23-11-2024 03:06 AM بتوقيت القدس المحتلة

تاريخ اليمن في مرمى الحقد الوهابي: تدمير ممنهج للآثار

تاريخ اليمن في مرمى الحقد الوهابي: تدمير ممنهج للآثار

لم تسلم المواقع الأثرية في اليمن، ذي الحضارة الضاربة في التاريخ، من حمم العدوان السعودي ومن التدمير الممنهج الذي ينفذه تنظيم «القاعدة» أيضاً.

 لم تسلم المواقع الأثرية في اليمن، ذي الحضارة الضاربة في التاريخ، من حمم العدوان السعودي ومن التدمير الممنهج الذي ينفذه تنظيم «القاعدة» أيضاً. من صعدة إلى صنعاء ثم تعز فحضرموت، يزداد الخوف على التراث الثقافي والانساني في اليمن من بطش الفكر الوهابي، وسط لا مبالاةٍ من المنظمات الدولية إلا في ما ندر.

لم يكن التدمير الممنهج لحضارة اليمن وتاريخه وليد هذه الحرب بل سبقها بكثير. فقد تعرضت المواقع الأثرية اليمنية للعبث وللنبش، وتهريب المئات بل الآلاف منها للخارج، عبر المطارات والموانئ بصورةٍ أقل من التهريب الذي جرى عبر البرّ. ولا يحدّ اليمن برّياً سوى السعودية وعُمان، ولم يسجل على سلطنة عمان أنها قد اشترت أي قطع أثرية يمنية مهربة أو عرضتها في متاحفها، ما عدا الآثار التي تعود لأجزاء من مملكة حضرموت القديمة الواقعة داخل حدود السلطنة، بعد قيام الكيانات السياسية المتأخرة انتهاءً بترسيم الحدود الأخير، وهذا أمرٌ طبيعي.

                       Archaeological sites

عدنان باوزير/جريدة الاخبار

أما «الجارة الكبرى» فتعج متاحفها بالقطع الأثرية اليمنية التي يجري شراؤها من مهرّبي الآثار وتجارها غير الشرعيين، ويعرف الجميع أن هناك اتفاقات ومواثيق دولية سنّتها منظمة اليونسكو، تمنع هذا النوع من التجارة وتلزم أي دولة إعادة تلك المجموعات إلى وطنها الأم حتى إن الكثير من تجار الآثار المهرّبة يزوّرون القطع الأثرية ويصدّرونها إلى السعودية.

أما الطامة الكبرى فهي عرض المتاحف السعودية تلك الآثار اليمنية على أنها آثار تعود لـ «حضارة المملكة». وهذا شيء مثير للسخرية لأن ذلك يفقد هذه الآثار قيمتها الفعلية، فنحن نعرف أن العديد من متاحف العالم الكبرى مثل «اللوفر» الفرنسي و»البريتش ميوزييم» البريطاني، و»الآرميتاج» الروسي وغيرها، تمتلك مجموعات أثرية يمنية، كما تمتلك مجموعات أخرى تعود لحضارات الشرق القديم الأخرى وشتّى حضارات العالم، لكنها على الأقل تنسب تلك المجموعات إلى حضاراتها الأصلية، كما نراها تقدّم خدمات لتلك الآثار عبر ترميمها أو توثيقها وتصويرها، واجراء الأبحاث المتعمقة عنها، ونشر تلك الدراسات وغير ذلك من الأمور التي قد تحفظها.

ذلك على عكس ما يفعله جيران اليمن، الذين يأخذون بصورة غير شرعية الآثار والمخطوطات الأثرية والتاريخية اليمنية، ما يشجّع المخربين والمهرّبين وتجار الآثار على فعل المزيد، ثم يعرضون كل ذلك باسمهم، ولا يقدمون أي شيء يذكر لليمن. كاتب هذه السطور شارك في لجنة دعتها وزارة الخارجية اليمنية لتتسلّم مجموعة من الآثار اليمنية التي ضُبطت في السعودية، والتي سلّمتها السفارة السعودية في صنعاء إلى اليمن.

سبقت هذه الدعوة حملة إعلامية ضخمة، صورت هذه المجموعة وكأنها «كنز لا يقدر بثمن»، وأن من بينها قطعا ذهبية سبأية قديمة، لكن الدهشة كانت كبيرة عندما سلّمت السفارة عبر الخارجية اليمنية تلك المجموعة التي كانت عبارة عن بعض الفتافيت البرونزية الصغيرة، والقطع الصغيرة جداً من الأحجار التي لا تساوي شيئاً كقيمة أثرية. وهذه كانت المرة الوحيدة التي أعادت فيها السعودية «بعض القطع الأثرية» المهرّبة.

وحين بدأت «عاصفة الحزم»، جرى استهداف مختلف رموز حضارة اليمن وتاريخه على نحو مباشر وغير مبرر، وبما لا يمكن تفسيره سوى بأنه عقدة دونية تجاه هذا التاريخ، وحقد بدوي عميق ومدمّر.

الاستهداف الحربي المباشر

منذ بدء الحرب في آذار الماضي، استهدفت طائرات العدوان وصواريخه أهدافاً حضارية تعددت بين مواقع أثرية محمية بموجب القانون، ومعالم تاريخية ومتاحف بما فيها المتحف الوطني في صنعاء ومساجد قديمة، أشهرها مسجد الإمام الهادي في صعدة، وهو مؤسس المذهب الزيدي في اليمن، ويعد مسجداً تاريخياً بامتياز، لا يزال يؤمه المصلّين، وهو شاهد مهم على حقبة تاريخية ماضية، ويعود تاريخ بنائه إلى القرن الثالث الهجري.

