الإمام علی (ع) كان مثال الحاكم العادل الحازم الذی لا یعرف المساومة علي أمور الناس وقضایاهم ومصالحهم، لا یعرف المساومة مع الطغاة والدهاة علي مصالح الدولة والأمة، ولذلك لم
في أجواء عيد الغدير الأغر نظمت المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في بيروت بالتعاون مع 'جامعة المصطفي العالمية' ندوة فكرية حول 'مفهوم النهضة في حكمة الإمام علي(ع)'، في 'معهد الرسول الأكرم (ص)' بالضاحية الجنوبية لبيروت. و شارك في الندوة كل من: رئيس كلية الفلسفة واللاهوت في جامعة القديس بولس الدكتور جورج خوام، المحقق الشيخ جعفر المهاجر، والشيخ عبد القادر ترنني. وحضرها حشد من الشخصيات الثقافية والسياسية والإعلامية والأكاديمية والطلابية، وعلماء دين مسلمين ومسيحيين.
وافتتح المستشار الثقافي الإيراني السيد محمد حسين رئيس زادة بكلمة اعتبر فيها أن يوم الغدير الذي أوصّي فيه النبي الأعظم(ص) للإمام علي بن أبي طالب(ع) بحمل راية الوحي، بأنه 'اليوم الفاصل في تاريخ الرسالة الإلهية'.
وقال: 'عيد الغدير هو يوم الولاية الإلهية، يوم وضع رسول الله(ص) ثقته الكبري بأقرب الناس إليه ليكون حامل الأمانة'. معتبراً أن الولاية بحسب ما تمثلت في شخصية الإمام علي(ع) 'هي عين العدل والحكمة'. مشيراً إلي أن حكمة الإمام (ع) تجلت في أنه رسم سبيل نهضة الأمة في القول والعمل. فكانت الولاية عنواناً للتوحيد والعدل والبراءة من الشرك'.
وشدد علي أن 'الولاية والإمامة في الإسلام ترتبط بالتوحيد ارتباطاً مباشراً فهي أشبه بالأصول منها إلي الفروع. وينبغي أن نتعامل معها بطريقة منطقية علي هدي كتاب الله وسنة رسول الله (ص). فالولاية تعتبر أساسا من أهم أسس فهم المجتمع الإسلامي. وهي الأصل الذي يتألف منه هذا المجتمع والذي يعبر عنه القرآن بالأمة الوسط'.
وخلص السيد رئيس زادة إلي أن 'الولاية كما مثلتها شخصية أمير المؤمنين (ع) تشكل اليوم عاملاً تثقيفياً ومعرفياً أساسياً في درء الفتنة وفتح الطريق للتقريب بين مذاهب الأمة الإسلامية وكذلك للتقارب والحوار الخلاق بين أبناء الأديان السماوية'. لافتاً إلي أن 'الأمة اليوم هي في أمسِّ الحاجة إلي الوحدة والوئام علي قاعدة التوحيد والعدل والعودة إلي منابع الحكمة الإمامية السامية'.
ثم تحدث العلامة الشيخ عبد القادر ترنني (من أهل السنة) فشدد علي أن 'النهضة عند الإمام علي (ع) هي امتداد للنهضة النبوية الإنسانية وترجمة لها علي أرض الواقع والظروف المتحولة، إنها نهضة سلام وهي في الوقت نفسه نهضة عدالة شاملة تغمر الدنيا من غير عنف'. معتبراً أن الإمام علي (ع) كان 'نهضة في سماء العلم والحكمة والمحكومية والحكم، ثم هو في كل سماء نهضة وأي نهضة!!.'
وتناول شخصية الإمام علي (ع) ، فلفت إلي أن الإمارة لم تكن مطلبه 'مع أنها كانت حقاً من الحقوق المستندة إليه وعهداً من العهود النبوية التي حفظها الناس عن ظهر قلب حين وقف النبي الأعظم (ص) خطيباً (في غدير خم) يقول بما لا يدع مجالا للشك: «من كنت ملاه فهذا علي مولاه»'.وقال: 'الإمام علي كان عملانياً وعميقاً بحيث جعل الخلفاء الذين سبقوه يقولون بلسان حالهم وقالهم: «لا أحيانا الله بأرض ليس فيها أبو الحسن»'.
