قد لا يكون من الغريب القول إنّ قضيّة ثورة الإمام الحسين (ع) على طاغية زمانه تُعدّ بحقّ واحدةً من أهمّ الوقائع التاريخيّة المقتداة اليوم كنموذج للثورة والثوّار على اختلاف مشاربهم.
قد لا يكون من الغريب القول إنّ قضيّة ثورة الإمام الحسين (ع) على طاغية زمانه تُعتبر بحقّ واحدةً من أهمّ الوقائع التاريخيّة المقتداة اليوم كنموذج للثورة والثوّار على اختلاف مشاربهم. بل قد ذهب البعض – من المنتمين لخطّ الولاء لأهل البيت (ع) – إلى اعتبارها حركةً معياريّةً بحسبها تُحدَّد مشروعيّة أيّ حركة، مع لحاظ الفوارق المتعلّقة بعوامل الزمان والمكان. إلّا أنّه قد يجب أمام هذا الواقع أن نعيد، وبشكل مستمرّ، قراءة الخلفيّة المعرفيّة لحركة الإمام (ع)، لأنّا نوقن قاطعين أنّ حراكه ما كان عبثًا، بل استند إلى عوامل معرفيّة منجّزة، تعود قراءتها بالنفع على صعيد ترسيخ أهداف ثورته المباركة. فالحسين الثائر يرتكز قيامه على كونه الحسين العارف، فلا بدّ لذا من لحاظ جنبة المعرفة القائمة في نفس هذا الثائر، بكلّ أبعادها.
حسين السعلوك / موقع معهد المعارف الحكمية
والكلام على أبعاد للمعرفة تلك مردّه إلى أنّ مدخليّة المعرفة في حركة الثورة إنّما تتجلّى في وجوه، أوّلها المعرفة بالواقع والدراية به، وثانيها معرفة الأحكام الشرعيّة والضوابط الدينيّة المتعلّقة بمسألة القيام على الحاكم، وثالثها معرفة الغاية والمصير من القيام. فالأولى هي ما يمثّل عامل الدعوة والحثّ على القيام، لأنّه لولا وجود واقع مأساويّ يدعو للقيام، أو مع فرض وجود هذا الواقع دون الدراية به، فإنّ مصير أيّ قيام سيكون الفشل والاندثار.
وسيغدو حال الداعي إليه كحال السائر على غير الطريق، فلا تزيده كثرة السير إلّا بعدًا عن مقصده. أمّا الثانية فهي التي تعزّز الحراك بعاملَي الشرعيّة والمشروعيّة، لأنّ وجود الواقع الداعي والدراية به لا يكفيان للقيام إن كان مؤدّى ذلك مخالفة حكم الشريعة الضابطة لسلوك الأفراد، لأنّ إصلاح الفساد لا يكون بإفساد آخر أكبر منه، وإلّا فعن أيّ معنى من الإصلاح يكون الكلام؟! وأمّا الثالثة فهي محور الحراك والمحدّد الأساس لمدياته وأدواته وسائر عناصره، والذي على أساسه يقاس حجم التضحيات.
ولا يحتاج عارف بالحسين (ع) إلى ما يثبت له توفّره على جوانب المعرفة كلّها، لأنّه سلام الله عليه الإمام المنصوص العالم بشؤون زمانه، الأعلم بأحكام الشريعة الربّانيّة، والأقدر على تحديد السبل الموصلة إلى تحقيق الغايات. إلّا أنّ ما نبغيه في هذه الوريقات إنّما هو تسليط بعض ضوء على مسألة معرفته بالغاية، والكلام على الغاية في خصوص فعل المعصوم لا بدّ أن ينقسم إلى مستويين: الغايات الدنيويّة؛ والغايات الأخرويّة، لأنّ غاية أيّ حراك للمعصوم – بل أيّ فعل من أفعاله – لا تنحصر ببعد الدنيا وما فيها من مكتسبات مادّيّة ومعنويّة، على ما لهذا البعد من أهمّيّة، بل إنّها تتعدّاه لتشمل بعدًا أسمى متعلّقًا بعالم الغيب وهو الذي نحبّ أن نصطلح عليه تسمية غاية الغايات وهو الوصول إلى الله سبحانه ومعرفته بالمعرفة الشهوديّة.
