تضع أميركا كلاً من "النصرة" و"داعش" في قائمة التنظيمات الإرهابية، وتشكل مجموعاتٍ أغلبها من هذين التنظيمين بمسميات جديدة، لحمايتها من الملاحقة، وعندما يطلب منها الروسيّ تحديد التنظيمات التي تراها معتدلة تهرب إلى الأمام.
يحاول بعض النقاد والمحللين السياسيين وصف الاستراتيجية الأميركية بأنها تفتقر إلى الرؤية السليمة، أو تتميز بقصر النظر وعدم الوضوح والتخبّط وعدم الاتزان، في محاولة ربما لإضفاء صفة الغباء على الأداء الأميركي في المنطقة والعالم. فهم مثلاً يتخذون من إعلان الإدارة الأميركية عن فشلها في اختيار معارضة سورية معتدلة يمكن الركون إليها مثالاً على قصر نظر الإدارة الأميركية وعدم وضوح الصورة لديها.
طلال ياسر
ولكن هذا الأمر في الحقيقة هو ما تحاول الإدارة الأميركية فعلياً ترسيخه في أذهان المراقبين لسياساتها، حيث تبرّر تعمّدها إرسال أسلحة إلى المنظمات الإرهابية على اختلافها في سورية بأنها أخطأت في دعم فصيل ما أنفقت على تدريبه وتأهيله مبلغ خمسمئة مليون دولار، كما أشارت مؤخراً في سياق حديثها عن فشلها في تدريب مجموعة معتدلة مكوّنة من نحو سبعين شخصاً تمّ تدريبهم ثم لم يتبقّ منهم سوى خمسة أشخاص.
وفي هذا على وجه الحقيقة نوع من الغباء لا يمكن لأحد أن يوافق عليه في الحديث عن دولة رغم كل ماضيها الدموي تجاه العرب والعالم، إلا أنها لا تزال شريكاً أساسياً وفاعلاً في رسم السياسات الدولية، فمن غير المعقول أن نقتنع ببساطة أن ما قامت به واشنطن طوال السنوات السابقة من نشر الفوضى والحروب والنزاعات في العالم هو مثال على عبثية وغباء سياسي، لأن هناك مشروعاً أميركياً في المنطقة والعالم تسعى الإدارة الأميركية إلى تسويقه بكل الوسائل والسبل، وتالياً لا يمكن لأحد أن يصدر للإدارة الأميركية صك براءة من كل الأحداث الدموية التي جرت مؤخراً في منطقتنا على الأقل بمجرّد إعلانها أنها أخطأت مثلاً في دعم فصيل معيّن في الحرب على سورية، فهي تعلم يقيناً أنها تقوم فعلياً بالسيطرة على المنطقة بحروب بالوكالة عبر مجموعات من المرتزقة قامت هي بتهيئتهم مسبقاً لاستخدامهم في حروبها على الشعوب والأنظمة التي ترفض الانصياع لأوامرها والدخول في عهد طاعتها.
ومن هنا لا نستطيع أن نتحدّث عن قصر نظر لديها في هذا الإطار، بل هو نوع من الدهاء السياسي المبنيّ على استغباء الآخر وجعله يظن أن الإدارة الأميركية فعلاً قد أخطأت في تقدير الأمور، وأنها لم تكن تريد في الحقيقة تدمير الدول أو القضاء عليها وإشاعة الفوضى فيها. وهذا ما حاولت مؤخراً الحديث عنه في حوارها مع الجانب الروسي الذي تعاطى فعلياً مع الأميركي على مبدأ أن الاستغباء الذي تمارسه الإدارة الأميركية يمكن أن ينطبق على حلفائها الذين يسيرون في فلكها، ولكنه لا ينطبق على الأقطاب الجديدة الصاعدة في العالم.