وإذ أشار إلي شخصية الإمام علي (ع) الأمير والحاكم أكد أن القراطيس والكتب تعجز عن تدوين معالم نهضته الحية، 'فلم يعرف التاريخ أميرا كان كعلي رحمة وحزما، حتي إن الخارجين عليه كانوا أكثر الناس طمعا به بعدله بقسطه بكرمه بسماحته... لا يخافون منه نزقاً أو طيشاً أو خفة أو انتقاماً...'.
ولفت إلي أن الإمام علي (ع) كان مثال الحاكم العادل الحازم 'الذي لا يعرف المساومة علي أمور الناس وقضاياهم ومصالحهم، لا يعرف المساومة مع الطغاة والدهاة علي مصالح الدولة والأمة، ولذلك لم يقبل من معاوية مداهنته وصفقته التي أراد عقدها معه بحيث لم يرض به علي بلاد الشام أميراً يتخذ من الإمارة حرفة توسع نفوذه وتزيد نقوده وتملأ جيوبه...'.
وقال: 'إنني علي يقين من أن النبي الأكرم (ص) ولم يقرن محبة علي بالإيمان بغضه بالنفاق لمجرد أسم يحمله علي، أو صلة قربي لعلي بالنبي، أو لأن علياً بتمتع بقوة لا يتمتع بها سواه... أبدا لم يكن هذا هدف النبي (ص) وإنما أراد النبي أن يوجه الناس إلي المنهج الإسلامي النهضوي الصافي الذي يمثله علي من بعده لتكون محبته محبة الخط الذي يمثله، محبة الطريق الذي يسلكه محبة الهداية التي استقرت في كيانه'.
ثم تحدث مدير 'معهد القدّيس بولس للفلسفة واللاهوت' الأب الدكتور جورج خوّام فوصف حكمة أمير المؤمنين (ع) بأنها 'محطّ أنظار الخلفاء، وموئل أفكار الفقهاء، إن وردوا منابعها أوردت أفئدتهم، وأزهرت ألبابهم، وإن عبّوا من دفقها تعبّأوا من خفقها. نجزت مُثُل حكمته نواحي الخلق، وتسنّمت أغوار علمه قواصي الأفق. فمن أين لرامٍ العلياء ألاّ يرغب فيها، أو لجافٍ الغلواء ألا يرتدّ إليها؟ أوعبت بفيضها الدفّاق التوق إلي فوق، لدي من يشدّه الشوق إلي الخلد، ولم تكلّ عن غايتها في كلّ سانحة'.
أضاف: 'هي حكمة انسلّت من علُ إلي روح خالصة، فطاب فيها لها المقام، وأنِسَت منها رقّة خلق، ولطف حسٍّ، وإناسة طبع، وفراسة حِلْم، فاستكانت لها دهرًا، وعقدت معها عهدًا، لا تبارح الواحدة الأخري أو يلتقيا أبدًا. إيّاي أن أقرُبها بدون وجل، وقد أُقرِبْتُ منها علي عجل، فوكلت أمري لله العليّ أني لو أبطأت عن سبر كنهها يُبطئ دوني وقر حسابي، وأني لو تعجّلت في وصف حسنها لا يتعجّل في رصف أفعالي'.
ورأي الأب خوّام أن خطب الإمام (ع) هي 'بيّنات، دلائل علي نباهة ذهن اتّقد بالورع، وتخضّب مبكّرًا بالحصافة، يحاكي بها رشد الوجهاء. فأقبل علي الحضّ عن المساءة إلي الغير، وعلي الاجتهاد في مسالك الخير. آلمه الخروج عليه، والنكوص عن عهده، فلام وعنّف، وسام المتلكّئين من سهام غيرته مَوْجِعًا، ولم يزل يجاهد في سبيل النفوس يقوّمها، عارفًا بمُضِلّها، ويستحثّها لتنهض من كبوتها، مدركًا تقاعسها، ويستسلكها درب بارئها مختبرًا إيّاه، مجتنيًا ثماره، متحصّنًا قلاعه'.
