ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة،
ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
انتهى موسم الحجّ السنويّ، وبدأ الحجّاج يعودون إلى بلادهم بعد أن أدّوا أعمالهم مجتمعين، لم يفرّق بينهم تنوّع بلدانهم ومواقعهم الاجتماعيّة وألوانهم ومذاهبهم وأفكارهم، كانوا يطوفون معاً، ويسعون معاً، ويبيتون معاً، ويرجمون الشّياطين معاً، ويضحّون معاً، ولسانهم الواحد يدوّي: "لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك لبّيك"...
ولكن ماذا بعد، هل عاد الحجّاج ليؤكّدوا المعاني الكبيرة الّتي عاشوها خلال أدائهم لهذه الفريضة، ليحرِّكوه في كلّ ساحاتهم الّتي تضجّ بالخلافات العائليّة والعشائريّة والمذهبيّة، ليؤكّدوا على النّقاط المشتركة الكبيرة بينهم الّتي عاشوها خلال أداء هذه المناسك، وينبذوا كلّ ما يوتِّر علاقة بعضهم ببعض، أم أنَّهم يعودون إلى بلادهم، ليرجع كلٌّ منهم إلى موقعه سالماً، تاركاً وراءه كلَّ المعاني الرّوحيَّة والإيمانيَّة، وكلَّ هذا الإحساس بأنَّهم مهما تباعدت بلدانهم وتنوَّعت مذاهبهم، فإنّهم أمّة واحدة المطلوب منها الكثير...؟!
إنّنا نريد للحجّ كما أراده الله، أن يؤكّد معاني الوحدة في واقعنا، الّذي مع الأسف، يضجّ بألوان الخلافات الّتي تعصف به، وغالباً ما يجد الّذين لا يريدون خيراً لهذه الأمّة، كلّ الفرصة لبعث الحياة في هذه الخلافات وتحريكها، وهذا ما نشهده، حيث اللاعبون الدّوليّون يملكون القدرة على العبث بواقعنا وإثارة الفتن فيه.. ولا نجد أيّة حركة مضادّة بالمستوى الّذي تقف فيه أمام كلّ هذا الواقع، سواء من قِبَل المنظّمات الإسلاميّة كمنظّمة التّعاون الإسلامي، أو الجامعة العربيّة، أو حتى المواقع الدينيّة، خلا بعض المبادرات الفرديّة الّتي تنطلق من هنا وهناك..
وهذا ما أدَّى إلى كلّ ما نعانيه، حيث سقطت بعض قضايانا، وقد يسقط المزيد، في الوقت الّذي نملك العديد من مواقع القدرة والقوّة والثّروات، وقد جرّبنا أن نستعملها وأن نحرّكها، فأنتجت الكثير ممّا يحقّق مصالحنا، وتستطيع أن تنتج أكثر.. لهذا، مزيداً من الوحدة كي لا تستمرّ المعاناة، والمعاناة كبيرة.. مزيداً من الحج الواعي، الحج الذي يترك أثراً..
والبداية من فلسطين، حيث لا يزال الصَّهاينة يمعنون قتلاً واغتيالاً وسفكاً للدِّماء البريئة، ويواصلون قمعهم واعتقالهم للمزيد من أبناء الشَّعب الفلسطيني، الّذي يريدون له ألا يعيش حتّى حلم الدّولة، ولو كانت ضمن حدود الـ67، أو كانت لا تملك قرارها السياسيّ والأمنيّ، وألا يظهر كشعبٍ يتطلّع لصوغ مشروعه وتحقيق أمانيه، حتى على مستوى الانضمام الطبيعيّ إلى منظّمة اليونيسكو العالميّة.
في هذا الوقت، يجهد العدوّ في الاستفادة من كلّ دقيقة يعيش فيها العرب والمسلمون انشغالاتهم الرّسميّة وخلافاتهم فيما بينهم.. وما يجري في داخل بلدانهم، ليعملوا على تغيير معالم القدس واستهداف المسجد الأقصى، والزّحف استيطانياً نحو بقيّة المواقع في الضفّة الغربيّة. ومع الأسف، يحدث ذلك من دون أن يكلّف مجلس الجامعة العربيّة نفسه الاجتماع من أجل فلسطين، في الوقت الّذي يُبقي اجتماعاته متواصلةً لحساباتٍ أخرى، ومن دون أن يبرز موقف حاسم على مستوى الأمَّة لمواكبة جهود الشّعب الفلسطينيّ الحيّ وصموده، وكأنّه أصبح واقعاً منسيّاً لا يذكر إلا في المناسبات..
إنّنا في الوقت الّذي نؤكّد أهميّة العمل لحلّ كلّ الملفّات الداخليّة التي تتعلّق بالدول العربيّة والإسلاميّة، والعلاقة فيما بينها، لكن بما يضمن المصالح العربيّة والإسلاميّة، لا بما يخدم إملاءات الآخرين ومصالحهم، ندعو إلى ضرورة إبقاء القضيّة الفلسطينيّة في الواجهة، واعتبارها أمّ القضايا، لأنّ الخسارة في فلسطين تعني الفجيعة والكارثة على مستوى الأمَّة كلّها...
وننتقل إلى موقعٍ آخر ليس بعيداً عن فلسطين، وتحديداً سوريا، الّتي لا تزال تعيش جرحها النَّازف والمستمرّ، حيث لا تزال التدخّلات الخارجيَّة، وخصوصاً الأمريكيَّة، تعمل على عدم الاستقرار لهذا البلد، وقد برز ذلك من خلال الدّعوات الأمريكيّة إلى الإبقاء على دائرة العنف والاستمرار في التسلّح، في الوقت الذي يحتاج إلى تطوير واقعه الداخلي بما يضمن للشعب فيه الأمان والاستقرار...
