مع سوريا شبحٌ مُرعبٌ إسمه المكوِّن الكردي، الذي لن تُنسيه إتفاقية لوزان حقوقه بالحكم المحلي المنصوص عليها في إتفاقيتي "سايكس – بيكو" و"سيفر"، وسوف يستمر الأكراد بمحاربة تركيا أردوغان من الداخل والخارج لنيل هذه الحقوق، وربما على تركيا أن تكون حاضرة لربيعٍ عربي أكثر قساوة من "ربيع العرب" إذا استمر أردوغان في المراوغات والمغامرات التي ستكون تركيا من دافعي أثمانها الباهظة، نتيجة رهانات دولية وإقليمية أكبر من حجم تركيا ومن قدرات رجُل يحكمها بالتسلُّط والتخبُّط والإرتجال، ولديه براغماتية تُلامس الإنفصام، لأنه في الداخل يُمارس دور المُسلِم الملتزم بتطبيق ما يُراعي الشريعة الإسلامية، وهو المسلم المعتدل حتى العلمانية عندما يُحاكي أوروبا والناتو، وهو القومي التركي عندما يعقد اتفاقات مع إسرائيل، وهو الأصولي المتشدَّد في دعمه للأخوان المسلمين في مصر والجماعات المتشددة في سوريا وليبيا والصومال، وأقل ما يُقال عن تركيا في عهده أنها ستحتفل عام 2016 بمئوية قيام كيانها الحالي على أنقاض أمبراطورية الرجل المريض، ولن يكون وضعها في المستقبل أفضل حالاً تحت سلطة رجلٍ مريض...