وتطرق إلي زهد الإمام (ع) فقال: 'ما جعل إمام الأئمّة الزهد ملهي كلام، ولا مَعَسْل مقال، يطرّي به عود قومه، أو يحلّي بمثاله عجم شعبه. ما ارتاب صدقه، ولا اعتاب من أسلم له حياته. فقد أخذ به قبل أن يدعو به، واختبره عيشًا قانتًا، قبل أن يتدبّره وعظًا هاديًا...'.
وخلص الأب خوّام إلي القول: 'لدي الإمام عليّ وفر كثير من الكلام علي منازل الكمال في النفس، ومواطن الجمال فيها، لا قدرة لنا علي طرقها كلها، ولا طرف زعم من هذا القبيل لدينا: فهذا الكنز الذي اختزنته روحه، كما تختزن الآبار ماءها، نسغ عذب يسري في عبر الإمام وحكمته، فطنة وتبصّرًا، وحلمًا ومروءة، علي طول تعابيره وقصرها؛ وهو خير مورد لمن يستسقي دراية في أمور الحياة، ونعم المنهل لمن يستطيب مشربًا مسكوبًا ماؤه من معين العلي وينابيع الذري الإلهيّة. إن عرفت الناس كيف تنهض بأحوالها نزلته مسرعةً خطوها، وإن أعرضت باعدت، فآبت إلي موضعها، بئس مصيرها. وقد استشعر الإمام هذا النكوص عنه، ممّن حوله، في زمانه، فذمّه في خطبة القاصعة ذمًّا أليمًا، مسلّمًا أمره إلي ربّه، وقومه إلي هوي قلوبهم'.
واختتمت الندوة بكلمة للمحقق الشيخ جعفر المهاجر فلفت إلي أن النبي (ص) فعل في يوم الغدير كل ما يمكن لأجل ضمان استمرار مفعول الرسالة الخاتمة، 'ومع ذلك فشلت الأمة تحقيق وصيته'، موضحاً أن 'مقصود النبي’ من إعطاء الولاية لأمير المؤمنين (ع) هو رفع رتبة الإنسان ومرتبته، لكن الأمة فشلت في تحقيق هذه الرفعة وهذه المرتبة، فغلبت العصبيات علي أبناء الأمة'.
وقال الشيخ المهاجر: 'نحن الآن في قلب حدث غير عادي يتفاعل منذ ثلاثين سنة، يحمل لنا الجديد كل يوم، فمنذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران اكتشف الإنسان المسلم قوته لأول مرة في كل تاريخ النهضات. وبعدما كانت العصبيات هي التي تتحكم بالإنسان أصبح الإنسان بعد الثورة أعظم مثال للصبر والتضحية، فقد كان يسقط الشهداء بالآلاف ومع ذلك كان الناس ينزلون إلي الشارع كل يوم. ونحن نأمل أن يتشبث الناس بهذه الثورة ليُخلق إنسان جديد'.
وقارن الشيخ المهاجر بين موقف الإمام علي (ع) الذي رفض السلطة عندما جاءته يدي النخبة وقبل بها عندما جاءت من قبل الناس (بعد مقتل عثمان) وبين موقف الإمام الخميني قدس سره 'عندما سئل عما يريده بعد انتصار الثورة، فقال اسألوا الناس عما يريدونه وكان الاستفتاء الأول الذي وافق فيه الشعب الإيراني علي إقامة الدولة الإسلامية'.
وشدد علي وجوب التمييز بين الإمامة والسلطة موضحاً أن 'النهضة إنما تتحقق علي يد الإمامة لا السلطة وأئمتنا (ع) بنوا إنساناً حقيقياً وهم خارج السلطة بل كانوا ملاحقين من قبل السلطة'.