ولأنّ ضيق المقام لا يسمح بالخوض في مسألة تقديم صورة عن محدّدات معرفة الحسين (ع) بالله، التي كانت هي دافع حراكه ضدّ الفساد، كما والعامل الذي بسببه بذل سيّد الشهداء ما بذل، دونما حساب للتضحيات في إزاء تحقيق مرضاة الله سبحانه، فإنّا سنحصر الكلام في تحديد أهمّيّة عامل المعرفة بالله سبحانه عند الإمام الحسين ومركزيّته، ثمّ تحديد موقعيّة هذه المعرفة في حركة الإنسان المؤمن التي تتبدّى باللحاظ الأوّليّ في ثلاث موقعيّات سنحصر الكلام حولها وهي:
المعرفة بالله كغاية للوجود.
المعرفة بالله كوسيلة للارتقاء.
المعرفة بالله كمقدمة للعبوديّة.
وإنّا لا نجد في سبيل مقاربة هذه المسألة مصدرًا أوضح من كلام الإمام نفسه، الذي عبّر من خلاله في غير موقف عن أهمّيّة هذه المعرفة وتجذّرها في صميم تلك الذات المقدّسة، لذلك سنعمد إلى اقتفاء بعض موارد كلامه لنستنتج منها الفوائد ونطرحها في سياق البحث.
المعرفة بالله كغاية للخلق والوجود
إنّ أوّل سمة يمكن للمراقب المطّلع على سياق طروحات الأدبيّات الإسلاميّة استنباطها هي أنّ معرفة الله سبحانه قُدّمت فيها كغاية أساسيّة من غايات الخلق، بل لعلّها في بعض الموارد اعتبرت الغاية الرئيسيّة، التي في سياق بلوغها تقع بقّية الغايات الفرعيّة.
وفي تحديد هذا المعنى تضافرت آيات الكتاب الكريم مع روايات أهل بيت العصمة (ع) فتقدّم طرح متكامل يوضح هذا المعنى ويثبته في أكثر من مورد. ومن بين ذلك قد نجد في كلام الإمام الحسين (ع) الكثير ممّا يشير إلى هذا المعنى، وإلى القارئ نقدّم بعض النماذج.
ورد في دعاء عرفة المنسوب للإمام الحسين (ع) قوله: "إِلهِي عَلِمْتُ بِاخْتِلافِ الآثارِ وَتَنَقُّلاتِ الأطْوارِ أَنَّ مُرادَكَ مِنِّي أَنْ تَتَعَرَّفَ إِلَيَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى لا أَجْهَلَكَ فِي شَيْءٍ". وهو كلام يجدر بنا الوقوف عليه والتأمّل فيه طويلًا لما يحويه من معانٍ سامية تطال تحديد الإمام (ع) لغاية خلق الآثار واختلافها من جهة، ثمّ لكيفيّة بلوغ هذه الغاية من جهة أخرى.
فأمّا عن الغاية، فواضحة بيّنة في تعبير الإمام بأنّ مراد الله منه التعرّف إليه، فالله سبحانه يريد من كلّ تلك المخلوقات المتباينة والآثار المتنقّلة أن يتعرّف لعباده، ليعرفوه بها، ويستدلّوا عليه بها، فالآثار المختلفة، وتنقّلاتها في الأطوار إنّما هي صورة يراد منها الاستدلال على مصوّرها ومبدعها، فغاية إيجادها وإبداعها على ما هي عليه إنّما كانت تدليلها على ذلك الموجد المبدع، وإلّا فإنّ الاستغراق في معايشة هذه الآثار ومراقبتها دون ربط لها بمبدئها الواحد الأوّل وارتيادها طريقًا للوصول إليه إنّما هو أمر مذموم، فكما قال إمامنا في فقرات من الدعاء نفسه: "إِلهِي تَرَدُّدي فِي الآثارِ يُوجِبُ بُعْدَ المَزارِ فاجْمَعْنِي عَلَيْكَ بِخِدْمَةٍ تُوصِلُنِي إِلَيْكَ".