إنّنا لا نزال ندعو إلى أن تنطلق لغة الحوار بكلّ جديّة وموضوعيّة، وإلى دراسة واعية لكلّ النّتائج التي تترتّب على استمرار هذا الواقع الدّامي، ليصل هذا الحوار إلى تأمين حاجة الشّعب إلى الحريّة والأمان والاستقرار، وبقاء سوريا في موقعها المناوئ للسياسة الاستكباريّة المرسومة للمنطقة.. وندعو كلّ الّذين يعملون للحلول، أن يراعوا في حلولهم مصلحة هذا الشّعب وحاجاته، وإبقاء الموقف قويّاً في وجه طغيان الاستكبار الّذي لا يريد خيراً بسوريا وبأيّ دولة عربيّة أو إسلاميّة، بل يريدون لكلّ هذه الدّول أن تكون في خدمة مصالحهم وبقاء الكيان الصّهيونيّ هو الأقوى..
ونصل إلى البحرين، هذا البلد الّذي كنّا نأمل لو استبدلت السّلطة فيه لغة العنف والقمع المستمرّ بلغة الحوار الهادف مع شعبها، هذا الشّعب الّذي لا يريد إلا الحريّة والعيش الكريم.. إنّنا نعيد التأكيد على ضرورة إعادة لغة الحوار، اللّغة التي تراعي هواجس الجميع، وتؤدّي إلى تعميق الوحدة الإسلاميّة والوطنيّة، وهذا هو السبيل الوحيد لإخراج البحرين من واقعها، وعدم جعلها تدخل في التجاذبات الإقليميّة والدّوليّة..
وليس بعيداً من هذا الواقع، نرى في التَّهديدات الأخيرة الّتي استهدفت الجمهوريَّة الإسلاميَّة، سواء كانت تهديدات صهيونيّة أو أمريكيَّة أو أوروبيَّة، وإعادة فتح الملفّ النوويّ الّذي طالما أكّدت الجمهوريّة الإسلاميّة على سلميّته، محاولةً جديدةً للاستفادة من حال اللاتوازن الذي تعيشه الأمّة، للضّغط على هذا الموقع الذي يقف صلباً أمام السياسة الاستكباريّة في المنطقة، ويحمل همّ القضيّة الفلسطينيّة، ويؤازر كلّ قوى المقاومة والممانعة، من دون الحديث عن أكبر ترسانةٍ للأسلحة والقنابل النوويّة في المنطقة داخل كيان العدوّ، الّذي يمثّل تهديداً لأمن المنطقة والعالم.
إنّنا ندعو الشّعوب العربيّة والإسلاميّة إلى وعي هذا الأمر والتنبّه إلى خلفيّاته، وعدم الخضوع لكلّ الإثارات والحساسيات المذهبيّة وغير المذهبيّة الّتي تسهّل فرصة الضّغط على هذا الموقع الإسلامي، لأنّ قوّة إيران هي قوّة للعرب وللمسلمين، ولن تكون يوماً ما مشكلةً لكلّ جيرانها والمحيطين بها..
وعلى كلّ العرب والمسلمين أن يتنبّهوا إلى أنّ السّماح باستهداف أيّ بلد إسلاميّ، سيوفّر الفرصة لاستهداف بلدٍ آخر.. لذا المطلوب من هذه الشّعوب، أن تقف صفّاً واحداً أمام كلّ قوى الهيمنة في العالم، مع سعيها لحلّ المشاكل العالقة فيما بينها، وإزالة كلّ الهواجس الّتي تعيشها، ونعتقد أنّ سبل الحلّ ليست صعبة...
أمّا لبنان، الّذي لا يزال يعيش وسط المراوحة بين الضّغوط الخارجيّة على خلفيّة تلبية الالتزامات الدّوليّة، وأزمته الاقتصاديّة والمعيشيّة الضّاغطة، فعلى الحكومة فيه أن تخرج من حال الرّكود واللامبالاة، وأن تفتح صفحةً جديدةً مع العمال والموظّفين، لتكون مناسبة إقرار الموازنة الجديدة محطّةً لإنصافهم، ومناسبةً للخروج بالبلد من حال الجمود إلى واقع المبادرات والحلول، هذا إلى جانب العمل على حلّ الملفّات العالقة، وعدم إبقاء البلد في حالة انتظار للمتغيّرات، لأنّ الهروب من ملامسة القضايا الأساسيّة، وإخضاعها لمنطق التأجيل، سوف يجعل البلد هامشاً من الهوامش على ضفاف الأزمات المتفاقمة في المنطقة، وسيتركه رهينةً لحسابات الخوف الدّاخليّة الّتي قد تكون السبب في سقوطه أمام العواصف والزّلازل الآتية من المحيط...
إنّنا نشدّد على المسؤولين أن يخلصوا لمسؤوليّاتهم، وأن يقوا البلد من كلّ الفتن التي يراد له أن يسقط تحت تأثيرها، والّتي تساهم في تأجيجها الحدّة الّتي يمارسونها في خطابهم السياسيّ وسجالاتهم وكلماتهم.. إنّنا ندعو المسؤولين إلى الارتقاء بخطابهم السياسيّ وكلماتهم إلى مستوى صعوبات هذه المرحلة، وأن يخرجوا من حساباتهم الآنيّة، إلى القضايا الأساسيّة المتّصلة بمستقبل هذا البلد ومصيره...
لقد آن للّبنانيّين أن يرتاحوا، أن تهدأ أعصابهم، أن ينعموا ببلدهم، لا أن يتركوه ساحةً يستطيع الآخرون أن يتلاعبوا فيها بحريّة، مستفيدين من الحساسيات والصّراعات...