كذلك تعرضت مدينة صعدة القديمة التي تعد من أفضل النماذج عن شكل وطبيعة وعمارة وتخطيط المدن الإسلامية، لغارات جوية ما أدى إلى تدميرها، مروراً بسدّ مأرب الأثري العظيم المعروف عالمياً، الذي اقترنت هندسته الراقية بعظمة حضارة الإنسان اليمني المكافح. ولا يفوتنا هنا تسجيل هذه المقارنة التي تعد بحد ذاتها مفارقة كبيرة، فقد تولى الاحتلال الحبشي الهمجي في القرن السادس الميلادي ترميم هذا السد العظيم، كما يوثق ذلك أحد نقوش المسند، المحفور على احد حجارة جدار السد الضخمة، بينما يتولى مشروع الاحتلال السعودي، قصف هذا الأثر والشاهد التاريخي الأهم.

كذلك، استهدف العدوان أكثر من مرة مدينة صنعاء القديمة المدرجة على قائمة التراث العالمي الإنساني المهم، والواجبة حمايته والحفاظ عليه، التي تعد رمزاً للهوية اليمنية قاطبة، وبينهما عشرات المواقع الأثرية المسجلة، والمراكز الدينية كالمساجد والأضرحة والقبب، والحصون والقلاع والجسور والمعالم التاريخية المختلفة، على نحو متعمد لا بسبب مجرد خطأ عابر، بل ومتكرر في بعض الأحيان، حيث يتعرض الهدف نفسه للقصف لأكثر من مرة من دون أي مبرر مقنع.

ونكتفي هنا باستعراض نحو 25 موقعا من المواقع الأثرية المختلفة التي تعود لحقب زمنية متنوعة، منذ العصور الحجرية مروراً بعصر الحضارات التي سبقت الإسلام، وحتى العصور الإسلامية المتعددة، وانتهاء بمواقع الموروث الثقافي المتأخرة التي تتفاوت نسب وحجم الضرر الذي لحق بها.

وكانت الهيئة العامة للآثار والمتاحف اليمنية الحكومية، التي تعد الجهة الرسمية المخولة بموجب القانون حماية تلك المواقع والحفاظ عليها، قد أعدت جداول رسمية حصلت «الأخبار» عليها، حيث تولى المتخصصون من طاقمها إعداد هذه الجداول ورفعها إلى منظمة اليونسكو العالمية، كجهة دولية أولى مسؤولة عن حماية هذا التراث الإنساني، وعدد من المنظمات العربية والدولية ذات الاختصاص، وفقاً لما أفادنا به رئيس هيئة الآثار والمتاحف اليمنية، مهند السياني، الذي سافر إلى باريس لحضور اجتماع بهذا الخصوص مع اليونسكو خلال تموز الماضي.

ولن يحتاج المرء إلى كثير من الوقت أو التفكير ليميّز تخاذل هذه المنظمة في تعاطيها مع هذه القضية، على نحو ملحوظ ومسيّس بامتياز، وله أن يقارن هذا الموقف بقضايا مماثلة أخرى، كقضية نسف «القاعدة» لتمثال بوذا في أفغانستان الذي تداعى من أجله كل العالم مثلاً وغير ذلك من الحالات الأخرى.

الاستهداف غير المباشر عبر «القاعدة»

دأب تنظيم «القاعدة» على استهداف عدد من المعالم الدينية والتاريخية، بحجة أنها موروثات «شركية» تتعارض مع فكر «التوحيد» الوهابي المستحكم والمنغلق، حيث عمد إلى استهداف عدد من الأضرحة والقبب والمشاهد الدينية القديمة في عدد من مدن حضرموت، التي يسيطر عليها حالياً، ولا سيما في مدن المكلا والشحر وغيرهما، كقبة ولي الله الصالح يعقوب في المكلا عاصمة حضرموت، وضريح المحجوب في المدينة نفسها، وأضرحة أخرى في مدينة الشحر القريبة، إضافة إلى مشاهد أخرى لا مجال لذكرها هنا.

ما يغيّب شواهد كثيرة عن تاريخ المنطقة ويهدد وحدة النسيج الاجتماعي والديني في البلاد، فضلا عن إهانة شريحة كبيرة من الشعب هي الأغلبية، وأضرار جمالية وأخلاقية كثيرة أخرى، بل حتى إن قبور رمزية لبعض العمال الصينيين من غير المسلمين، الذين ماتوا أثناء بناء أحد الجسور الرئيسية في المكلا، بمساعدة من الحكومة الصينية لحكومة اليمن الجنوبي في سبعينيات القرن الماضي، لم تسلم هي الأخرى من العبث والتدمير والجرف!

ولا ضرورة لتكرار أن فكر «القاعدة» ما هو إلا نسخة من الفكر الوهابي، الذي يشحن يومياً وعبر منابره المتعددة للتحريض على سلوك كهذا، وعلى تكريسه في وعي الأجيال، بل إن السعودية الرسمية القديمة (الدولة السعودية الأولى) قد وصلت طلائع جيوشها إلى مشارف حضرموت، وهدمت وحطّمت مثل هذه الأضرحة والمشاهد، فأين العجب مما يجري اليوم؟

وبعدما دمر متحف أبيَن الحديث خلال حملة حكومة عبد ربه منصور هادي ضد «القاعدة» قبل أكثر من عام، تتعرض متاحف أخرى للتهديد بنسفها، مثل متحف المكلا الواقع حالياً في نطاق «إمارة القاعدة الإسلامية» برغم خلو المتحف بالكامل من أي أصنام او تماثيل وثنية قديمة، ما يعني غياب حجة التنظيم للتدمير، إذ تنتمى أمعظم مجموعة الأثرية والتاريخية في هذا المتحف إلى عصور زمنية لاحقة.