وأمّا عن كيفيّة بلوغ الغاية، فالكلام السابق عن أنّ ما تبصره العين المادّيّة من آثار خلقيّة مختلفة وتغيّرات حركيّة مستمرّة إنّما هدفه إبصار العين القلبيّة لموجد تلك الآثار والتعرّف عليه بالتفكر فيها، كمصوّر وكمدبّر، أفاض وجود الموجودات المختلفة واستنّ لها سننًا مطّردة محدِّدة لحركتها، فتصوَّرَ بذلك نظام الكون المتكامل كأبدع صور الجمال التي لا تتأتّى إلّا عن مطلق الإبداع؛ ذلك الكلام يستبطن دعوةً جادّةً للتفكّر، إذ استعمال الإمام لعبارة "علمت" دالّ على أنّ الوصول من لحاظ وجود الموجودات إلى المعرفة بالموجد إنّما يتخلّله إعمال فكر ونظر، وهو التفكّر الذي دعت إليه آيات القرآن في موارد عديدة. ومن بين الموارد المؤازرة لقول الإمام السابق ودعوته للتفكّر والنظر في عناصر الكون وموجوداته في سبيل بلوغ غاية معرفة الموجد قول الله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصّلت/ 53]، وهو بيان صريح مشير إلى مسلك من مسالك معرفة الله عبر رؤية الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة كسبيل لمعرفة الحقّ واستبيانه.
ولعلّ ما مرّ كافٍ لإيضاح موقعيّة المعرفة بالله كغاية دعت التعاليم الإسلاميّة إلى اكتناهها، وحدّدت السبيل إلى ذلك فلا نزيد لضيق المقام.
المعرفة بالله كوسيلة للارتقاء في سلّم الوجود
بعد تحديدها كغاية أساسيّة للوجود، تقع المعرفة في موقع آخر يتكامل مع موقعها الأوّل السابق الذكر، في سبيل تحقيق السعادة الأخرويّة للنوع الإنسانيّ، وهو كونها وسيلةً يرتقي بها الإنسان وتنفتح معها مداركه المعرفيّة فيتعرّف إلى حقيقة الوجود والموجودات. فبعد أن فهم دورها في المرحلة الأولى كغاية للوجود، وسعى هنالك لبلوغها، فهو يقف الآن في موقع العارف المستند إلى معرفته في إزاء لحاظ الوجود والاشتغال فيه.
ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى أنّ مفهوم المعرفة بالله مفهوم مشكّك يقع في رتب ومستويات متفاوتة، فلا يجري الحديث عنها كأمر يُقبض عليه فيناله القابض بالتمام، بل إنّ السير في خطّ معرفة الله مسير لا متناهٍ، يمتنع معه بلوغ نهاية، إذ السبر في غور المطلق مطلق، لا حدّ له ولا أمد. ولعلّ من أدلّ الشواهد على هذا المعنى قول النبيّ المصطفى صلّى الله عليه وعلى آله – والذي يعتبر دون خلاف أعرف الناس بالله وأقربهم منه سبحانه – "إلهي ما عرفناك حقّ معرفتك"[1]. وبناءً على ما تقدّم نشير إلى أنّ المرحلة الثانية – والتي هي التصرّف في الوجود بحسب ما اكتُسب من المعرفة – إنّما يكون بحسب الرتبة المعرفيّة التي بلغها العارف، كما أنّ بلوغه هذا المستوى لا يعني انقطاعه عن المستوى الأوّل، فالعارف في هذا المستوى يتصرّف بما تمليه عليه معرفته، ويسعى في الآن نفسه إلى بلوغ مراتب أرقى من المعرفة.
