سيِّدة بلجيكية كانت في زيارة سياحية للعراق منذ نحو ثلاثين سنة تقول: "ذهبت لزيارة كربلاء لأتعرَّف على مراسم عاشوراء، رأيت الدموع تنهمر غزيرة من الحشود الهائلة، لكني قرأت في عيونهم القوَّة وفي سواعدهم العزم..
لا بدَّ بداية من التنويه بنقطين:
أولاً: إن إعتلاء آلاف المسيحيين من رجال دينٍ ودنيا المنابر العاشورائية عبر تاريخنا المعاصر، ليس من قبيل العلاقة الإنسانية وتبادل الواجبات الإجتماعية كما في الأضحى والفصح والميلاد والإفطار الرمضاني المشترك، بل تأتي مشاركة المسيحيين في عاشوراء من منطلق التفاعل مع الفكر النهضوي للإمام الحُسين عليه السلام، والإضاءة من منظور إنساني شمولي على الثورة الحسينية، وتأكيد واجب وجودها في كل زمان ومكان، حاضرةً في الثقافة المجتمعية وفي الوجدان، من منطلق الحاجة الى استلهامها طالما على الأرض ظالمٌ ومظلوم.
أمين أبوراشد/ موقع المنار
ثانياً: إن المسيحيين يعتبرون أن الإختلاف في تفاصيل إحياء مشهدية مراسم عاشوراء بين منطقة وأخرى، وبيئة وأخرى، هو نفسه في ذكرى الجمعة العظيمة وإحياء ذكرى صلب السيد المسيح، ويذهبون في قراءة القاسم المشترك بين آلام السيد المسيح فداء للبشر ورُسُل السلام من بعده، وبين استشهاد الحُسين للغاية نفسها ومن سار على نهجه من بعده>
وكما يقول المفكِّر أنطوان بارا في كتابه "الحسين في الفكر المسيحي": في صدر المسيحية صَلَب مجنون روما نيرون، تلميذيّ السيد المسيح بطرس وبولس جزاء ادخالهما المسيحية الى روما، وكذلك فعل يزيد بالإمام الحسين.
قد يكون للمستشرقين بعضٌ من الفضل في عولمة الفكر الحُسيني، لكن كبار علماء الإجتماع والمفكِّرين في الغرب، استلهموا فكره في معرض بحثهم عن "الظواهر العجائبية" التي فعلت فعلها في المجتمعات على امتداد قرون، ونقرأ بعضاً مما كُتِب عن "الحُسين الظاهرة التاريخية" لأن المقالة الواحدة أصغر من أن تختصر بعض العناوين:
- "لو كان الحسين منَّا لنشرنا له في كل أرضٍ رايةً، ولأقمنا له في كل أرضٍ منبراً ولَدَعونا الناس الى المسيحية بإسم الحسين" (أنطوان بارا).
- "وهل ثمة قلب لا يغشاه الحزن والألم حين يسمع حديثاً عن كربلاء؟ وحتى غير المسلمين لا يسعهم إنكار طهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلِّها" (المستشرق إدوارد دبروان).
- يقال في مجالس العزاء أن الحسين ضحَّى بنفسه لصيانة شرف وأعراض الناس، ولحفظ حرمة الإسلام، ولم يرضخ لتسلُّط ونزوات يزيد، إذاً تعالوا نتخذه لنا قدوة، لنتخلص من نير الاستعمار، وأن نفضِّل الموت الكريم على الحياة الذليلة"(موريس دو كابري).
- "حقاً، إن الشجاعة والبطولة التي أبدتها هذه الفئة القليلة، بحيث دفعت كل من سمعها إلى إطرائها والثناء عليها لا إرادياً، هذه الفئة الشجاعة الشريفة جعلت لنفسها صيتاً عالياً وخالداً لا زوال له إلى الأبد"( المستشرق برسي سايكوس).
- "إن ميتة الشهداء التي ماتها الحسين بن علي، قد عجلت في التطوُّر الديني لحزب علي، وجعلت من ضريح الحسين في كربلاء أقدس محجَّة" ( المستشرق كارل بروكلمان).
- إن مأساة الحسين بن علي، تنطوي على أسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعي (جون أشر)
- "إن اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي، وهو العاشر من محرَّم اصبح يوم حداد ونواح عند المسلمين، وفي مثل هذا اليوم من كل عام تمثل مأساة النضال الباسل والحدث المفجع الذي وقع للإمام الشهيد، وغدت كربلاء من الاماكن المقدسة في العالم واصبح يوم كربلاء وثأر الحسين صيحة الاستنفار في مناهضة الظلم" (المستشرق فيليب حتّي).
سيِّدة بلجيكية كانت في زيارة سياحية للعراق منذ نحو ثلاثين سنة تقول: "ذهبت لزيارة كربلاء لأتعرَّف على مراسم عاشوراء، رأيت الدموع تنهمر غزيرة من الحشود الهائلة، لكني قرأت في عيونهم القوَّة وفي سواعدهم العزم، وبدوا وكأنهم يزورون الحسين ليس فقط للصلاة، بل للتزوُّد بالعزم على مواصلة طريقه في النضال من أجل العدل، إنهم قومٌ لا بدَّ مُنتصرون".
ولعل الفرادة التاريخية التي ميَّزت الظاهرة الحُسينية التي قامت على خلفية تطبيق عدالة الدين في المجتمع لنُصرة المظلومين، أن كافة الأديان تعرَّضت خلال التاريخ لإنقسامات طائفية ومذهبية وبقيت ضمن الإطار الديني البحت، بينما تميَّزت ظاهرة الحسين بأن جعلت الدين مرجعاً عادلاً لإدارة المجتمعات، وتحرير الناس من خوف المطالبة بالحق، وتعميم الإنصاف بينهم وتحقيق ذلك بإسمهم، وإستلهام الأنظمة والقوانين الوضعية التي تُراعي المتغيِّرات عبر العصور، واعتماد سيرة الحسين نبراساً لمسيرة "الولي الفقيه" في إدارة شؤون الدولة واحتضان هموم الناس وتطوير المجتمعات نحو الأفضل، وقد تكون الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي الدليل الأكبر والتجربة الأعظم، في كيفية دمج التاريخ الحسيني المقاوِم للظلم والإستكبار في الأزمان الغابرة، بدستورٍ عصري وثقافة قومية قائمة على المبادىء الحُسينية لدولةٍ نهضوية عظيمة تُجاري أرقى الدول المتطورة في حداثة الكيانات المعاصرة، من أجلِ شعوبٍ طامحة للعدالة الإجتماعية ضمن الكرامة الإنسانية المقدَّسة...