فجميع الدول تستطيع أن تستعمل الأسلوب ذاته في سياستها الخارجية وليس ذلك حكراً على الأميركيين، وهذا يفسّر لجوء الروسي إلى الدخول بهذه القوة في مكافحة الإرهاب الذي تفشى في كل من سورية والعراق، حيث تعمّد الرئيس الروسي القول إن الإرهاب الذي جاءت روسيا لمحاربته في سورية هو ذاته الإرهاب الذي تعمل الإدارة الأميركية على محاربته في المحافل الدولية، ولكن الفارق لن نتحدّث عنه بل سيلمسه جميع المراقبين، الأمر الذي عرّى بالفعل السياسة الأميركية في مكافحة الإرهاب وكشف عورتها في دعم المنظمات الإرهابية، لأنها لو كانت صادقة في ذلك لقامت بالفعل بالتعاون مباشرة مع روسيا من خلال إعطائها أهدافاً عسكرية للإرهابيين في سورية لتقوم الطائرات الروسية بالتعامل معها، أو بتحديد أماكن المعارضة المعتدلة التي تدّعي الإدارة الأميركية أنها موجودة ليحجم الطيران الروسي عن قصفها.
وهنا يظهر جانب آخر من اللعبة الأميركية في كل من سورية والعراق، وهو المراوحة بين أسماء التنظيمات بحيث يكون الفكر العامل وكذلك الأداء لدى جميع هذه المنظمات واحداً، ولكن يتمّ تغيير أسماء هذه التنظيمات بين الفينة والأخرى، فنرى مثلاً مقاتلين اليوم مع الجبهة الشامية ثم نجدهم غداً مع "داعش"، وفي اليوم الآخر نجدهم مع جيش الفتح وهكذا، لكي تتمكن الإدارة الأميركية من التعمية على أدائها الداعم للجماعات الإرهابية في المنطقة لأن الهدف في الحقيقة ليس الحرب على الإرهاب وإنما استخدام هذا الإرهاب في إسقاط الأنظمة وإشاعة الفوضى في المنطقة والعالم تمكيناً لهيمنتها ونصرة للمشروع الصهيوني الحقيقي الرامي إلى السيطرة على المنطقة والعالم.
إذاً؛ تعمل الإدارة الأميركية على التلاعب بالأسماء والمصطلحات للهروب أصلاً من مطابقة هذه المصطلحات والمسميات مع الواقع، ففي الوقت الذي تضع فيه كلاً من "النصرة" و"داعش" في قائمة التنظيمات الإرهابية، تشكل مجموعاتٍ أخرى على الساحة أغلبها من هذين التنظيمين بمسميات جديدة، لحماية هذه المجموعات من الملاحقة، وعندما يطلب منها الروسيّ تحديد التنظيمات التي تراها معتدلة حتى يتعامل معها بناء على ذلك تحجم وتهرب إلى الأمام. في دليل واضح على أن الإدارة الأميركية لا تريد فعلاً محاربة هذه المجموعات أو القضاء عليها، بل تريد استثمارها ظناً منها أنها ستبقى إلى ما لا نهاية مسيطرة عليها.
وهنا يمكن أن نتحدث عن الغباء أو القصور في الرؤية، أما ما تمارسه الإدارة الأميركية الآن وسابقاً من دعم سياسي وعسكري ولوجستي ومادي لهذه المجموعات فهو يتمّ عن سابق إصرار وتصميم وليس عن طريق الخطأ كما تحاول أن توحي، ولذلك فإن نشر الفوضى في العالم العربي والإسلامي وبالقرب من حدود كل من الصين وروسيا، لم يكن مجرد مصادفة، بل هو يدلّ على تمام الوضوح في الرؤية الاستراتيجية الأميركية وفق الخطة التي رسمتها سلفاً.
ولكنّها في الوقت ذاته لا تستطيع أن تمتلك كل أوراق اللعبة، ومن هنا جاء الخلط الروسي لهذه الأوراق بهذه الطريقة ليحدث إرباكاً لديها وشعوراً بأن هناك بالفعل من بدأ باللعب معها بالطريقة ذاتها، وهي لن تستطيع أن تتحدث عن هذا السيناريو لأنه سيكون بمنزلة فضيحة لها ولأهدافها.