وفي هذا السياق يقدّم إمامنا الحسين (ع) في دعاء عرفة المسبوقة الإشارة إليه معنًى للمعرفة يجعلها فيه وسيلةً لبلوغ غايات الاستخلاف الإلهيّ، في تقديم بديع منه لمرحلة الإنشاء الإلهيّ للإنسان الخليفة، الذي يكون كمال بلوغ الحجّة عليه إلهامه معرفته سبحانه. فالإمام يباشر بادئ ذي بدء الكلام عن الإعداد الأوّليّ السابق على الوجود فيقول: "إِبْتَدأتَنِي بِنِعْمَتِكَ قَبْلَ أَنْ أَكُونَ شَيْئاً مَذْكُوراً، وَخَلَقْتَنِي مِنَ التُرابِ، ثُمَّ اسْكَنْتَنِي الأصْلابَ، آمِناً لِرَيْبِ المَنُونِ، وَاخْتِلافِ الدُّهُورِ وَالسِّنِينَ، فَلَم أَزَلْ ظاعِناً مِنْ صُلْبِ إِلى رَحِمٍ فِي تَقادُمٍ مِنْ الأيَّامِ الماضِيَةِ وَالقُرُونِ الخالِيَةِ"، وهي مرحلة من الإعداد الإلهيّ تتعلّق بإيجاد القابل، الذي يحوي كلّ خصائص الموجوديّة على نحو ما بالقوة، لينتقل بعدها في كلامه إلى مرحلة الخلق والانتقال بما بالقوّة إلى ما بالفعل فيقول: "فَابْتَدَعْتَ خَلْقِي مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى وَأَسْكَنْتَنِي فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ بَيْنَ لَحْمٍ وَدَمٍ وَجِلْدٍ، لَمْ تُشْهِدْنِي خَلْقِي، وَلَمْ تَجْعَلْ إِلَيَّ شَيْئاً مِنْ أَمْرِي ثُمَّ أَخْرَجْتَنِي لِلَّذِي سَبَقَ لِي مِنَ الهُدى إِلى الدُّنْيا تامّاً سَوِيّاً"، وفيها كما يلاحظ القارئ تصوير دقيق لمراحل الخلق الدنيويّ، فبعد أن أوجده في مرحلة ما بالقوّة حيث لم يكن شيئًا مذكورًا، أخرجه الآن إلى الدنيا بشرًا تامًّا سويًّا، والبيان.
هذا يقدمه الإمام (ع) في سياق ذكره النعم الإلهيّة الحاقة بالإنسان من قبل وجوده، وتعتبر المرحلة المسبوقة الذكر تمهيدًا لمراحل أخرى يذكرها الإمام ويشير فيها إلى إنعام الله على عبده بتعطيف قلوب الأمّهات الرواحم، والحفظ من الشرور، والسلامة من الزيادة والنقصان، ليختم المطاف ببلوغ هذا الإنسان مرحلة اكتمال الفطرة، التي هي المرتكز الأول لتحقّق أيّ معرفة عند الإنسان، والسند الأساس للإنسان لفهم الحجج الإلهيّة وبلوغ أهليّة الاستخلاف الإلهيّ، يقول: "حَتَّى إِذا اكْتَمَلَتْ فِطْرَتِي وَاعْتَدَلَتْ مِرَّتِي أَوْجَبْتَ عَلَيَّ حُجَّتَكَ بِأَنْ أَلْهَمْتَنِي مَعْرِفَتَكَ وَرَوَّعْتَنِي بِعَجائِبِ حِكْمَتِكَ، وَأيْقَظْتَنِي لِما ذَرَأْتَ فِي سَمائِكَ وَأَرْضِكَ مِنْ بَدائِعِ خَلْقِكَ وَنَبَّهْتَنِي لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَأَوْجَبْتَ عَلَيَّ طاعَتَكَ وَعِبادَتَكَ وَفَهَّمْتَنِي ما جاءتْ بِهِ رُسُلُكَ وَيَسَّرْتَ لِي تَقَبُّلَ مَرْضاتِكَ، وَمَنَنْتَ عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذلِكَ بِعَوْنِكَ وَلُطْفِكَ". وكما لاحظت، فالإمام (ع) جعل المعرفة المرتكزة على اكتمال الفطرة واعتدال المِرّة داعيًا لإيجاب الحجج الإلهيّة، وبالتالي وسيلةً لبلوغ الأهليّة للاستخلاف، إذ هو يستتبع كما قرأت المعرفة بمعاني كاليقظة والتنبّه والفهم، وكلّها واقعة في السياق السابق.
من هنا فمعرفة الله تقع كمقدّمة أساسيّة ووسيلة ضروريّة لبلوغ مقام الخلافة، في الوقت نفسه الذي تبقى هي غايةً للوجود، في علاقة التزاميّة بين تحقّق المعرفة وتوظيفها من جهة، وبلوغ مراتب أعلى من المعرفة من جهة أخرى.
المعرفة بالله كمقدّمة للعبوديّة
ثمّ بعد كلّ ما مرّ، تقع المعرفة بالله، التي كانت في المقام الأوّل غاية الوجود، ثمّ في الثاني وسيلةً لعبور باب الارتقاء في الوجود، تقع في هذا المقام الثالث، بحسب الإمام الحسين (ع)، كمقدّمة لتحقّق العبوديّة بمعناها الأصحّ عند الإنسان.
فعامل المعرفة على أهمّيّته لا يكتمل دون ترتّب الآثار عليه، وقد لفت إمامنا إلى هذا المعنى في واحدة من بدائع كلماته حيث يقول: "أيّها الناس، إنّ الله عزّ وجلّ ذكره ما خلق العباد إلّا ليعرفوه"، وهذا توكيد منه على المعنى السابق من مركزيّة المعرفة كغاية أساسيّة للخلق، إلّا أنّه يكمل في سياق متّصل محدّد لحقيقة وأثر تلك المعرفة فيقول: "فإذا عرفوه عبدوه واستغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه"[2]، والإشارة واضحة إلى أنّ المعرفة يجب أن تقع كمقدّمة لعوامل أخرى أهمّها تحقّق العبوديّة الحقيقيّة لله.
والإمام (ع) إذ يطرح هذه الوجهة، فإنّما يطرحها لما تتّسم به العبوديّة لله سبحانه من كونها سبيل الصلاح الأوحد الذي يجب على الأفراد – بل على الأمم – انتهاجه في سبيل صلاح شؤون الدنيا والآخرة، لما يعود به ذلك عليها من منفعة على صعيد تأسيس نظام قيميّ متكامل يرتكز على العبوديّة لله ويقدم منظومة القيم الأخرى كالحرّيّة والعدالة ورفض الظلم وغيرها.
ولعلّ من أسمى التجارب المشيرة إلى هذا المعنى تجربة صاحب الكلام السابق، الذي قدّم في قيامه ضدّ الظلم والطغيان نموذجًا عمليًّا مكتمل المعالم لما أسّس له نظريًا في كلمته السابقة. فهو بعد أن تحقّقت عنده أسمى مراتب المعرفة بالله سبحانه، قام لله في مواجهة الطغيان، وبذل في هذا السبيل كلّ غالٍ، بل أصبح بذله هذا هيّنًا في الحسبان لأنّه بعين الله. فالحسين العارف بالله هو وحده من بإمكانه أن يقدّم كلّ تلك التضحيات دونما عبء أو شعور بخسران.
إنّ هذه تعتبر بحقّ واحدةً من أهمّ الاستفادات العمليّة التي قدّمها إلينا إمامنا الحسين (ع) والتي لا زالت تنتهجها في أيّامنا هذه حركات ثوريّة إسلاميّة تجعل الحسين (ع) منارة دربها وقدوتها الأولى، في سبيل تحقيق خير الدنيا والآخرة.
كلمة ختام
لعلّ ما قدّمناه قد يكون يسيرًا من كثير ممّا قدّمه الإمام الحسين (ع) من معارف ومواقف يجب الوقوف عليها والتعلّم منها، وإنّ ما كتب في هذه الورقات القليلة لا يعتبر إلّا دعوةً لإعادة قراءة فكر الإمام الحسين (ع) وعرفانه، لأنّ ذلك سبيل أساسيّ لا بدّ من سلوكه لمعرفة المباني النظريّة الأساسيّة لثورته وحركته، وذلك، كما أسلفنا في المقدّمة، أمر ضروريّ لحفظ معالم ثورته المباركة والاستفادة منها في سبيل إصلاح الأرض وإعمارها، وتمهيدها لتكون بيئةً مهيأةً لحفظ نور العصمة والولاية بظهور قائم آل محمّد عجّا الله فرجه فيها، وبلوغها بذلك غاية كمالها إذ الأرض كلّها لله، وسيورثها من يشاء من عباده بعد تحقّق القابليّات فيها بأن نمهّدها لذلك.
[1]
[2] موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع)، إعداد محمود شريفي وآخرين (قم: دار المعروف، 1993)، الصفحة 540.